أمد/
لندن: تروي الحلقة الخامسة والأخيرة تفاصيل نفي رفعت واللقاء الأخير بين نائب الرئيس الراحل عبد الحليم خدام والأسد قبل وفاته في يونيو/حزيران 2000…
في أوائل أبريل/نيسان 1984 تلقى خدام دعوة من رئيس وزراء فرنسا جاك شيراك لزيارة فرنسا، و”عندما أبلغت الرئيس حافظ بالدعوة قال: نريد أن نجد مخرجا لرفعت من البلاد، أرى أن يسافر عوضا عنك، فأجبته: لا مشكلة عندي وسأطلب من وزير الخارجية استدعاء السفير الفرنسي وإبلاغه بأن نائب الرئيس رفعت هو الذي سيقوم بالزيارة”.
وبالفعل أبلغ خدام وزير الخارجية بالموضوع، وفي اليوم الثاني جاء السفير الفرنسي إلى الخارجية وأبلغ الوزارة بأن الدعوة موجهة لنائب الرئيس السيد عبد الحليم خدام.
وبعد إبلاغ الرئيس حافظ الجواب الفرنسي، “قال: سنعمل على ترتيب دعوة لرفعت من الاتحاد السوفياتي، وسألني عن المواضيع بعد اتصالات مع موسكو وجه السوفيات دعوة لرفعت وقام بالزيارة، وقد اشترط أن يرافقه الضابطان شفيق فياض، وعلي حيدر، فاستجيب طلبه، ورافقه بالزيارة كل من اللواء ناجي جميل، ووزير الخارجية فاروق الشرع.
ويروي خدام: “لا بد من الإشارة إلى أنه من شروط التسوية بين الرئيس حافظ وشقيقه رفعت أن يدفع له مبلغا كبيرا من المال، وكما علمت فقد أعطي حوالي خمسمائة مليون دولار، جزء كبير منها كان قرضا من ليبيا”.
وقبل مغادرته دمشق، قال رفعت في لقاء مع أصدقائه: “يبدو أن أخي لم يعد يحبني؛ عندما يراني يعبس، لكني لست عميلا أميركيا، ولم أتآمر ضد بلدي. لو كنت أحمق، لدمرت المدينة بأكملها، لكني أحب هذا المكان. رجالي هنا منذ ثمانية عشر عاما، والناس معتادون علينا؛ إنهم يحبوننا، والآن يريد هؤلاء المغاوير طردنا”.
وفي 28 مايو/أيار 1984، توجهت طائرة إلى موسكو مليئة بضباط بمن فيهم رفعت، لفترة تهدئة. بعد انتهاء الزيارة إلى موسكو توجه رفعت إلى جنيف، وبعد أيام غادر إلى دمشق أعضاء الوفد وبقي معه اللواء ناجي جميل.
ويتابع خدام: “لم يتخذ الرئيس حافظ الإجراءات العملية لتصفية جماعة رفعت في القوات المسلحة ولا سيما في سرايا الدفاع وبقي الضباط الموالون له في مواقعهم ما عدا الذين أخذهم معه إلى الخارج مما أثار القلق والتساؤل لدى الذين واجهوا رفعت وتصدوا له دفاعا عن الرئيس في مرحلة مرضه”.
في مطلع يوليو/تموز من ذلك العام، “كنت عائدا من بلودان وكنت أقود السيارة، وبعد أن تجاوزت منطقة الصبورة، شاهدت سيارة على يمين الطريق، وكانت في رأس الطلعة، وبمواجهتها كان يقع أحد مراكز قيادة سرايا الدفاع، وعند اقترابي منها حدث انفجار شديد وانفجرت إطارات سيارتي، لم أتوقف، وتابعت السير على الحديد حوالي ثلاثمئة متر، فوقفت السيارة، وركبت وزوجتي في إحدى السيارات المرافقة وتوجهت إلى منزلي. لقد أدى الانفجار إلى قذف محرك السيارة التي انفجرت لمسافة تزيد على مئتي متر بسبب قوة الانفجار”.
لدى الكشف عما تبقى من هيكل السيارة، تبين أنها تعود لمحامٍ منزله مجاور لمكتب أمن “سرايا الدفاع”، وكل الأدلة كانت تشير إلى اتهام أمن “السرايا” بالقيام بالتفجير باستخدام الروموت من بعد، ولم يحاسب أحد، بحسب أوراق خدام.
لم يمض بعض الوقت لخروج رفعت من سوريا، حتى صدرت لائحة بإبعاد عدد من ضباط “السرايا” خارج القوات المسلحة. كما تم تعيين قائد جديد لـ”سرايا الدفاع” اللواء حكمت إبراهيم المعروف بولائه للرئيس.
