أمد/
«النكتة» السياسية الساخرة، بكل حسناتها وسيئاتها، هي تعبير عن المسكوت عنه، وتزداد النكتة السياسية انتشاراً، كلما ضاقت فرص التعبير وزاد منسوب التناقضات في المجتمع، وقد عرفتها شعوب ونظم ديمقراطية وشبه ديمقراطية، وأخرى (يا اللي بالي بالك) على حد قول صديق ظريف بشكل مستدام. وتظل «النكتة» الساخرة أو الظرف السياسي إحدى وسائل قياس مزاج الناس واتجاهاتهم.
ويلحق الكثير من دعابات الظُرف السياسي في عالمنا العربي، التحسين والتعديل، بحكم أنها روايات شفاهية، من مُحدِّث إلى آخر، ويستعيرها شعب من شعب آخر، والكثير من «النكات» والدعابات الساخرة، إن لم يُعزَّز بوثائق صحيحة، فقد يكون مقتبساً، ويروى في ظروف معينة. وتتميز بعض المجتمعات العربية بعمق الإحساس بالدعابة والفكاهة، ولا أقول «بخفة الدم» حتى لا أقع في المحظور، فهناك ملامح «تكشيرة» وظواهر «عبوس» طبيعية لدى شعوب، إلا أنه من الملاحظ في العقود الأخيرة، أن سوق النكتة السياسية رائجة في كل مكان، وتتمتع بنسبة «تضخم» مرتفعة، مما يولِّد «طاقة» فائضة، وتفاعلات فسيولوجية، مفيدة لحركة عضلات الوجه.
يحمل الظُرف السياسي و«نكاته» الساخرة، الكثير من اللمز والتمويه غير الضار، وإنما من الأنواع الموصى بها والنافعة علاجياً، على اعتبار أنها تقود في نهاية المطاف إلى تصحيح الأخطاء، أوعلى الأقل تسليط الضوء على الواقع الناشز.
والسياسيون الأذكياء هم من أكثر الناس ميلاً إلى الأخذ بالدعابة، كلما شعروا بالعجز عن الرد بجواب واضح غير مرغوب في لحظة ما، ويصفه «صحفيون بارعون» بالهرب من الإجابة، لكنه هروب سلمي، ولعله أكثر فائدة من خطبة «عنترية» لا تقتل ذبابة.
طاقات عصبية زائدة لدى المواطن العربي البسيط، وتحتاج إلى تفريغها بين وقت وآخر، من خلال السخرية من تناقضات يلمسها في حياة العرب السياسية والاقتصادية والبينية (بعيداً عن غراب البين).
قال لي صديق ظريف للغاية، حينما شاهد صاحبنا، في ليلة رمضانية، ساهماً وصامتاً، وأراد رسم ابتسامة على شفتيه، باعتبار أن «البسمة» هي مشروع ضحكة، تنشط الذهن، وتساعد في تخفيف وقع البيانات السياسية العربية، وتعليقات خبراء شاشات التلفزة.
من نِعَم الفكاهة أنها تُعلِّم الإنسان فضيلة رحابة الصدر، واحترام الرأي الآخر، وبخاصة إذا كانت من النوع الذي لا يمارس التحقير والقدح والذم وازدراء الأديان.
هناك أشخاص «فكهون» بطبيعتهم الإنسانية، وهناك مجتمعات «متسامحة» تعتبر أن الفكاهة من عناصر السلوك السلمي الحضاري فيها، مثلما هناك مجتمعات تعاني «جفاف» روح النكتة، رغم معرفتها بوجود تراث هائل من الظرف والفكاهة في أدبنا العربي، وبخاصة عن الزعماء والنحويين، والحمقى والبخلاء وثروة كبيرة أخرى في قصص «ألف ليلة وليلة» وقصص الحيوانات.. إلخ.
في مصر أم الدنيا، مثلاً، وفي كل العصور وعلى امتداد السبعة عقود الأخيرة، كانت النكتة السياسية سلاحاً للمعارضة و«الغلابة» و«المفترين»، ومازلت أذكر تلك النكتة السياسية المروية عن وجود الرئيس الأسبق السادات، في ليلة ثورة 1952، في سينما «منيل الروضة»، وقد تعمَّد المشاجرة في السينما، وتعمد أيضاً الذهاب إلى قسم الشرطة لتحرير محضر، يثبت فيه (إذا فشلت ثورة 1952) أنه كان وقتها في السينما. وسواء كان هذا التصرف براعة أم كان هروباً، فإنه تحوَّل إلى نكتة ساخرة شهيرة، وقيل بعدها، إنه إذا سأل أحد ما: «أين السادات؟» كان زملاؤه في مجلس قيادة الثورة يقولون: «إنه في السينما».
في زيارتي الأخيرة للقاهرة، مررت أمام «مقهى ريش» وحضرت من الذاكرة، قصيدة للشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم، وفيها سخرية لاذعة من المثقفين، في عهد الانفتاح (السداح مداح) على حد قول الصحفي أحمد بهاء الدين، وجاء فيها:
«يعيش المثقف على مقهى ريش
محلفط مزفلط كثير الكلام
عديم الممارسة عدو الزحام
بكام كلمة فارغة، وبكم اصطلاح
يُفبرك حلول مشاكل قوام
يعيش المثقف
في خيمة رمضانية، قبل أيام، ضمت أصدقاء كباراً في مقاماتهم وثقافاتهم، روى لنا صديقنا الكريم راعي الخيمة، قصة «مسمار جحا» ذلك أن جحا عرض بيته للبيع، واشترط في عرضه الاحتفاظ بمسمار في إحدى غرف البيت، ولم يفطن الشاري لما يجره هذا الشرط، وابتاع البيت. وبعد حين طرق جحا الباب، واستأذن بالدخول، ليطمئن على مسماره، فسمح له بالدخول. وفي ليلة تالية، وكان الطقس بارداً، جاءهم يحمل «لحافه» وطلب أن ينام تحت مسماره، خشية أن تصيبه العاصفة الباردة بسوء، ولم يمض بعد ذلك طويل من الزمان، حتى عاد إلى مقر مسماره، بسريره وسائر أدوات مطبخه.
وقد جاء ذكر هذه الطرفة الساخرة، في لحظات مسامرة، حينما قال أحد الأصدقاء من الحضور، إنه قرر تأسيس مكتب لشركته في بلد عربي «سياحي» للغاية. حضرت على الفور في ذاكرتي السياسية.. «مسمار جحا» في عالم السياسة.
حس الفكاهه يُسِّهل على الناس طرح أوجاعهم بالسخرية، مما يدفع قدرات جهاز المناعة لديهم، وفي أقوال أخرى، هي وسيلة للاسترخاء.