محمد المحسن
أمد/ -العالم مجرد حَبكة،والإعلام القوي المسيطر يستطيع أن يَحبِك روايته جيداً،ويجد لها ذرائعها الأخلاقية ومبرراتها الإنسانية،بل ويقوم بتأويل النصوص المقدسة لتكونَ ذريعةً أخرى بيده يستخدمها كمرافعةٍ وجيهة في وجه خصومه،ويستطيع أن يقدمها بطريقة باهرة ومثيرة ومغرية ومُغْوية،وهي بسبب انتشارها وقوة حضورها قادرة على التأثير والتغيير..(الكاتب)
تمهيد : الإعلام هو السلطة الرابعة وصوت من لا صوت له ومرآة الوطن والمواطن وهو أحد عوامل النصر أو الهزيمة والبناء والهدم والتقدم والـتأخر، الإعلام هو عنصر فاعل ومكون من مكونات الوعي والرأي والفهم ورادع للتمادي في ارتكاب الجرائم، الإعلام مكون أساسي من السياسة والفكر والثقافة، فإذا أصبح الإعلام مجرد ناقل للصورة فقط فمعنى هذا أنه لا يقوم بدور الارتقاء بالوعي.
لمَ لا نستجيب للمتغيرات العالمية وتنخرط في التاريخ، ليس بغرض الاستسلام لتراكماته ودراميته البسيطة،لكن لاعادة بلورته وصياغته والفعل فيه! لم ندرك بعد أن الإعلام سلاح متعدد الاغراض ولعل من أخطرها: الاختراق والهيمنة،وهذا ما يستخدمه الغرب ضدنا بدهاء متفاديا الحروب وإراقة دماء جنوده؟..!
أليس وطننا سوقا للاستهلاك: تجريبا وتخريبا، انطلاقا من إشباعنا بالمواد الاعلامية الهابطة مرورا بسياسة التمييع والتهميش..!
أليس بامكاننا الارتقاء بالخطاب الاعلامي العربي الى مرتبة التحديات التي يمليها ـالراهن الاعلامي الكوني طالما ان لأثر يائنا المال والنفط وبريق الذهب،ولمثقفينا الكفاءة الفكرية والأدبية ما يؤهلنا ـللتموقع ـفي الألفية الثالثة بإرادة فذة وعقول مستنيرة!
إن الحديث عن دور وسائل الاعلام ووظائفها في الوطن العربي لا يزال يريق الحبر الكثير لا سيما وأننا نمر بمرحلة متخمة بالتحديات، حيث يحتدم الصراع بين العرب في ـ الجنوب ـ وبين الغرب ـ في شمال العالم الصناعي المتقدّم بما من شأنه أن يدعونا الى ضرورة تأكيد الذات وإثبات الهوية عبر المحافظة على الأصالة وإنتاج الصورة الحقيقية والفاعلة لحضارتنا ففي ضوء الرؤية العالمية الجديدة للإعلام والتي حوّلته الى مكسب مادي يخضع لقواعد اقتصاد السوق تجد وسائل الاعلام نفسها مدعوة الى مزيد التحرر من قيود السيطرة والبيروقراطية كي يزداد دورها الإيجابي في خدمة الأهداف الوطنية والقومية والإنسانية وحتى تواكب وتعايش قضايا الشعوب واحتياجاتها بصورة أعمق وأقوى.ولعل من خلال طرحنا للتساؤلات التالية نستسيغ مدى أهمية وسائل الاعلام في تفعيل الواقع العربي الراهن محليا واقليميا ودوليا، ومدى قدرتها على مواكبة الراهن الاعلامي الكوني:
-إلى أي حد يمكن تخصيص قسط من الموارد المتاحة للدولة قصد استثماره في بناء ودعم النظام الاعلامي ؟
ـ ما هو مدى الحرية التي يمكن تقريرها لوسائل الاعلام أو ما هي حدود الرقابة على هذه الوسائل ؟