رفعت يحتفظ بمناصبه رغم المنفى
في الخامس من يناير/كانون الثاني عام 1985 عقد المؤتمر القطري لحزب “البعث” وجرى نقاش مطول خلال جلسات المؤتمر حول ما سمي “أزمة رفعت”، وانبرى عدد من أنصاره للدفاع عنه، كما أن عددا كبيرا من أعضاء المؤتمر هاجموه هجوما شديدا.
ويوضح خدام: “كان الجو العام في المؤتمر يتوقع إبعاد رفعت ومجموعته عن القيادة القطرية، لكن المفاجأة الكبرى لي وللذين وقفوا ضد رفعت دفاعا عن الرئيس حافظ أن الرئيس ما زال متمسكا بشقيقه وإبقاء صفة الشرعية الحزبية له”.
الأسد دعا خدام إلى اجتماع بمكتبه في المؤتمر، وفوجئ خدام بكلامه عن شقيقه وبقائه في قيادة الحزب ومناصبه. وحسب أوراق خدام:
الأسد: “رفعت بحكم المنتهي ولن يعود إلى سوريا، وأريد إبقاءه في القيادة لمرحلة معينة ثم يتم إبعاده عن الحزب وعن الدولة”.
خدام: “هذا القرار ستكون له انعكسات سلبية، وعليك شخصيا. تمرد فكافأته والآن تريد المحافظة عليه، فكيف سيفسر رفاقنا هذا الموقف؟ وسيتساءلون لو أن أحدهم ارتكب ما ارتكبه رفعت ماذا سيكون مصيره؟”.
الأسد: “دعوتك لتجمع رفاقنا العسكريين القياديين وتقنعهم بعدم التحسس”.
خدام: “أنا لست مقتنعا فكيف أقنعهم؟”.
الأسد: “هناك ظروف تتطلب هذا الموقف إنني أعرف جيدا ما فعله رفعت، ويستاهل أشد العقاب، ولكن استخدام القوة بالتعامل معه كان سيؤدي إلى قتل آلاف الناس وإلى تدمير البلد. الهدف هو اقتلاع عوامل الفتنة قبل الخلاص منه، لذلك أتمنى عليك أن تجتمع بهم وأن تحاول تهدئتهم، وتعاون أنت والعماد حكمت”.
يتابع خدام: “بالفعل تحدثت مع العماد حكمت، وكانت لديه التساؤلات نفسها، واتصلت بالضباط المطلوب اللقاء معهم وهم: علي دوبا، وإبراهيم الصافي، وشفيق فياض، وعلي الصالح، وعلي حيدر، واتفقنا على اجتماع في مكتب العماد حكمت. خلال استراحة الظهر توجهنا إلى مكتب العماد حكمت، وعرض الموضوع، وكانت ردة الفعل شديدة وتكلم بعضهم كلاما جارحا، وجرى نقاش طويل، وهدأت أجواؤهم وعدنا إلى المؤتمر”.
هكذا استمر العميد رفعت نائب الرئيس في القيادة القطرية دون أن يحضر أي اجتماع، ولم يعد إلى سوريا إلا في حالتين: الأولى عام 1992، بناء على رغبة والدته التي توفيت في ذلك العام. وفي عام 1994، حين عزى شقيقه حافظ عندما توفي نجله باسل، لكنه سُرح في وقت لاحق من العام نفسه من منصبه في الجيش، واستمر في شغل منصب نائب الرئيس، قبل أن يعفى لاحقا.
يقول خدام: “كان تقييمي لموقف الرئيس حافظ أن وراء الإبقاء على شقيقه في القيادة القطرية مسألة التوريث… وعندما انتهى دور رفعت تم طرده من الحزب وإقالته من موقع نيابة الرئاسة”.
عندما توفي الرئيس حافظ، يوم 10 يونيو/حزيران 2000، أمر خدام باعتقال رفعت، إذا حاول حضور جنازة الرئيس في 13 يونيو/حزيران.
الأسد- خدام: اللقاء الأخير
“في الأول من يناير/كانون الثاني عام 1987 صدر مرسوم بتشكيل الحكومة برئاسة المهندس الزراعي محمود الزعبي والذي يشغل منصب رئيس مجلس الشعب، واستمر في رئاسة الحكومة حتى 13 مارس/آذار 2000. بذلك تكون رئاسته للحكومة أطول مدة يقضيها شخص في هذا الموقع منذ تاريخ استقلال سوريا.
