أمد/
طولكرم: بين التشريد القسري والموت البطيء، وجد النازحون الفلسطينيون من مخيمي نور شمس وطولكرم أنفسهم في دوامة الحرمان والتجاهل الدولي. في ظل واقع تتحكم فيه القوة العسكرية، لم يعد النزوح مأساة إنسانية عابرة، بل سياسة ممنهجة من العقاب الجماعي، تنفَّذ بآليات أكثر تطورًا، وأشد وحشية، وبغطاء من الصمت الدولي المريب. وسط هذا الواقع القاسي، حلّت العيادة الطبية المتنقلة التابعة لمؤسسة أطباء لحقوق الانسان في قرية إكتابا، الواقعة شمال شرق طولكرم، لتقديم الرعاية لأكثر من 4000 نازح تقطّعت بهم السبل، إلى جانب 8000 من سكان القرية الأصليين، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى مستضيفين لموجات اللاجئين المتلاحقة.
الطريق إلى إكتابا لم يكن تنقل جغرافي، بل عبورٌ في قلب الدمار. في مخيم طولكرم، لم يعد هناك شوارع، فالأرض موحلة، والمياه العادمة تتدفق بلا توقف. الحياة هناك أصبحت حالة طوارئ دائمة، حيث تتحرك عربات جيش الاحتلال بلا انقطاع، والمنازل تتحول إلى ثكنات عسكرية بعد طرد سكانها، ونهب ممتلكاتهم قبل أن تُسوى بالأرض. لم يعد الأمر اقتحام بل عملية منظمة من التطهير والهدم الممنهج، حيث تُصدر الأوامر العسكرية فجأة، فيتم إخلاء 10 أو 20 منزلًا دفعة واحدة، قبل أن تُفجَّر وتُحرق، مخلفةً وراءها عائلات مشردة وخسائر تقدر بمئات الآلاف من الشواقل لكل منزل.
بحسب نائب محافظ طولكرم فيصل سلامة، لم تبدأ الهجمة على المخيمات بعد 7 تشرين أول/أكتوبر كما يحاول البعض تصويره، بل تعود إلى حزيران/يوليو 2023، حين انطلقت حملات عسكرية دموية شملت إعدامات ميدانية، هدم أحياء بأكملها، واغتيالات عبر الطائرات المسيرة. منذ ذلك الحين، تجاوز عدد القتلى 150، معظمهم من الشباب المستهدفين بشكل مباشر، فيما تجاوزت الاقتحامات 62 عملية عسكرية، تسببت في نزوح أكثر من 21 ألف لاجئ، متناثرين بين القرى المجاورة في ظل ظروف معيشية قاسية وغير إنسانية.
في مواجهة هذه الكارثة، حاولت مؤسسة "أطباء لحقوق الإنسان" تقديم يد العون عبر يوم طبي خاص في إكتابا. البروفيسور رافي ولدن رئيس المنظمة، عبّر عن إحساسه بالمسؤولية الأخلاقية الثقيلة تجاه ما يحدث، لكنه لم يخفِ مشاعره المختلطة، مدينًا السياسات الوحشية للحكومة الإسرائيلية، ومؤكدًا أن حتى الإسرائيليين أنفسهم يعانون تحت حكم هذه المنظومة القمعية. على مدار اليوم، تم فحص 578 مريضًا، من بينهم 54 طفلًا، معظمهم لم يكن أمامه خيار سوى تلقي العلاج الدوائي فقط وسط انهيار شبه كامل للبنية الصحية. وفي نهاية اليوم، شكر السكان المحليون الطاقم الطبي على جهوده، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، إلى متى يبقى تقديم العلاج فعل مواجهة وليس حقًا أساسيًا؟ إلى متى يبقى النازح الفلسطيني رقم في قائمة المشردين؟
صلاح الحاج يحيى، مدير العيادة الطبية المتنقلة: "نحن هنا لأن الطب لا يعترف بالحدود، ولأن الإنسانية لا تخضع لحسابات السياسة. في مواجهة التهجير القسري والتدمير الممنهج، يبقى واجبنا الأخلاقي والمهني أن نكون حيث الألم، وأن نوفر للنازحين حقهم الأساسي في الرعاية الصحية. لكن العلاج وحده لا يكفي، فالعالم مطالب اليوم بأن يتحرك لوقف هذه الكارثة الإنسانية المستمرة".