فراس ياغي
أمد/ منذ أن إنتهت النبضة الأولى لصفقة تبادل الأسرى في نوفمبر/تشرين ثاني وحتى كتابة هذه السطور جرت مفاوضات متعددة للتوصل لصفقة تبادل أسرى، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية والوسطاء “قطر” و “مصر” أكثر الدول تحركا بهذا الإتجاه، وحدثت لقاءات متعددة أشهرها لقاء “باريس” قبل ثلاثة اشهر تقريبا والذي تم فيه وضع إطار عام للصفقة بحيث تشمل عدة مراحل، لكن الفجوات بين “الكيان الصهيوني” وتوجهاته نتيجة لطبيعته العدوانية ومخططاته غير المعلنة للواقع الجديد الذي يُخطط له بما يتعلق ب “قطاع غزة”، والتجاذبات السياسية الداخلية فيه والتي يتربص فيها البعض للبعض والكل للكل، إضافة إلى المصالح الشخصية والسياسية لِ “نتنياهو” رئيس وزراء الكيان والتي أضحت عناوين ليس وسائل الإعلام بل حتى مجمل النخب السياسية العالمية والإقليمية، أدت إلى عدم حدوث إمكانية لجسر هذه الفجوات مما إنعكس على عدم القدرة على التوصل لصيغة إتفاق هدنة يؤدي تدريجيا لوقف حرب الإبادة على قطاع غزة.
إذاً، ما الجديد الآن؟ ولماذا كل هذا الضجيج حول المُقترح المصري؟!!!
من جانب فإن حرب “الإبادة” المستمرة على “قطاع غزة” وبإجماع الكل تقريبا “ما عدا نتنياهو وعويدته سموتريتش وبن غفير” قد وصلت إلى نقطة حرجة لها ما بعدها ليس على مستوى “قطاع غزة” فقط، وإنما على المستوى الإقليمي والدولي وبالذات “الأمريكي” إضافة للواقع الإسرائيلي الذي يُعاني من تحديات متعددة وصلت لدرجة الأزمة، على صعيد الجبهات وبالذات في الشمال والجنوب بحيث أصبح عنوانها “حرب إستنزاف”، ومستقبل الأسرى والمحتجزين والوضع الإقتصادي، والعزلة الدولية المتصاعدة إن كان ذلك بسبب إنكشاف حقيقة الكيان العنصرية وممارساته الإجرامية من إبادة وتطهير عرقي أمام الرأي العام العالمي وبالأخص منه الغربي، أو على المستوى الرسمي في مختلف دول العالم وبالذات الغربية وعدم القدرة على تحمل تلك الممارسات بسبب من ضغط الرأي العام في تلك الدول.
أما الجانب الآخر فيتعلق بالرؤيا “الأمريكية” التي تحاول إدارة “بايدن” تسويقها وبما يشمل الإقليم ككل، وبحيث يؤدي ذلك لتأسيس تحالف “عربي-إسرائيلي” في مواجهة “محور المقاومة” أو وفق المصطلح الأمريكي “المحور الإيراني”، والذي بدونه ستعيش المنطقة وبالذات “غرب آسيا” نقلة جديدة إستراتيجية جوهرها الصراع ضد “الكيان الصهيوني” وبدون عمق إقليمي أو تحالفات إقليمية، مما ستضطر “أمريكا” للبقاء بشكل دائم من أجل حماية الكيان من جهة، ومن الجهة الأخرى ستسقط كل المشاريع الأمريكية الزائفة التي تتحدث عن دولة فلسطينية غير معروف شكلها ولا لونها.
“أمريكا” تعمل على سحب ملف القضية الفلسطينية من أيدي “محور المقاومة” بإعتباره الذريعة المركزية التي تُعطيه الحق في صراعه مع “الكيان الصهيوني”، وأيضا هو الحاجز الذي يقف في وجه التطبيع وتشكيل التحالفات الجديدة لأجل مواجهة التحالف “الصيني -الروسي- الإيراني”، لكن معطيات السياسة الداخلية في “إسرائيل” أهم بكثير من المصالح الأمريكية، والرؤيا الإستراتيجية “الإسرائيلية” تتعارض حد التناقض مع التكتيكات “الأمريكية”، فقيام دولة فلسطينية أو إعطاء آمال كاذبة حولها لن توافق عليه “إسرائيل” فهذه قضية إستراتيجية تقريبا عليها إجماع من المركز واليمين التقليدي واليمين المتطرف الديني والحريدي.
