أمد/
صدرت عام ٢٠٢٤ رواية “حمروش” للأديب المقدسي جميل السلحوت، عن دار الهدى، أ. عبد زحالقة. وتقع في ٦٠ صفحة من الحجم المتوسط.
في رواية الفتيان هذه يعالج الكاتب قضيّة إيمان بعض الناس، بالأولياء الصالحين، والخرافات، والأرواح، والجميل في هذه الرواية، أنّ الكاتب جعل الحلّ والخلاص من هذه الترهات، بالجيل الصاعد من الفتيان، هذا الجيل الذي يرفض الإيمان بالمسّلمات والأمور غير المنطقيّة، فيثير الأسئلة ويستخدم العقل والمنطق، كما جعل الكاتب الفتى سعيدا نموذجا لهذا الجيل الذي لا يصدّق الخرافات، ولا يخشى الأرواح؛ لأنه لا يؤمن بوجودها، ويمتلك القوّة لمواجهة الكبار ويأتي لهم بالحجج المنطقيّة.
تحكي الرواية عن حكاية غريبة خرافيّة آمن بها غالبيّة سكّان إحدى البلدات في بلادنا، عن مغارة تسكنها أرواح صالحة، هذه الأرواح، لا تقبلُ الأخطاء والخطايا، الّتي يرتكبُها البشر، لذا فهي تخرج من عالمِها الآخر؛ لِتردَعَ من يرتكب خطأ في كفر.
ومن القصص التي يرويها أحد الرجال عن هذا الكهف:” أنّه رأى في مغارةِ الصّالحين امرأةً كاملة الأوصاف، غرّاء فرعاء، كانت الدّماء تسيلُ من شدقيها وبجانبِها موقدٌ، وأمامها رجلٌ ممدودٌ عارٍ تماما، وبيدها سيفٌ، تقطعُ أجزاءً من الرّجلِ، وتلقي بها فوق الموقد، فانسحب الرجل بخفّةٍ قبل أن تنتبهَ له، وعاد إلى بيته مرعوبا”.
ومن القصص الغريبة الأخرى، قصّة رواها أبو الوليد قائلا:” كنتُ عائدًا من البيادر وأنا أمتطي البغلَ -أجلّكمُ اللهُ-، ولمّا مررتُ من بابِ المغارة سمعتُ صوتًا غريبًا، فالتفتّ دون قصدَ منّي، وإذا بأفعى حجمُها أكبر من حَجْمِ الحصان، ورأيتُها وهي تبتلعُ خروفا، كانت تفتحُ فمَها وهي تبتلعُ قدميه الخلفيّتين، فأرخيتُ رسنَ الحصانِ وضربتُه بعصًا على رقبتِه، فانطلق يسابقُ الرّيحَ، والعلمُ عندَ اللهِ أنّ البغلَ عدا بأقصى سرعتِه، لأنّه رأى الأفعى فخافَ منها هو الآخر”.
كان الطفل سعيد يستمع إلى هذه الحكايات وهو جالس في زاوية الخيمة، لكنّه لم يصدقها، ورآها غير منطقيّة فبدأ يسأل الكبار أسئلة تدعو إلى التفكير واستخدام العقل والمنطق مثل: هل الرّجلُ الّذي شَوَتْهُ امرأةُ المغارةِ من أبناء القرية؟ وهل الخروفُ الّذي ابتلعته الأفعى يملكُهُ أحدُ مربّي الأغنامِ من أبناء القرية؟ هل سمعتم عن فقدانِ رجالٍ وأغنامٍ من القُرى والبلداتِ المجاورة؟ ثمّ أضاف سعيد كلُّ ما قصصتموهُ عن المغارة أكاذيبُ لا يُصدّقُها عاقلٌ، ولو كانت صحيحةً، لما كنّا موجودين، لأنّ المرأةَ التي تأكلُ الرّجالَ والأفعى الّتي تبتلعُ الخراف، لو كانت حقيقة، لما بقي منّا واحدٌ على قيدِ الحياة.
