فراس ياغي
أمد/ المشهد الكلي للمنطقة أصبح يأخذ منحنيات اكثر وضوحا من السابق، فمن كان يعتقد بوجود مخططات ومقاربات سياسية ستؤدي لوضع حد للعدوان الإبادي التهجيري على قطاع غزة فشل في قراءة حقيقة المشهد الإسرائيلي ما بعد السابع من أكتوبر، ومن يتحدث كثيرا وعبر الفضائيات عن تغير الموقف الأمريكي أيضا فشل فشلا ذريعا حينما تحدث الرئيس الامريكي بايدن مع رئيس الوزراء نتنياهو ونقل عنه وفق وكالة رويتر “أنه لا يعارض مفهوم الدولتين”، رغم أن السيد نتنياهو سبق الرئيس بايدن بيوم وأعلن في مؤتمر صحفي أنه ضد إقامة دولة فلسطينية، وهنا يتضح أن إدارة البيت الأبيض تقف إلى جانب نتنياهو وإسرائيل وان قصة التفريق بينهما غير واردة، وأن قصة “ما بعد نتنياهو” لم تكن سوى جملة قيلت لحظة غضب، لأن المهم للرئيس بايدن وهو على أعتاب معركة الإنتخابات هو الحصول على اكبر قدر ممكن من التبرعات الصهيونية، وكما يبدو ويتضح ان الغالبية العظمى من المانحين اليهود هم من أنصار اليمين الصهيوني ومن المحافظين وليسوا من داعمي اليسار الليبرالي، والمؤكد ان كلام الرئيس بايدن أن إقامة دولة فلسطينية ليست مستحيلة في عهد رئيس الوزراء نتنياهو محاولة لخداع النفس قبل الغير، لكنها ضرورية للحصول على المال “الإيباكي” اي مال اللوبي الصهيوني في امريكا
عادة إسرائيل تنتصر بالمفرق…لكنها بالجملة قد تخسر، بمعنى المواجهة ككل مع محور المقاومة مع العلم بل المؤكد ان أمريكا لن تترك إسرائيل لوحدها، فهي تبحث عن مواجهة إقليمية مع طهران اولا واخيرا، لذلك يقول الكثير من جماعة اصحاب المنطق أن القصف الإسرائيلي والإغتيال هو عملية استدعاء للمحور لحرب شاملة وبما يؤدي إلى توريط أمريكا في المعركة…والحقيقة أن إسرائيل وبدعم وتأييد أمريكي أخذت قرار بمنع اي تهديد في الجوار ومن اي جبهة حتى لو ادى ذلك لحرب شاملة… لأن طبيعة الإغتيالات في الفترة الأخيرة تجاوزت كل قواعد الإشتباك القديمة، بمعنى أن الرسائل الجديدة تعطي إشارة واضحة بأن ما قبل السابع من أكتوبر لا رجعة إليه، وأن ما بعده هو اليد الإسرائيلية في كل مكان، وتحت عنوان مناطق امنية في الجنوب والشمال
أسمع كثير من الأقطاب والمحلليلين المؤيدين لمحور المقاومة يتحدثون وكأن إسرائيل فاقدة للقدرة وعاجزة عن توسيع المعركة وفي عدة جبهات، وهم بذلك يتحدثون وفقا للمنطق، ولكن لا يتحدثون وفقا لما ترى إسرائيل نفسها، حيث اللا منطق هو السائد كما حدث ويحدث في غزة…إسرائيل بقيادتها العسكرية وغالبية قيادتها السياسية ترى أنها من القوة بحيث تستطيع توجيه الضربات شمالاً ويساراً، شرقاً وغرباً، وان لديها فائض من القوة يتجاوز حدود المنطقة، لذلك هي تتصرف وفقا لرؤية جديدة في الموضوع الامني تتعدى ما كانت تعمل عليه سابقا في سوريا ولبنان والضفة بعد غزة، أي أن قصة منع الإستقرار الإيراني في سوريا تم تجاوزها نحو إنهاء هذا التواجد، وقصة قواعد الإشتباك السابقة في لبنان تم انهاؤها نحو إبعاد قوة الرضوان خلف الليطاني، أما الضفة فموعدها مزيدا من القتل والتدمير ولاحقا التهجير الجزئي القسري إذا فشلوا في التهجير الاكبر
طبعا الكلام أعلاه هو المخطط الإسرائيلي والتوجه الأمني لدى القيادة العسكرية ولا يعني أن يتحقق، أو أن تستطيع إسرائيل الجديدة “إسرائيل ما بعد السابع من اكتوبر” فرضه على المحيط اللصيق وإبعاد المحيط البعيد عنه ليعود ادراجه إلى حدوده، وما تقوم فيه إسرائيل من مبادرات قتالية يأتي في هذا السياق
أصبحت الامور واضحة وتتحدد في صراع واضح بين محور المقاومة وأمريكا وإسرائيل، وما بينهما إنتهى دورهم بسبب عدم وجود توجه سياسي حقيقي أمريكي إسرائيلي نحو سلام ودولة فلسطينية، لذلك فإن مآلات الصراع القائم والقادم هي من ستحدد وجه المنطقة العربية وغرب آسيا ككل
بعد أسبوع ومئة يوم يتضح اكثر وأكثر الإرتباط الأمريكي الإسرائيلي، فالرئيس بايدن لم يتحمل ما قاله نتنياهو في مؤتمره الصحفي قبل يومين والذي رد فيه على التسريبات التي تتحدث عن التوجه الامريكي لما بعد نتنياهو، حيث قال: “إن ذلك يعني ما بعد غالبية مواطني دولة إسرائيل، ويعني دولة فلسطينية” لنسمع بعد يوم من ذلك من الرئيس بايدن الذي إتصل برئيس الوزراء نتنياهو بأن “إقامة دولة فلسطينية ليس مستحيلاً في عهد نتنياهو”، وليأتي الرد على ذلك ببيان رسمي من مكتب رئيس وزراء إسرائيل: “يجب أن تكون لإسرائيل سيطرة أمنية كاملة على جميع الأراضي الفلسطينية، في غزة والضفة وعلى الحدود مع الأردن، وهذا يتعارض مع فكرة السيادة الفلسطينية”، وهذه إشارة واضحة لعدم فهم الرئيس بايدن كلام نتنياهو في الإتصال التلفوني بين الطرفين
يظهر أن المواقف الواضحة والمُعلنة والتي لا يشوبها شائبة تأتي فقط من المشهد الإسرائيلي، وبالذات من رئيس وزراءها ومن قيادة جيشها وامنها، وهذه المواقف تتلخص بالتالي:
أولا- بعد السابع من اكتوبر صاحب اليد العليا الامنية في الشمال والجنوب والضفة هي إسرائيل الجديدة، إسرائيل الجيش والأمن والفكرة الصهيو – دينية اليمينية.
