أسامة خليفة
أمد/ بينما تدور أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، وفي صيف عام 1942، بدأت منظمات شبه عسكرية يهودية بناء خنادق في الحي اليهودي في وارسو في بولونيا المحتلة من قبل الألمان، وشرع أعضاؤها بتهريب الأسلحة والمتفجرات إلى داخل الحي، استعداداً لمعارك مقبلة مع الألمان وسط منطقة محدودة المساحة تبلغ مساحتها 3.3 كيلومتراً مربعاً، كثيفة السكان تعج بالمدنيين لنحو نصف مليون إنسان معظمهم من اليهود، سيطرت منظمتا المقاومة، « زي زي دبليو» و« زي أو بي»، على الغيتو، وقامتا بتشييد مواقع القتال وسط الحي اليهودي، هذا في المفهوم الأمريكي الإسرائيلي الآن هو استخدام المدنيين دروعاً بشرية على نحو ما تطبقه على قطاع غزة ودور الفصائل الفلسطينية في بناء شبكة أنفاق لحماية المقاومين من نيران الهجمات العدوانية في حروب ضد شعبنا لم تتوقف حتى تعود من جديد أكثر شراسة وفتكاً.
قضت القوات الألمانية على المقاومة العسكرية المنظمة في غضون أيام من بداية انتفاضة غيتو وارسو، في هذا الانتصار السريع على انتفاضة الغيتو صار الحي اليهودي حطاماً سوّته النازية بالأرض، وأمر قائد الهجوم الألماني تدمير الكنيس الموجود بشارع تلوماتسكي في 16 مايو 1943، وترحيل أكثر من ربع مليون يهودي كعقاب للحاضنة الشعبية، استطاع أفراد معدودين من المقاومين الإفلات والاختباء، وقاتلوا الألمان لمدة شهر تقريباً كذئاب منفردة، وحسب المفهوم الغربي الآن، الذئب المنفرد هو شخص يرتكب أعمال عنف وحده مدفوعاً بتوجهات عقائدية أو أيديولوجية أو قومية، وهي تسمية يراد بها اتهام المقاوم بالإرهاب، في حين ما زال الغرب ينكر على الحاضنة الشعبية أن تعطي الشرعية للمقاومة، لأن ذلك يمكّن قوات الاحتلال من الاستفراد بالمقاومين إذا كانوا جماعة منعزلة أو غريبة عن بيئتهم الحاضنة، أو أنهم حالة يسهل التخلي عنها، وإذا لم يقتنع الشعب بقضيتهم يصبحون كما يسميهم العدو الذئاب المنفردة.
في غيتو وارسو تم نزع الحاضنة بترحيلها عن مناطق تواجدها، مما سهل تفكيك خلايا المقاومة وأصبح الفعل المقاوم يجري بشكل مستقل تماماً وخارج عن خطط القيادة التي فقدت السيطرة والفاعلية، وأصبحت أعمال المقاومة يائسة لدرجة اللجوء لتنفيذ عمل انتحاري. العمل القتالي العسكري أساساً عمل جماعي وليس عملاً منفرداً، حتى المهام الخاصة كالإغارات والكمائن وغيرها تعتمد بشدة على العمل الجماعي المنظم في والمخطط في خطواته والمحكم في التنفيذ.
كثير من التساؤلات تطرح الآن على حالة الغيتو هذه، هل كانت تلك المنظمات المقاتلة في وارسو تتطلع أن يكون المدنيون في الحي سوراً واقياً للمقاتلين تحصنوا وراءهم ؟. لماذا لم تلجأ الفصائل المقاتلة إلى الغابات أو إلى الجبال وتتحصن هناك؟. وبما لا يورط المدنيين؟. أو يوقعهم وسط تبادل إطلاق النار؟. كي لا يتخذ الجيش النازي -الذي يمتلك من آلات القتل والتدمير أحدثها وأكثرها فتكاً- وجود المقاتلين ذريعة لاستهداف المدنيين؟. كيف يمكن نزع ورقة استهداف البيئة الحاضنة من يد العدو لفرض شروطه ؟.