في السادس من ديسمبر/كانون الأول 1999 اتصل بي الرئيس حافظ، ودعاني إلى منزله في الساعة الثامنة مساء، واستمر اللقاء بيننا من الساعة الثامنة مساء حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وهي المرة الأخيرة التي اجتمعت به”.
يقول خدام: “كانت حالة المرض والتعب بادية على وجهه، وكلما حاولت الانصراف كان يصر على البقاء، وكأنه كان يشعر أنه اللقاء الأخير، كان ودودا، واستغرق حديثنا عن مرحلة الشباب وقتا طويلا، ثم انتقل إلى الحديث عن الوضع الداخلي وعن سوء الأوضاع، وأني كنت على حق عندما كنت أحدثه عما كان يجري في البلد، وختم كلامه قائلا: سأقوم بحركة تصحيح، الوضع في البلد لم يعد يحتمل، فعلقت على قوله بأن هذا القرار سليم والبلد بحاجة له ولم يعد في وسع الناس الاحتمال”.
بعد ذلك، “تحدثنا عن الأوضاع الإقليمية، وسألني عما أتوقع في زيارة وزيرة خارجية أميركا مادلين أولبرايت إلى سوريا المقررة بعد أيام. فأجبته: أتوقع أن تطلب لقاء بينك وبين رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك. وهذا الأمر لا أعتقد أنك ستوافق عليه، فقال: بعد هذا العمر هذا الأمر غير وارد”.
أجابه خدام أن الأميركيين لا يتوقعون قبوله (الأسد)، وأنهم يريدون مستوى أدنى. فقال: “أعتقد أن طموحهم أن يجتمع وزير الخارجية السوري مع نظيره الإسرائيلي، فهل هذا الأمر يفيدنا أم يؤذينا؟”.
عقّب خدام، حسب أوراقه: “لقد جرت اجتماعات عديدة ومباشرة بين الإسرائيليين ووفد المفاوضات السوري في مؤتمر مدريد وبعده؛ فالأمر يجب أن يحسب من زاوية المصالح، وهذا الموضوع يصعب تقديره إلا بعد اجتماعك مع أولبرايت ومعرفة ما تحمل، وإذا طرحت اللقاء، ما الهدف من اللقاء؟ هل في نية الإسرائيليين الاستجابة لمطالبنا بالانسحاب الكامل من الجولان أم مجرد مناورة؟ فأجاب: هذا صحيح”.
وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ودعه خدام وانصرف.
في أوائل مارس/آذار 2000 عقد اجتماع مفاجئ في القيادة القطرية، و”أبلغنا أن الرئيس سيحضره، توجهنا إلى قاعة الاجتماعات، ثم جاء الرئيس، وقد ازداد بياض وجهه، وبان الضعف عليه، وبدأ الحديث متعثرا في الكلام، وقال أنا قررت أن أقوم بحركة تصحيحية. وضع الحكومة سيئ ووضع البلد سيئ”.
ويقول خدام إنه علق بعبارة، وكان قريبا منه: “منذ زمن نقول لك: البلد بحاجة إلى حركة تصحيحية. فأجابني بنشافة: يا أبو جمال الحركة التصحيحية التي سأقوم بها غير الحركة التصحيحية التي تفكر بها أنت”.
ويتابع: “هنا قلت له لم نتحدث في هذا الموضوع في ديسمبر/كانون الأول ونتفق على الخطوط، وكان إلى جانبي الكسم، وهمس في أذني: لا تجادله فهو تعبان.
وبالفعل صمتُّ. تابع الأسد حديثه وقال: سنغير الحكومة، ونسي اسم رئيس الحكومة الجديد، فسأل الدكتور سليمان قداح عن الاسم المقرر تسميته رئيس حكومة، فأجابه الدكتور قداح: محمد مصطفى ميرو محافظ حلب. وهنا أصيب أعضاء القيادة بالذهول لأن القيادة كانت قد اتخذت قرارا قبل أسبوعين بإعفاء محمد مصطفى ميرو من منصبه كمحافظ وإحالته على التقاعد”.
ثم جرى ذكر بعض أسماء الوزراء ولم يحاول أحد من أعضاء القيادة المناقشة لأن الجميع أدرك أن القرار متخذ وأن المناقشة غير مجدية. وهكذا انتهت حكومة محمود الزعبي ليصبح متفرغا في القيادة القطرية حتى انتحاره يوم 25 مايو/أيار عام 2000.
رحل الأسد في 10 يونيو/حزيران 2000. ووقع خدام مراسيم ترشيح بشار الأسد للرئاسة. وذهب خدام إلى باريس وأعلن انشقاقه في 2005. وعاد رفعت إلى دمشق في 2022.