عليه، من يريد الصفقة؟ ومن لا يريد الصفقة؟ ولماذ؟
أولا- الكيان الصهيوني- منقسم على ذاته في قضية وتقريبا مجمع في قضية أخرى، هو منقسم في الأولويات ولديه تقريبا إجماع في الإستراتيجيات، فالمعارضة ومعها حزب “غانتس” ترى الأولوية هي للإفراج عن الأسرى والمحتجزين حتى لو أدى ذلك لوقف طويل لإطلاق النار “سنة وفق الإقتراح المصري” أو حتى وقف إطلاق نار دائم، المهم هو إنهاء ملف “الأسرى” أولا، مما سينقل طبيعة التجاذبات للوضع الداخلي ويؤدي لمعالجات عاجلة تؤدي لترميم العلاقات مع الحليف الإستراتيجي “الولايات المتحدة” وإجراء تقييم شامل لما حدث ليس في “السابع” من “أكتوبر/تشرين أول” وإنما لتداعياته ومتطلبات تلك التداعيات من حيث المفهوم الأمني الإستراتيجي بما يشمل مفهوم “الردع” الذي تآكل لدرجة الذوبان، ومعالجة مجمل الأزمات وبالذات مشكلة مستوطني “الشمال” و “الجنوب”، وهذا يعني الذهاب لإنتخابات مبكرة، في حين “نتنياهو” وإئتلافه من اليمين الصيوني الديني القومي المتطرف لا يريد أي صفقة ولا يريد تهدئة حتى مؤقته وأولويته الإستمرار في الحكم وإستمرار الحرب والتصعيد ليصل إلى درجة إحتلال كل “قطاع غزة” وحكمه عسكريا وخلق شريط أمني من الشمال والشرق وعلى الحدود المصرية، ويقسم القطاع إلى منطقتين سيتم التعامل معهما بمنظور أمني، وهناك من يرى أن خطة “نتنياهو” هو إحتلال لمدة سنتين بالحد الأدنى وذلك لتطهير “غزة” من المقاومة ومن الأنفاق، لكن الحقيقة غير المُعلنة تكمن في التوجه نحو مفهوم “الترحيل”، “قسريا” إن أمكن و “طوعيا” لاحقا، ويعتبرون هذه فرصة للتخلص من كتلة ديمغرافية فلسطينية أو تخفيف عددها ويؤدي إلى إنهاء شيء إسمه “دولة فلسطينية” عمليا بعد أن تم دفن ذلك عبر الإستيطان والتهويد في “الضفة الغربية” و “القدس”…أما قصة المصالح الأمريكية والتطبيع فمن وجهة نظر “نتنياهو” أن ذلك سيتحقق عاجلاُ أم آجلاُ لأن لا خيار غيره لدى الدول العربية المعتدلة في مواجهة ما يسميه “المحور الإيراني”، لذلك يعتبره “تحصيل حاصل”.
ثانيا- الولايات المتحدة- “إدارة بايدن”، بالرغم من أنها تتوافق مع حكومة الطواريء “نتنياهو” على الأهداف، إلا أنها ترى أن ما تقوم فيه “إسرائيل” سيغرقها ليس في وحل وأنفاق “غزة” وإنما في الإقليم وفي العالم ككل، وأن “إسرائيل” بدون تحالفات في المنطقة تؤدي لمَنْعَتها ليس فقط أمنيا وإنما من حيث مفهوم الإزدهار ومواجهة المخاطر فهي ذاهبة نحو المجهول الكارثي والذي اساسه “هزيمة إستراتيجية وتاريخية”، لأنها سوف تحتاج بشكل دائم الى حماية “أمريكية” وبدونها لن تستطيع البقاء، لذلك تضغط نحو التطبيع مع “السعودية” مقابل بدء الحديث عن “دولة فلسطينية”، وترى أن الذهاب إلى صفقة حتى لو كانت مؤقتة قد تؤدي لإحداث تغيير في الداخل الإسرائيلي يؤسس لتشكيل حكومة جديدة برئاسة “نتنياهو” ولكن بدون عويدته المتطرفين “سموتريتش وبن غفير”، وأن قضية “رفح” يمكن تأجيلها أو حتى إلغاؤها كليا لأن من فوائد “التطبيع” هو حماية “إسرائيل” وأمنها بأيدي عربية وفلسطينية، اي هم من سيتكفلوا بنزع سلاح المقاومة ليس في “رفح” وحدها وإنما في كل قطاع “غزة”، وهذا يتطلب مقاربات سياسية جديدة “إسرائيلية” داخلية، و “فلسطينية” “مُتجددة” وبما يعني ذلك إبعاد “حماس” وبقية فصائل المقاومة عن المشهد الفلسطيني ولو مؤقتا، أيضا هذا سيؤدي لإنهاء التصعيد في كل المنطقة إن كان ذلك في جبهة “الشمال” أو في “البحر الأحمر”، مما سيمكن “الأمريكي” من العودة للتفرغ للصراع مع “روسيا” (الحرب الأوكرانية) و أيضا الإستمرار في محاصرة “الصين” عبر تقويض خططها وبالذات طريق “الحرير” وإستبداله بطريق “الهند- أوروبا” الذي سيمر من الدول العربية حتى “إسرائيل” ومنها إلى “أوروبا”.