عندما يفشل العدو في مواجهة المقاومة ليس أمامه سوى ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة، يستهدف البنية التحتية، ويزرع الدمار الواسع في كل عدوان يشنه على مواقع مدنية يتذرع أنها ملجأ للمقاومين، وهذا حال جيوش الاحتلال على مر التاريخ تسعى إلى استهداف الحاضنة الشعبية والتغول في القتل ليشكل إيقاع خسائر جسيمة بها عامل ضغط على المقاومين لانتزاع تنازلات ميدانية وسياسية، والأمثلة كثيرة، ومنها قصف قوات الاحتلال الفرنسي بالمدفعية والطيران الأحياء السكنية في دمشق في العام 1925 لمدة ثلاثة أيام متواصلة، أحرقت خلالها قذائف مدفعية وطيران المستعمرين عشرات الأحياء والأسواق الدمشقية ذات التاريخ العريق، ومنها حي سيدي عامود الذي أصبح بعد حرق وتدمير بيوته الدمشقية العتيقة ومنشأته الأثرية يسمى حي الحريقة.
مخيمات اللاجئين عنوان القضية الوطنية وحق العودة، أبناؤها هم طليعة المقاومة ولدوا في ظروف المعاناة التي سببتها النكبة والتي بقيت آثارها ماثلة عبر ما يزيد عن 75 عاماً، ظروفها الاقتصادية والجغرافية والديمغرافية شكَّلت بيئة حاضنة للمقاومة، تعتبر مخيمات غزة أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، تعاني الفقر وحياة البؤس والتشرد والاكتظاظ السكاني والحيّز الجغرافي الضيق، كان لهذه المخيمات دور بارز في أحداث الانتفاضة الأولى 1987، التي اندلعت شرارتها الأولى من مخيم جباليا، فقد مثلت الحاضنة الفعلية لفعل المقاومة، وذلك عبر أشكال متعددة في إطار المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، ثنائية مقاومة وشعب أقلقت قادة العدو الصهيوني، فانتهزوا أحداث طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023، معتبراً إياها فرصة مواتية للاحتلال كي يفصل الحاضنة عن المقاومة بالتهجير والتطهير العرقي، في ممارسة لجيش الاحتلال الصهيوني تفوق ممارسات النازيين في غيتو وارسو، تعرضت الحاضنة الشعبية في غزة للحصار لسنوات طويلة، وتعرضت لحملة إبادة وتجويع وتدمير المنازل والترحيل والتنكيل وتدمير البنى التحتية، ما لم تتعرض له أي حاضنة شعبية عبر تاريخ البشرية، ووقف العالم مندهشاً من صمودها والتفافها حول المقاومة، وما زال العدوان متواصلاً على القطاع ينذر بكارثة إنسانية، إلا أن أهل غزة لم يتخلوا عن تلك الفصائل، ولم يتمردوا على المقاومة، مدركين أن ذلك يؤدي إلى إضعاف المقاومة، وإحراجها عربياً ودولياً، تمسكت الحاضنة الشعبية بالمقاومة، و تحدت الاحتلال، ولم يحمّل سكان القطاع المقاومة مسؤولية ما حل بهم، رغم وسائل الإعلام التي حاولت أن تربط سبب ما حل بسكان غزة إلى ما قامت به حركة حماس يوم 7 أكتوبر. وعلى العكس من ذلك ازداد تمسك الحاضنة الشعبية بالمقاومة، بارتباط الخيار الوطني، بدافع الرغبة بالثأر، للشهداء والجرحى، أصبحت المقاومة خياراً للثأر من الاحتلال الذي أدخل الموت والخراب إلى كل بيت في غزة.
أما في الضفة الغربية فقد أرادت سلطات الاحتلال أن تفرض عقوبات على البيئة الحاضنة للمقاومة بأن تجعل من المخيم غيتو محاصر من كل الجهات، فأقدمت على إحاطة حدوده بجدران إسمنتية عالية وأسلاك شائكة، وإغلاق مداخله، ضمن خطة تشمل جميع أنحاء الضفة لجعل التجمعات السكانية الفلسطينية من المدن والقرى والمخيمات معازل محاطة بالمستوطنات والأسوار والمعابر والشوارع الالتفافية.