ثانيا- لا مكان لشيء إسمه دولة فلسطينية، ولا مكان لأي سيادة فلسطينية في غزة والضفة، والتوجه الإسرائيلي هو نحو إغلاق معبر رفح بشكل نهائي وتحويل عبور الأفراد من غزة إلى مصر هو عبر معبر كرم أبو سالم، أي القطاع كما الضفة أما قضية التهجير القسري فلا تزال قائمة ومطروحة على الطاولة وهناك ضغوطات على جمهورية مصر العربية بهذا الخصوص
ثالثا- سوريا يجب أن لا تشكل اي تهديد لإسرائيل وبما يستدعي ذلك محاربة كل المحاولات الإيرانية لتحويل سوريا إلى لبنان او غزة الجديدة.
رابعا- جبهة لبنان امامه خيارين إما التسوية السياسية وفق رؤيا امريكية او الذهاب لمعركة فاصلة وحاسمة، المهم ان يتم إبعاد فرقة الرضوان التابعة لِ حزب الله الى شمال الليطاني.
خامسا- المشهد الداخلي في إسرائيل رغم كل تجاذباته السياسية والشخصية لا زال بأغلبيته خلف المعركة والجيش وخلف المقاربات الأمنية الجديدة على الرغم من الخسائر الكبيرة.
أما المشهد لدى محور المقاومة بجبهاته المتعددة والمشتبكة، فلا يزال يعتقد بعدم جاهزية وقدرة إسرائيل على توسيع المعركة، وبعدم الإستطاعة لدى إسرائيل على فرض قواعد إشتباك جديدة تُخل بالقديمة وتضع حداً لها لصالح مفهوم “صفر تهديدات على كل الجبهات”، ويتمحور كل ما يصدر عن محور المقاومة وفق تصريح نائب الأمين العام لحزب الله بأن “توسعة العدوان” من قبل إسرائيل على الحدود من لبنان سيلقى “صفعة كبيرة وبعمل قوي”، وأضاف: “يجب أن يعلم العدو أن جهوزية الحزب عالية جدا، فنحن نجهّز على أساس أنه قد يحصل عدوان له بداية وليس له نهاية، وجهوزيتنا لصد العدوان لا بداية له ولا نهاية له”، وهذه التصريحات تترافق مع إستمرار الإشتباكات والمشاغلة والمساندة للشعب الفلسطيني، هذه التصريحات المعلنة تعبر عن تمسك محور المقاومة بقواعد الإشتباك القديمة وتحاول تثبيتها رغم أن المُعلن نظريا وعمليا من قبل إسرائيل يتحدث عن إنزياحات أمنية جديدة تريد فرضها بالسياسة او القوة
يبقى مشهد العالقين في الثوب الأمريكي والباحثين عن العلاقات الطبيعية في المنطقة وبما يشمل جميع الدول بما فيها إسرائيل وبحيث يكون هناك وجود فلسطيني يُسموه دولة ولو بعد حين، لكن هذا المشهد لا يقوى على فعل شيء ولن يفعل شيئا وينتظر المنازلة بين طرفي المعادلة بإعتبار أنه إما وسيط او صليب أحمر او ينتظر دوره في الإعمار ليفرض شروطه.
أول أسبوع بعد المئة يوم ولم يتم وضع حد للإبادة في قطاع غزة، ولا يزال الصمود الاسطوري للشعب والمقاومة يفعل فعله على الأرض إن كان ذلك بحجم التضحيات الغزيّة او الدور الذي تلعبه المقاومة ويؤدي لإفشال كل الأهداف الإسرائيلية وبالذات مفهوم السيطرة والثبات والإفراح عن الأسرى والمحتجزين، لكني أعتقد أن سياسة محور المقاومة عليه أن يتغير وبما يؤكد عمليا لإسرائيل بأن قواعد الإشتباك تحددها جبهات المقاومة لا المطالبات الأمنية الإسرائيلية، وأن الأمن لا يتحقق إلا بعد قيام دولة فلسطين وحصول شعبها على العودة والحرية والإستقلال، وأن غرور القوة ومزيدا من القوة وفائض القوة ليس سوى وبالا على من يٓعتدّ فيه بغرور يصل عنان السماء، والسابع من أكتوبر كان الدرس الأول الذي لم يُفهم بعد، ويبدو أنه بحاجة لدرس آخر أكثر شمولية وأكثر شدة، حتى لو كان هذا الدرس بالحضور الأمريكي المباشر.