ثالثا- جمهورية مصر العربية- تبذل جهودها لمنع إجتياح “رفح” لأن ذلك يعتبر بالنسبة لها “أمن قومي”، وهي تضغط من أجل التوافق على صفقة تبادل، هي تحاول أن تتعاطى مع الجانب “الأمريكي” وترى في “الهدنة المؤقتة” بأنها قد تتحول إلى دائمة وفقا للنظرة البرغماتية لدى صناع السياسية في “واشنطن” حيث الآمال كبيرة على قدرتها “واشنطن” على إحداث تغيير في الداخل “الإسرائيلي” رغم أنني اشك كثيرا في تلك القدرة، فمصالح “نتنياهو” ستقف سداً منيعا يمنع هذا التغيير، ومن جهة أخرى أي إجتياح من قبل “الإسرائيلي” لِ “رفح” سيزيد من الأعباء على “مصر” إن كان ذلك من حيث إمكانية دخول “نازحين” إلى “سيناء” أو من حيث الموقف السياسي الذي يجب أن يتغير تجاه العلاقة مع الجانب “الإسرائيلي”، وهي في غنى عن ذلك، وهنا الإحتياج للوصول إلى صفقة أصبح ضرورة وطنية وأمنية عدا عن أن التصعيد في المنطقة أضر أيضا بالإقتصاد “المصري” (البحر الأحمر وقناة السويس)، إضافة لوقف عملية تصفية القضية الفلسطينية والتطهير العرقي الذي تمارسه “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني.
رابعا- المملكة العربية السعودية- الصفقة ضرورة وإحتياج ومتطلب عاجل لأجل الذهاب قدما في الرؤيا “الأمريكية”، هي ضرورة للتقدم في الملفات الأمنية الإستراتيجية والنووية المدنية مع “الولايات المتحدة” قبل أن تدخل إدارة “بايدن” في مرحلة الإنتخابات الرئاسية مما سيؤدي لتأجيل أو حتى نهاية ذلك كليا، فلا يوجد إمكانية لتحقيق ذلك إلا بوجود رئيس ديمقراطي للولايات المتحدة الأمريكية لإعتبارات تتعلق بالتصديق على تلك الإتفاقيات في “الكونغرس” و “مجلس الشيوخ”، وهي إحتياج للتطبيع ومتطلب عاجل للمضي قدما في خطة ما بعد الحرب على “غزة” والإعتراف بِ “الدولة الفلسطينية”، لذلك تدعم بقوة الجهود نحو الذهاب إلى صفقة تهدئة، طبعا إضافة لوقف التصعيد في المنطقة وحرب الإبادة على قطاع “غزة”.
خامسا- المملكة الأردنية الهاشمية- هناك مصلحة أمنية قومية ترتبط بالأمن القومي الأردني وتستدعي العمل والضغط بإتجاه وقف العدوان وحرب الإبادة على قطاع “غزة” وذلك لإعتبارات إستراتيجية تتعلق بما يحاول اليمين المتطرف في “إسرائيل” تسويقة ومحاولة تهجير الفلسطيني من “الضفة” و “القدس” إلى “الأردن”، فإجتياح “رفح” له ما بعده في “الضفة الغربية” و “القدس” وفقا للمخططات الصهيونية المتطرفة التي عبر عنها الكثير من أقطابها وبالذات “سموتريتش” و “بن غفير” وغيرهم من أعضاء الكنيست من حزب “الليكود”.