المخيمات «بؤرة المقاومة»، تؤوي مقاومين من داخلها وخارجها ذلك جعلها هدفاً للاحتلال، وباتت في نظر الاحتلال بؤراً للإرهاب، يسميها «عش الدبابير»، تتعرض لاقتحامات الجيش الإسرائيلي، وعمليات تخريب وتدمير للبنية التحتية، وترهيب السكان الآمنين، والهدف ردع الفلسطينيين حتى لا يحتضنوا المقاومة.
طالما كانت المخيمات الفلسطينية خزان الثورة تمد الفصائل بالمقاتلين والحزبيين والإطار الصديق، وبقيت العلاقة المتينة دون انقطاع بين المقاومين وبين حاضنتهم الشعبية رغم كل محاولات ضرب هذه العلاقة عبر القتل والتدمير والاغتيال والحصار الاقتصادي، وعبر وسائل الإعلام وبرامجها الموجهة لجمهور المقاومة والتي تتبع أدق النظريات والدراسات النفسية والاجتماعية.
في مخيمات لبنان وجدت المقاومة الملجأ، وضربت الحاضنة الشعبية أروع الأمثلة في الصمود أمام العدو الإسرائيلي والمليشيات الانعزالية، المتعاونة معه، وتواصلت الغارات والقصف العنيف على المخيمات دون توقف خلال مرحلة تموضع قوات الثورة الفلسطينية في لبنان، وكان أشده عدوانية ووحشية في اجتياح العام 1982، أعقبه مجزرة صبرا وشاتيلا، رغم ذلك بقيت مخيمات لبنان حصون منيعة وفية للمقاومة.
باتت المخيمات في الضفة تشكل معاقل للخلايا العسكرية المنظمة التي تطورت من العمليات الفردية، وتوسعت إلى كتائب مقاتلة ( كتيبة جنين، مجموعة عرين الأسود، كتيبة طولكرم، كتيبة مخيم عقبة جبر….) رغم ممارسات الاحتلال من اجتياح دائم واعتقالات واغتيالات وإعدام ميداني للمقاومين وترهيب وتخريب وتسلل المستعربين.
وإذا كان العدو يسعى لإضعاف الرابطة بين المقاومين وبيئتهم الحاضنة، فالمؤكد أن يسعى قادة المقاومة إلى تفعيل دور الحاضنة الشعبية وضمان الحفاظ عليها وعدم تراجعها، فلا تنسلخ القيادة عن الجماهير، وينغمس الكادر في الحركة الجماهيرية ولا يتعالى عليها، ويدعم الحوار والتفاعل مع هذه الحاضنة، ليبين لها برنامج وسياسات المقاومة وما تريد القيادة أن تقوم به تحقيقاً للأهداف الوطنية.
عبر تاريخ اندلاع الثورات والانتفاضات الفلسطينية في الماضي وصولاً إلى الحاضر، تساند الحاضنة الشعبية المقاومة وتحميها وترعاها ببذل التضحيات من أجل استمرارها والمضي نحو تحقيق أهدافها الوطنية. تمثل انتفاضة الحجارة في عام 1987 مرحلة مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني عكست مدى التلاحم بين المقاومة والحاضنة الشعبية، ولم تنجح السياسات الإسرائيلية منذ بدء الصراع في تحييد دور الحاضنة الشعبية عن دعم المقاومة عبر إشغال هذه الحاضنة بأمورها الحياتية اليومية عن طريق استخدام وسائل التضييق والضغط المستمرة عليها، وإلهائها بتحصيل لقمة العيش لضمان تغييب الشعب الفلسطيني عن قضيته الوطنية.
الحاضنة الشعبية هو المصطلح الذي يُطلق على التأييد والدعم الشعبي للثائرين أو للمسلحين أمام قوات الاحتلال،
في ورقة عمل صادرة عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، يعرّف الباحث الفلسطيني ماجد إبراهيم أبو دياك الحاضنة الشعبية بقوله: « هي مجموعة من الفعاليات والمواقف الشعبية المساندة لقضية ما، وتأتي انعكاساً لموقف أيديولوجي أو سياسي، كما تتأثر بالانتماء إلى ثقافة مشتركة، وتتسع أو تضيق حسب الظروف السياسية».