احتجّ والده على كلامه الذي يستشفّ منه استهزاء بكبار القوم وطرده من الخيمة. لكنّ محمد العيسى دعا المجتمعين إلى التفكير في أسئلة الفتى، فهي منطقيّة، وسرد على مسامعهم قصّة هذا الكهف: جاء القريةَ ثلاثةُ لصوصٍ يمتطي كلّ منهم حمارًا؛ ليسرقوا، ولمّا وصلوا طرف القرية كانوا مُنهكين من شدّة البردِ والتّعب، فاحتموا بالمغارة المذكورة من الثّلوج الكثيفة المتساقطة، وأشعلوا نارًا وقودها من حطب القرية ليتدفؤوا. ومات حمارٌ من حميرهم، ودفنوه في المغارةِ بناءً على نصيحةِ أحدهم؛ لِيَجعلَ منه وليًّا صالحًا، وانطلت خديعتُهم على أهل القرية الّذين بنوا ضريًحا على القبر، وصاروا كلّهم يقدّسونه ويُقسمون باسمه” حمروش”، وتزوّجوا أجملّ ثلاثِ نساء في القرية، وواصلوا سرقةَ البيوت ويتقاسمون ما يسرقون، وذات يوم سرق أحدُ الّلصوص زميلَه، وأقسم بالشّيخ “حمروش” أنّه لم يسرقُه، فقال له الآخر:
كيف تقسم بالشّيخ حمروش وتريدُني أن أصدّقك و”احنا دافنينه سوا”؟
رغم إيمان محمد العيسى أنّ كلّ ما يروى عن المغارة هو خرافات إلا أنّ نبضاتِ قلبِه كانتْ تزداد سُرعتها كلّما تكلّم أحدُهُم عن المغارة، لقد عاش صراعًا بين عقلِه، وقلبِهِ الّذي يحنّ إلى رأيِ المجموعة، فـ “الموت مع الجماعة فرج”.
يتطرّق الكاتب جميل السلحوت إلى قضيّة أخرى وهي إيمان النساء بالسحر والفتّاحات، فعنما قدمت صبريّة النوريّة مع زوجها وأولادها إلى البلدة، سكنوا في المغارة، وأخذوا يبيعون للأهالي الكرابيل والغرابيل، زوجها عبده يغنّي ويعزف على الشبّابة وهي ترقص، كانت صبريّة تقرأُ الطّالعَ للنساء من خلالِ قراءةِ الكّفِّ أو فنجانِ القهوة، وتفتحُ بالودع. فلجأت إليها بعضهن ممن يردن الانجاب، وحين قدمت الشابّة زعرورة مع حماتها كي تساعدها في الحمل، طلبت منها صبريّة أن تفتح فمها، بصقتْ على إصبعيها السّبّابةِ والوسطى، ولاكت بصاقَها في فمِ زعرورة، وطلبتْ منها أنّ تتمضمضَ وتبتلعَ الماء، ثمّ صفعتْها صفعةً خفيفةً على وجهها وهي تقول:
“داواك مسعود وشرّك ما يعود”، ستحملين هذا الشّهر بإذن الله.
شعرتْ زعرورة بسعادةٍ غامرة، عبّرت عن امتنانها لصبريّة فقالت لها:
أسألُ اللهَ أن يرزقَني بنتًا جميلةً مثلك.
كان الفتى سعيدٌ يُراقبُ ما تقوم به صبريّة مع النساء، ببراءة تامّة، وذاتَ يومٍ تقزّزَ من بُصاقِ صبريّةَ في فمِ إحدى النّساء وتقيَّأ، فردّتِ المرأةُ سبب ذلك بأنّه مصابٌ بالبرد.
يحارب الكاتب هذه الترهات، ويكشفها على الملأ؛ علّ النساء اللواتي يؤمنّ بهذه الترهات، ويلجأن إلى العرّافات، يمتنعن عن ذلك.
يتطرّق الكاتب أيضا إلى قضيّة هامّة وهي عقوق الوالدين، فينشد عبده النوريّ أغنية على لسان جحيش بن مهاوش من نجدٍ، الذي عاشَ قبلَ قرونٍ عديدة، عانى من عقوقِ أبنائه، فقال قصيدتَه المؤثّرة والتي فيها يعاتب أبناءه على عقوقهم ويدعو عليهم بأن يحرمهم الله من الأبناء. “وعلى ذمّة الرّاوي فإنّ الله قد استجاب لدعواتِه على أبنائه العاقّين، فحرمهم من الإنجابِ رغم أنّ كلّا منهم تزوّج أربع نساء”.