ـ هل للقطاع العام كما للقطاع الخاص دور فعال في التنمية الاقتصادية لوسائل الإعلام ؟
ـ ما هو مدى التماثل والتوافق المطلوب ؟
– وما هو مدى التغاير والتنوع المسموح به ؟
إن طرح هذه الأسئلة قطريا وعربيا أمر مؤكد،فالإعلام وفي عالم ما فتئت تزداد فيه الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية حيث يختل التوازن في تبادل الأنباء والأفكار فيما بينها، يحتاج الى أن يرتفع الى المستوى الاقليمي لمواجهة التسلط المفزع لوسائل الاتصال في الدول المتقدمة، مما يستوجب رؤية مغايرة لما عليه نظامنا الاعلامي اليوم،إذ لا بد من ايجاد معادلة حتى ولئن كانت عسيرة بين إتاحة المجال لاختلاف الآراء وتنوعها وإتاحة تلقي أفكار الثقافات المتعددة وتداولها،وبين ضرورة المحافظة على القيم الأصيلة للشعب وذاتيته القومية،فالتجربة أثبتت أن التناقضات سافرة،بين ما تمنحه دساتير معظم البلدان العربية من حريات: حرية التعبير وحرية الصحافة، وبين ما يشهده الواقع من ممارسات للتضييق على الصحافة وللحد من مقدار الحرية التي تتنفس من خلالها،وظلّت تبعا لذلك الشكوك تحوم حول إمكانية أداء الإعلام العربي لوظيفته المطلوبة وهي إشاعة الحرية والديمقراطية في الحياة العربية. إن الحاجة تدعو الى ترابط المواطنين وتجانس أفكارهم حول الأهداف الوطنية المطروحة،والإعلام له دور بالغ الأهمية في تشكيل الذاتية الوطنية وتقوية وحدتها والتصاقها حول أمهات القضايا، مثل الموقف الاعلامي من الصراع العربي ـالاسرائيلي في كل أقطار الوطن العربي،كما أن له دورا فعالا في صياغة العلاقات بين الأقطار،فتوتر الأوضاع بين الدول العربية مردّه سوء استخدام وسائل الإعلام،وكذا -ايغال-بعض المؤسسات الاعلامية العربية في ـالنرجسية وجنون العظمة ـ
ان عجزنا على اقتحام قنوات الاعلام العالمي التي ـ تصهينت ـ لا يبرّر تقصيرنا في الاهتمام بذاكرتنا والتأسيس لهويتنا ودعم ثقافتنا والتنبيه لمخاطر المد الاعلامي المعولم الذي يهدف الى تخريب القيم الأصيلة للمجتمع وتهميش سلوكيات الأطفال وأخلاقيات الشباب بسبب ما يعرضه من برامج تهدف الى خدمة الغرب وتكريس صورته في عيوننا وهي التي نستوردها من أوروبا وأمريكا لدرجة ثبت معها أن تلك البرامج أكثر تدميرا من أي عامل مؤذ آخر ولعل في قولة ـ غسان كنفاني ـخير دلالة لما نروم الاشارة إليه: إن الفن الذي ينظر إليه بعض الشباب الآن تحت أي شعار كان لا يقل خطورة عن السلاح الرديء…
ومن هنا يجوز القول إن الإعلام العربي بوسعه أن يرتفع الى مستوى مسؤوليته،إذا ما استخدم على نحو رشيد في تكريس رسالته لخدمة الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والإنمائية وهو بالتالي قادر على أداء مسؤولياته في مختلف المجالات وأن يكون أفضل أداة لتحقيق الديمقراطية وأبلغ لسان في التعبير عنها،بدلا من نشر الأكاذيب وانصاف الحقائق..!