سادسا- محور المقاومة وبما يشمل مختلف الجبهات وبالذات حركة “حماس”، هذا المحور معني بالتوصل إلى صفقة تؤدي لوقف حرب “الإبادة” ضد قطاع “غزة” أولا، ويرى في وقف الحرب بشكل كامل والإنسحاب من قطاع “غزة” حتى لو كان ذلك عبر مراحل هو المقدمة نحو إفشال كل الأهداف “الإسرائيلية” ومعها “الأمريكية”، وبالتالي فإن الذهاب إلى صفقة وفقا لهذه الرؤيا يُعتبر هو الخط الأحمر الذي لا تنازل عنه، وأن مخاطر الذهاب إلى هدنة “مؤقتة” دون ضمانات مؤكدة تؤدي ولو تدريجيا لوقف شامل للحرب في مراحل الصفقة الثانية والثالثة، هي أكبر بكثير من “هدنة” لعدة أسابيع تسمح لِ “الأمريكي” ومعه “الإسرائيلي” لتنفيذ سياساته ليس فلسطينيا فحسب وإنما على مستوى الإقليم ككل، فمن غير المعقول تكرار تجربة “هدنة تشرين ثاني/نوفمبر” والتي قام “نتنياهو” فورا بعد إنتهائها بإستمرار القتال، صحيح أن من مصلحة جميع الجبهات الذهاب نحو هدنة، وصحيح أن هناك كارثة إنسانية في قطاع “غزة”، وصحيح أن “الهدنة” ستمنع أو تؤجل إجتياح “رفح”، لكن ذلك يعني تسليم الورقة الإستراتيجية الوحيدة لدى “حماس” مقابل منع “الموت” ومنع تدمير “رفح” لعدة أسابيع، هنا فإن الأفضلية هي لإستمرار الضغط عبر كل المتاح من أجل تحصيل صفقة نهايتها وقف شامل للحرب، وبما يستدعي ذلك من طرح أفكار جديدة خارج الصندوق، أفكار إبداعية، اي الذهاب في الحديث حول خطة ما بعد الحرب على “غزة” عبر التواصل مع مختلف الفصائل والقطاعات والتجمعات “الغزية” بالأساس لطرح مفهوم يتحدث عن الدولة الفلسطينية وفي سياق ما صرح فيه السيد “خليل الحية” نائب رئيس حركة حماس في قطاع “غزة”.
إذاً نستطيع القول أن الكل يريد بطريقة أو بأخرى الذهاب إلى صفقة تؤدي إلى وقف تام للحرب وتهدئة كافة الجبهات، على الرغم من أن لكلٍ إعتباره، لكن “الأمريكي” ومن معه يريد الذهاب بدون ضمانات واضحة لوقف الحرب ليبقي ذلك سيفا مسلطاً ضد “حماس” والمقاومة وبحيث يُشكل ذلك ورقة ضغط على خطة ما بعد الحرب، في حين “نتنياهو” وشركاؤه المتطرفين لا يريدون ذلك لأن كل مصالحهم الشخصية وخططهم الأيديولوجية لن يكون لها مكان لا في داخلهم “الإسرائيلي” ولا في الجغرافيا الإقليمية.
الخلاصة:
“رفح” هي العنوان، لأن ما بعدها سيختلف كلياً عما قبلها، فالذهاب نحو صفقة شاملة تؤدي لوقف الحرب على قطاع غزة وتبادل للأسرى سيؤدي لمقاربات سياسية جديدة قد تؤسس لواقع مختلف يمكن أن يتم البناء عليه على المدى المتوسط والبعيد من حيث مفهوم تشكل “الدولة الفلسطينية”، وعدم الذهاب لصفقة بسبب من موقف “نتنياهو” وقيامه بإجتياحها يعني تغيير إستراتيجي شامل في المنطقة، كل الرؤى السياسية “الأمريكية” وغيرها سوف تنتهي، التحالفات الإقليمية سوف تبدأ في التغير، حرب الإستنزاف ستشكل العنوان الأساسي لما بعد “رفح” وسوف تتعدد أشكالها وقد تؤدي لتصعيد كبير على مستوى الإقليم سيدفع ثمنها ليس “الإسرائيلي” فحسب نتيجة حساباته الخاطئة، بل “الأمريكي” ومجمل حلفه، أما القضية الفلسطينية فسوف تعود لما قبل “أوسلو” وما يعنيه ذلك من إحتلال مباشر وصراع تناحري الخاسر الأكبر فيه هي “إسرائيل” خاصة أنها هذه المرة ستكون منبوذة لدى الرأي العام العالمي ككل، بل ستزيد الضغوطات عليها حتى من قبل أقرب حلفاءها.
الله غالب والإحتلال إلى زوال.