أمد/
ناقشنا في لقاء “منتدى حنا أبو حنا للكتاب” الحيفاوي الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009) رواية سوناتة لكروتزر (رواية قصيرة لليف تولستوي، ترجمة: صياح الجهيم، تصميم الغلاف: ماجد الماجدي، الناشر: دار المدى).
جاء في البَدء: “أما أنا فأقول لكم: إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى في قلبه” (متى 5-28).
عُنونت الرواية على اسم سوناتة كروتزر للموسيقار الملحّن بيتهوفن (جزء من السيمفونية التاسعة الخاص بعزف الكمان؛ الحركة الأولى غاضبة، الثانية تأمليّة والثالثة مندفعة بمرح، أهداها لعازف الكمان رودولف كروتزر).
تتناول الرواية الغضب الناتج عن الغيرة العاطفية؛ بطلها بوزدنيشيف الغيور، الذي تصل به الغيرة إلى قتل زوجته، عبر “الإفراط الحيواني” و”العلاقة القبيحة” التي تسيطر على العلاقة بين الجنسين.
تمّ اعتقاله إثر قتل زوجته بسبب خيانتها له، في بيته، مع عشيقها/ عازف الكمان (تروخاتشيفسكي)؛ تُعجب به بعد عزفهما المشترك في حفلة رتّبها زوجها، ممّا يثير غيرة الزوج، وفي مشوار عمل له خارج البلدة راوده الشك بالعلاقة بين زوجته وعشيقها فقرّر العودة مبكرًا، ليجدهما معًا، يستلّ خنجره الدمشقيّ ليقتل زوجته ويهرب عازف الكمان، يتخبّط إذ كان من حقّه الانتقام منه فيصل إلى نتيجة مفادها “أردت اللحاق به، لكني أيقنت أنه من السخف اللحاق بحبيب متيم بزوجتي، لن أرضى أن أكون سخيفًا بل شديد البغض”، نعم، “مشكلته ” مع زوجته التي خانته وليس مع عشيقها الذي استغل فرصة، لا غير.
وتتم محاكمته وتُبرّئه المحكمة، يٌحرم من حضانة أولاده الخمسة، فيركب القطار علّه يجد المغفرة عن جريمته النكراء بين المسافرين الغرباء.
حين يركب القطار ويصغي، بعفويّة، للمسافرين يتنصّت لأحاديثهم حول الزواج والعلاقات الزوجيّة، حول الحب والطلاق، والحب. يستمع إلى النفاق والزيف المجتمعي والتغنّي بالمثاليات حول تعريف الحب والحب الصادق ليتساءل “ما هو الحب؟”، وكيف له أن يتحول إلى كراهية.
يتناول العلاقات الجنسيّة، قبل الزواج وبعده، لكلا الجنسين، وظاهرة البغي والدعارة، على أشكالها، والمومسات، والإغراء والإغواء، من الطرفين، من اللباس إلى السطوة والسيطرة، عبر شرعيّة الدعارة وحين تتحوّل الحياة الزوجية من نعمة إلى نقمة ولعنة أبديّة.
يوضح تولستوي موقفه تجاه العلاقة الزوجية وتجاه الفن الموسيقي، فكان من عشّاق الفن على أشكاله، وخاصّة الموسيقى ولكنه مر بأزمة دينيّة أخلاقيّة قلبت معاييره ومفهومه ممّا جعله يكره الأدب والفن لدرجة أنّه اعتبر سمفونيّة بيتهوفن التاسعة مفرّقة للبشر بدل جمعهم ممّا جعل بطله يصرخ: “فيا لها من شيء مروّع، تلك الموسيقا!”.
“كان ينتعل حذاء له أزرار من النوع الباريسي، وربطة عنق صارخة الألوان، وكل ما يكتسبه الغرباء في باريس والذي يترك دائماً في النساء، بجاذبية الجدّة، أثراً وقبولاً” (ص. 406)، حقاً، كل شي فرنجي برنجي!