سأصارح : إن الاحتلال الإسرائيلي يحارب شعبنا الفلسطيني بكل الوسائل سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ويسخر كافة قدراته الإعلامية التي يعتمد فيها على فصاحة اللغة والبحث في ثقافات الشعوب ليسهل عليه مخاطبتهم وبالتالي القدرة في التأثير وإقناع الرأي العام العالمي محارباً الرواية الفلسطينية ومن يؤازرها في الإعلام العربي بالاعتماد على وسيلة الخداع والمبادرة الأولى في سرد الرواية الإعلامية منكراً سرد الحقائق التاريخية للقضية الفلسطينية لكسب التعاطف الدولي،وبالمقابل فإن الإعلام الفلسطيني والعربي دائماً في دائرة رد الفعل وهذا أسلوب غير مؤثر في مواجهة الإعلام الإسرائيلي وإقناع الرأي العام العالمي،هل الإعلام الفلسطيني والعربي يمتلك القدرة والخبرة في مواجهة الإعلام الإسرائيلي،وهل بمقدوره الأخذ بزمام المبادرة ووقف التغلغل الإعلامي الإسرائيلي في وسائل الإعلام الدولي.؟
إن مواجهة هذه الحرب مع عدو لئيم وإلغائي (إسرائيل) لا تعني الإنعزال أو الإنكفاء إلى الوراء،بل لا بدّ من المواجهة والنزال بجهد مشترك مبرمج وذكي ومركّز وواعٍ ومستمر وذي إمكانات وقدرات،على أصعدة التعليم والنشر والبرامج التلفزيونية والأفلام والإعلام الرسمي والخاص والموازي .المقصود بالمواجهة هنا، هو الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة. وكما ورد في مقدمة الخطة المتوسطة الأمد ألأولى لليونسكو عام 1976،فإن المناداة بالذاتية الثقافية التي تمثّل عنصراً من أكثر العناصر تمييزاً لعصرنا،ليست من قبيل الحنين الذي لا طائل تحته،إلى ماضٍ عفا عليه الزمن،أو هي مجرد حقيقة مرتبطة بالتقاليد، وبذلك السجل الذي تدوّن فيه الخبرات المتراكمة، ألتي اكتسبها المجتمع عبر التاريخ، ولكن مغزاها يكمن في النظر إلى الماضي كنواة لصنع المستقبل. وهكذا فإن التراث الثقافي بمختلف أشكاله يعدّ عملاً لدعم الذات الثقافية، وذلك شرط الإنفتاح الثقافي الإيجابي على الثقافات المختلفة.إن هذه العملية لا يقدم ولا يقوم عليها جهة واحدة أو فرد واحد، بل هي عملية يتكامل فيها دور المؤسسة الرسمية بكامل أذرعها، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني بكامل تفرعاتها،وكذلك الأفراد والشخصيات ذات التأثير الأدبي والفني والإبداعي..
على سبيل الخاتمة :
الإعلام الغربي يتعاطى مع القضية الفلسطينية كأنه نزاع بين طرفين( فلسطيني وإسرائيلي) ومواده الإعلامية تخلو تماماً من السياق التاريخي للقضية الفلسطينية بل ويتعاطى مع تغطية الاعتداءات الإسرائيلية بحروبها بشكل متساوٍ ويتعمد سرد تفاصيل القتلى الإسرائيليين أما شهدائنا فهم أرقام في إعلامهم دون أدنى تفاصيل، وهذا يعود إلى مدى تغلغل الإعلام الإسرائيلي في داخل الإعلام الغربي وتأثيره الكبير في تحرير سياساته ومرتبط في نوعية العلاقات الإستراتيجية التي تربط دولة الاحتلال مع هذه الدول، ودائما الإعلام الإسرائيلي هو السباق في القصة الإعلامية بكافة تفاصيلها وهذا ما يميزه عن الإعلام الفلسطيني والعربي الذي يبنى مواده الإعلامية على رد الفعل. في زمن التطور التكنولوجي وتعدد وسائل الاتصال وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي فقد انفتح المجال أمام حرية الرأي والتعبير فبدأ الكتاب والمثقفون والناشطون الغرب بنشر مقالاتهم وما يشاهدونه بأعينهم في الأراضي الفلسطينية من جرائم الاحتلال الإسرائيلي وكان لبعض الجاليات الفلسطينية دور في ذلك، فاجتاحت المظاهرات الكثير من العواصم الغربية مما غير من سياسات بعض الدول التي لا تربطها علاقات إستراتيجية مع دولة الاحتلال فبدأت حملات المقاطعة لمنتجات المستوطنات وكذلك المقاطعة الأكاديمية، وبالتالي بدأنا نلاحظ التغيير في التعامل مع القضية الفلسطينية ولكن ليس بحجم الشكل الذي نريده.
ختاما أقول : العالم مجرد حَبكة،والإعلام القوي المسيطر يستطيع أن يَحبِك روايته جيداً،ويجد لها ذرائعها الأخلاقية ومبرراتها الإنسانية،بل ويقوم بتأويل النصوص المقدسة لتكونَ ذريعةً أخرى بيده يستخدمها كمرافعةٍ وجيهة في وجه خصومه،ويستطيع أن يقدمها بطريقة باهرة ومثيرة ومغرية ومُغْوية،وهي بسبب انتشارها وقوة حضورها قادرة على التأثير والتغيير.