عائد زقوت
أمد/ يتبدى للمتابع من خلال ما يستمع إليه من تصريحات متتالية لبعضٍ ممّن يُديرون المعركة في غزة بترديد عبارة مكرورة ماذا بعد لو تمكن الاحتلال من غزة، وماذا لو تمكنوا من احتلال رفح وكأنّ شيئًا لم يحدث وأن غزة لم يمسسها سوء، فالاحتلال لم يستطع أن يحقق أهدافه سواء بتحرير الأسرى، أو بإنهاء وجود حركة حماس؛ وفي المقابل ما فتئ التحالف الإسرو أميركي وعلى لسان نتنياهو من إطلاق التصريحات مرارًا وتكرارًا بأنّ الحرب على غزة لن تتوقف إلا بتحقيق أهدافها المعلنة بتحرير الأسرى أو الرهائن، والقضاء على حركة حماس.
من نوافل الكلام أنّ حركة حماس فكرة وأيدولوجيا كغيرها من الجماعات أو التكتلات البشرية القائمة على الأيدولوجيا، التي لم يثبت تاريخيًا أنّ فكرة ماتت أو اجتثت من فوق الأرض، ولكن يمكن لها أن تضمحل وتتراجع ويخبو تأثيرها، وأما تصويرها من قبِل الاحتلال كهدف للحرب ما هو إلا ضرب من الخيال وهدف وهمي يُراد منه سَوْق العامة من الناس، وفتح المجال للأفاكين والغارقين في أحلامهم الاستمرار في الوهم الذي تمليه عليهم النرجسية السياسية، وللأسف هذا ما وقعت به وسائل الإعلام العربية بقصد أو بغير قصد بالترديد طوال الوقت عن فشل التحالف الإسرو أميركي من تحقيق أيًا من أهدافه؛ وتندرج وفق هذه الرؤية أيضًا مسألة تحرير الأسرى أو الرهائن، فلم تُشَكِل مسألة تحرير الرهائن يومًا في التاريخ العسكري للحروب التي عرفتها البشرية هدفًا استراتيجيًا لأي معركة أو حرب، ويكاد يكون نادرًا أنه تم بحث مسألة تحرير الأسرى أثناء المعارك وإنما يتم التعامل معها كأحد افرازات انتهاء المعارك والحروب، وما الاصرار الاسرائيلي الأميركي على تكرار هذه الأهداف رغم علمهم أكثر من غيرهم أنها غير قابلة للتحقيق بالوسائل العسكرية؛ يأتي في سياق الاستراتيجية الإسرو أميركية بخلق حالة سيكولوجية لدى العقل العربي، وخلق وهمًا لإشغال الرأي العام به، لا يتعلق بالهدف الاستراتيجي الضمني الحقيقي الذي يسعى لتحقيقه؛ وهذا ما أكدته السياسات الأميركية في العراق حين أشغلت الرأي العام بمسألة امتلاك العراق سلاحًا نوويًا، ثم سرعان ما انكشف زيف هذا الادعاء بعد أن تم تحقيق الهدف الاستراتيجي باحتلال العراق وتفكيك جيشه، والسيطرة على موارده، وتعظيم الدور الإيراني فيه، تهيئة لتقسيم المنطقة العربية، واستهدافًا للأنظمة القوميّة، وهكذا الحال في ليبيا وأفغانستان… الخ.
هذه الاستراتيجية الإسروأميركية تنطبق على الحرب في غزة فبينما ينشغل الرأي العام، وبعضًا من ممتهني التحليل السياسي، وبعضًا آخر وبصورة غير مألوفة وغير مفهومة في إدارة المعارك ممن يشاركون بشكل أو بآخر في إدارة المعركة بالتهليل للفشل الإسرائيلي، متجاهلين الواقع على الأرض؛ في الوقت الذي نرى فيه الاحتلال برسم تحقيق الأهداف الضمنية الحقيقية بإعادة إنتاج غزة جغرافيًا من خلال شق طرق جديدة تعيد هيكلة القطاع بما ينسجم مع المخططات العسكرية الإسرائيلية وديموغرافيًا من خلال الاصرار الاسرائيلي على تهجير الفلسطينيين طوعًا أو قسرًا، وإعادة توزيع ما تبقى من السكان وفق الهيكلية الجديدة للقطاع، حتى يصبح صالحًا ومؤهلًا لحضانة الحلول السياسية المراد فرضها أميركيًا.