تنضح الرواية بتجربة حياتيّة فلسفيّة واضحة المعالم؛ وله وجهة نظر حول مكانة المرأة وتحكّمها وسطوتها، “كاليهود بالضبط، إذ ينتقمون بسلطان المال من الإذلال الذي يلحق بهم… يقول اليهود: “آه! لا تريدوننا إلا تجاراً، لا بأس، سنكون تجاراً، لكننا سنسيطر عليكم” وتقول النساء: “آه! لا تريدوننا إلا أدوات للذة، لا بأس، سنكون كما أردتم، وسوف نستعبدكم بكوننا أدوات للذة” (ص. 367)، تمامًا كما هو حال “تاجر البندقيّة” في مسرحية ويليام شكسبير.
راق لي استعماله للموروث الشعبي من حكايات وقصص وأمثلة متوارثة؛ وعلى سبيل المثال: “لا تأمن حصاناً في المرعى ولا امرأة في البيت!”، “كانت مثل فرسٍ أصيل معلوفةٍ مربوطة دائماً، مستريحة أطول زمن، دون أن تُلجم. لم يكن من شيء يكبح جماحها (وهذا شأن تسع وتسعين بالمئة من النساء)”، “كنت مثل زجاجة مقلوبة لا يسيل ماؤها لفرط امتلائها”، وغيرها.
قلتها في إحدى الندوات التي شاركتها فبل سنوات؛ على الكاتب/ة أن يقرأ مائة كتاب قبل أن يخطّ الحرف الأوّل، وفي ندوة شاركتها قبل حوالي أربعة شهور استمعت للكاتب المقدسي محمود شقير يصرّح عن عشقه للقراءة؛ كشف سرّه أنّه قرأ 901 رواية وكذلك 120 كتاب سيرة، عدا القراءات الأخرى، ومن معرفتي به ما زال يقرأ ويقرأ، ويقرأ، وها هو تولستوي الموسوعي ثقافة وقراءة واطلاعا على الأدب والأدباء، ونجده ضليعاً بكلّ أسطورة أو كتاباً أو أديباً ذكره في الرواية، وذكره للراقصة الأسطوريّة “ريغوليوش”، والفلاسفة الألمان شوبنهاور وهارتمان، الموسيقي الألماني هنري أرنسيت (صاحب مرثيّة ارنسيت)، والطبيب النفسي الفرنسي شاركو، وشعب “الهوتنوت” (الذين عُرفوا بتميّزهم الموسيقي)، والمغني الياور فانكا (الذي شُنق بسبب أغنية يغوي فيها امرأة سيّده الإقطاعي)، جاء بنيوياً دون إقحام.
رواية قصيرة جريئة (نُشرت عام 1889) وحطّمت تابوهات ومقدّسات وتساؤلات فلسفية حول إطار الزوجيّة.
ملاحظة لا بدّ منها؛ منعت الرقابة الروسيّة في حينه نشر الرواية، وكذلك الولايات المتحدة، وأطلق ثيودور روزفلت على تولستوي “المنحرف الجنسي أخلاقيا، ممّا أدى بتولستوي إلى نشر تذييلاً وخاتمة توضيحيّة جاء فيها “فلنكف عن الاعتقاد أنّ المحبة الجسدية رفيعة ونبيلة، ودعونا نفهم أي غاية تستحقها مساعينا نحو هذه المحبة –لمصلحة الإنسانية، ووطننا، والعلم، والفن، ناهيك عن الله، لن تتحقق أي نهاية، يمكن أن نعتبرها تستحق سعينا، عن طريق الارتباط مع بعضنا في الزواج أو بدونه في سبيل أهداف حبنا الجسدي. في الحقيقة، لن يساعد الوله والترابط في الوصول إلى حب جسدي. (مهما ادعى مؤلفو قصائد الحب والرومانسية عكس ذلك) لن يساعدوا أبدًا في مساعينا الجديرة بالاهتمام، بل على العكس سيعيقونها”. تساءلت بيني وبيني، هل كان من حقّه أن يفعل ذلك؟ وماذا عن “موت المؤلّف”؟ وما موقف رولان بارت من ذلك؟
ويبقى السؤال مفتوحاً: هل نتفق مع وجهته الفلسفيّة “إن حب شخص واحد مدى الحياة يشبه الرغبة في الاستضاءة الدائمة بشمعة واحدة”؟