في الّليلةِ الأخيرةِ لوجود عبده وصبريّة في البلدة ضربَ المنطقة زلزالٌ، فانهارَ قبرُ حمروش وبعضُ البيوتِ القديمةِ والسّلاسلِ الحجريّة، تشقّقتِ الأرضُ وأصيبَ بعضُ السّكّانِ برضوضٍ وكسور. في ساعات الفجرِ حمّلَ عبده وصبريّةُ أغراضَهما القليلةِ على حماريهما، غادرا المكانَ إلى قريةٍ أخرى دون أن يقولا وداعًا لأيّ إنسان.
تداول النّاسُ بأمر الزّلزالِ، واعتبروه عقابًا من الشّيخِ حمروش لهم، لأنّهم لم يُخبروا ولم يُبعدوا عبده النّوريّ وأسرتَه عن حمى حماه، أمّا الطّفلُ سعيدٌ وأقرانُه فقد اقتربوا من ضريحِ حمروش المهدّم، رأوا تشقّقَ المغارةِ بسبب الزّلزال، فظهرتْ عظامُ حمروش. حملَ سعيدٌ جمجمةَ حمروش وعادَ بها إلى البيت، ذهب بعض رجال القرية إلى الكهف فوجدوا الهيكل العظميّ للحمار؛ فاحتاروا بتفسير ذلك، ولِيَخرجوا من هذا المأزقِ قرّروا أن يغلقوا بابَ المغارةِ بجدارٍ؛ لِيُحاصروا الأرواحَ التّي تسكنها.
جاء السرد في الرواية بلسان الراوي العليم، وقد تخلّله حوارات خارجيّة بين شخصيّات الرواية، فجاءت اللغة سلسة واقعيّة، تخلّلتها بعض الأمثال الشعبيّة والأغاني مثل: “الهروب ثلثين المراجل”:” ما احنا دافنينه سوا”” لعب الفار في عبّه”:” الجرّة لا تسلم كلّ مرّة”:” ذاب الثلج وبان المرج”.
يشير الكاتب جميل السلحوت إلى تأثير الجماعة على معتقدات بعض الناس، فحتّى العاقل، يشكّك في رأيه، حين يرى أنّ جميع الناس تخالفه الرأي، يتساءل الكاتب:” فهل التّفكيرُ الصّحيحُ في المكانِ الخطأ كارثةٌ؟ وهذا سؤال وجيه، فكم من فتياننا وفتياتنا رضخوا لضغط المجموعة، وأدى بهم ذلك إلى الانحراف؟ وهذه قضيّة أخرى مهمّة، أراد الكاتب أن يلفت نظر الفتيان إليها، فيتجنّبوا ضغط المجموعة، خاصّة إذا كان العمل غير صالح أو يودي بصاحبه إلى التهلكة.
كما ينبّه الكاتب الفتيان بعدم استخدام الوصفات البدائيّة للعلاج، وبدلا من ذلك عليهم التوجّه إلى الطبيب المختصّ.
أمّا الشخصيّات فكانت متنوّعة، منها الشخصيّة الضعيفة المرعوبة مثل أبو خنيفس، وأبو الوليد، شخصيّة تتظاهر بالشجاعة مثل محمد العيسى، الشخصية البلهاء البسيطة مثل أم محمد عيسى(لُقّبت الطرما)، الشخصيّة الذكيّة المؤثّرة مثل صبريّة الغجريّة، لكن أكثر شخصيّة مثيرة كانت شخصيّة الفتى سعيد، ولعلّ الكاتب الذي كتب هذه الرواية للفتيان، تعمّد أن يجعل الفتى سعيدا قويّا ذكيّا شجاعا مفكّراـ وقد أراد الكاتب بذلك، أن يبيّن للفتيان والفتيات، أهميّة استخدام العقل والمنطق؛ فهم من سيقود المجتمع، وعليهم أن يتحلّوا بالشجاعة والحكمة، ويحاروا الجهل والتخلّف والشائعات.