هذا السياق يُفسر الاصرار الاسرائيلي على تأكيد وتكرار أهدافها المعلنة حول تحرير الأسرى وإنهاء حماس، فلو أنّ اسرائيل بادرت مباشرة لإعلان أهدافها الحقيقية، ولم تخلق أهدافًا وهمية لَمَا وجدت شيئًا لإشغال الرأي العام العالمي والفلسطيني على وجه الخصوص عن أهدافها الحقيقية من الحرب على غزة، ولَمَا استطاعت كسب المزيد من الوقت من خلال الإعلان المتكرر بأن أهداف الحرب المعلنة لم تتحقق بعد، لتكريس سعيّها الدؤوب لإنجاز مهمتها العظمى في القطاع، وتقديمها أُنموذجًا يُحتذى به لتطبيقه في الضفة الغربية، والانجاز على الهوية الفلسطينية.
حال استمرار التعاطي بهذا الأسلوب مع الحرب على غزة، واشغال الرأي العام والشعب الفلسطيني الذي يموت قهرًا وجوعًا؛ بالهدنة تارة، وصفقة الأسرى تارة ثانية، وعدم القدرة على إنهاء حماس تارة ثالثة، وتارات تلو التارات تتحدث عن البطولات التي لا مجال لأحد أن يُزايد أو يُناظر عليها في جميع محطاتها منذ بداية الصراع وإلى يوم الناس هذا.
في السياق العام للحروب يمكن اعتبار تقويض القدرات العسكرية هدفًا قابلًا للتحقيق كنتيجة طبيعية للعملية العسكرية، ولكنه لا يمكن أن يكون هدفًا استراتيجيًا لها؛ وعليه من المهم للقائمين على إدارة الحرب ادراك أنّ تَأَمُل التاريخ لا للعيش فيه ولا للعيش على أحلامه، وليس للمكابرة وعبادة الذات، بل لاستلهام الدروس للمستقبل، والاستئناس بأحداثه المفصلية، ومعرفة متى يكون الانسحاب من المعارك نصرًا، ومتى يكون التنازل عن جزء من المكتسبات نصرًا، ومتى تكون التصالحات نصرًا، وقبل ذلك معرفة أن قيادة المعارك لا تنطلق من الرؤية الحزبية أو الفردية، واستلهام العبرة والدرس من القول المأثور -هذا ما صنعته لكم- فماذا أنتم صانعون؟.
بالعودة إلى التساؤل ماذا لو حققت اسرائيل أهدافها الحقيقية من الحرب؛ وقتئذٍ سيصحو الجميع على واقع مرير يفيد بأنّ غزة أضحت غير صالحة للحياة، وفقدت كل شيء فيها، وبات الهدف الاستراتيجي الإسرو أميركي قاب قوسين أو أدني من التحقيق، وحينها يصبح تحقيق الأهداف المعلنة واقعًا لا انفكاك منه.
توضيح ؛؛
السياسة لا يمكن قيادتها بالذاتيّة النرجسية، ولا بالأوهام والفراغ الذهني، ومهمة التساؤل ماذا لو أو ماذا بعد هي مهمة المحللين وأصحاب الكلام، وليست من مهام المسؤولين، فمهمة المسؤولين المبادرة إلى اتخاذ القرارات لكبح وإفساد مخططات الاحتلال، والحفاظ على النسيج الوطني ضمن رؤية وطنية جامعة.