بينما اعتبرها آخرون بأنها تلك البيئة التي تحتضن المقاومة الشعبية، وتكون مستعدة من خلال هذا الاحتضان أن توجد لها بيئة عمل مناسبة وصحية، وأن تدعمها سياسيا واقتصاديا وتوفر لها ما تتطلبه من احتياجات، وأن تتحمل التكاليف والاستحقاقات والأثمان الناتج عن هذا التحمل.
الحاضنة الشعبية الفلسطينية هي الجمهور المقتنع ببرنامج المقاومة، والمستعد لتقديم التضحيات وتحمل النتائج التي تأتي بها أي مواجهة مع الاحتلال، ولها دور مهم في الحماية الشعبية للمقاومة وفي الإسناد.
تكمن قيمة الحاضنة الشعبية في إنجازها عدة أمور على الصعيد الوطني، تساهم في رسم صورة القضية الفلسطينية كقضية شعب بأكمله يرفض الاحتلال. وتساهم في إسقاط الرهان الإسرائيلي على أن هناك فجوة بين المقاومة الفلسطينية وجماهير الشعب الفلسطيني. وتعكس الوعي الوطني وإدراكه لأهمية خيار المقاومة بعد فشل مسارات التسوية السياسية، وتصاعد حملات الاستيطان والتهويد ولاسيما في مدينة القدس، وهي خزان الثورة البشري والمادي، تخفف الحاضنة الشعبية الضغط على المقاومة وترفع معنوياتها، وتعوض التفوق المادي في موازين القوة بين قوة احتلال وشعب واقع تحت الاحتلال، باستعدادها للتضحية، وبإصرارها على الاستمرار في دعم المقاومة حتى نيل الحرية والاستقلال.
أبرز أشكال التفاف الحاضنة الشعبية مع المقاومة الفلسطينية تشييع شهداء المقاومة والهتافات المؤيدة والداعية إلى استمرار المقاومة ولا سيما موقف ذوي الشهيد وما يدلون به من تصريحات تؤكد تقبلهم لتضحية الشهيد.
وتبرز أيضاً في تصدي الحشود الشعبية للجيش وآلياته لمنعه من هدم بيت منفذ عملية ضد جيش الاحتلال أو مستوطنيه، ليتحول المكان إلى ساحة مواجهة بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيونية، الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية في مدينة بيت المقدس
ولأنها حاضنة المقاومة فهي ترى أن نهج التسوية ومسار أوسلو ليس المسار الصحيح الموصل إلى بلوغ الأهداف الوطنية، فبعد تعثر هذا المسار وانغلاق أفقه، نطورت الحاضنة الشعبية لتحمي المجموعات المسلحة، إذ أشار استطلاع نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في حزيران/ يونيو 2023، أن 71% من الفلسطينيين يؤيدون تشكيل المجموعات كعرين الأسود وكتيبة جنين وغيرهما. وقد تؤثر على هذه النسبة حالة الانقسام السياسي والانتماءات الحزبية التي قد تحدث شرخاً واضحاً في الحاضنة الشعبية، والتنسيق الأمني مع حكومة الاحتلال، أحد العوامل المهمة المؤثرة سلباً في الحاضنة الشعبية ليس فقط في مجال الدعم السياسي والاستراتيجي، بل في كل المجالات التي تخدم الشعب الفلسطيني الاجتماعية، والثقافية، والرياضية، والشبابية، والصحية. لذلك وجود حاضنة واعية سياسياً تحول دون التفريط بالتضحيات الجسام التي يبذلها المقاومون ويبذلها الشعب المساند خلال الصراع مع الاحتلال.
ولدت المقاومة الفلسطينية من رحم الشعب وتطورت في أحضانه معتمدة على قناعة الحاضنة أن استخدام المجموعات المسلحة للعنف مبرر شرعياً ووطنياً وإنسانياً وأن اللجوء للعنف سببه الاحتلال وممارساته القمعية ورفضه المطلق الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. لذلك فالعنف الثوري هو ضرورة لا بد منها للانعتاق من الاحتلال وطغيانه، ويمكن القول إن حركات التحرر الوطني كلها كان شعبها حاضناً لها، السبب الأول في التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة، هو وعي الفلسطينيين بأن للمقاومة دور في إحراز مكاسب سياسية عبر البطولة والتضحية في معركة التحرير واسترداد الحقوق.