أمد/
انتشر الإسلام، كدين وثقافة وتقاليد وأنماط حياة وحضارة تقبل التنوع والتعايش مع الآخر، في ثلاث قارات، وفي أقل من قرن. وقُبل الإسلام بسهولة من سكان الشرق الأدنى، وإفريقيا الشمالية وجزء من إسبانيا، لكنه واجه مقاومة في المجتمعات المحيطة بشمال البحر الأبيض المتوسط، وقد تركت هذه المقاومة آثاراً على مختلف العلاقات بين الإسلام وأوروبا المسيحية، وبين العرب والغرب (الفرنجة) بشكل عام. وقد شَنَّ «الفرنجة» أكبر هجوم مضاد وعنيف على ديار الإسلام والعرب من خلال الحروب الصليبية.
وقد أفرزت هذه الحروب، خلال القرون الوسطى، عناصر التخيل والصور النمطية السلبية عن الآخر (المسلم والعربي والديانة)، وهي عناصر شائنة تسربت إلى قلوب الأوروبيين ووجدانهم، وكوَّنت متخيلاً جمعياً يُعلي من شأن الذات الأوروبية المسيحية (تنويري)، ويقدم الآخر بشكل «شيطاني» و«شرس» و«ظلامي». وبذلك زُرع في الذهن الأوروبي الشعور بضرورة انتصار «النور» أو «الأنوار» على «الظلام»، ولعل تلك البذور والمشاعر هي التي وفرت المقدمات لفكرة المركزية الأوروبية، في مقابل «الأطراف».
وقد كان لرجال الكنيسة، كمؤسسة دينية واجتماعية وثقافية، دور كبير وأساسي منذ العصر الوسيط حتى عصر النهضة في تشكيل المتخيل الجمعي الأوروبي تجاه الآخر (الإسلام والمسلمون والعرب)، وكانت الكنيسة ورجالها الأقوى على امتلاك مفاتيح المعرفة والثروة والتأثير في أوروبا، كما كانت هي المتكفلة بتربية الناس المؤمنين بها، وتشكيل رؤيتهم للآخر وللعالم الخارجي.
أما الصورة النمطية السلبية التي كانت تتشكل وتسود في الزمن الوسيط، فتدور حول الإسلام (دين جبر، وانحلال، وعنف وقسوة، دين وثني.. إلخ).
وكان الغرب الأوروبي المسيحي، وقتها، بحاجة إلى تعزيز وعيه بالذات، من خلال تقديم الآخر في أكثر أشكاله عدوانية وتشوهاً (الوثنية – التوحش – الشبقية)، وأنه يُشكل «خطراً داهماً» وتم تكريس هذه الصور في أعماق الوعي الجمعي، وتداخلت في هذا الخطاب المعلومة المغلوطة مع الخيال، وطغت عليه الأصوات الحادة والعنيفة، وانتشرت أدبيات وروايات كثيرة تشوّه الإسلام، وتفتري على المسلمين ونبيهم، صلى الله عليه وسلم، من أمثلتها: توماس الأكويني، والشاعر الإيطالي دانتي أليجري في كتابه الكوميديا الإلهية، في بداية القرن الرابع عشر، وغيرهما، ممن عبروا عن مشاعر الكراهية والخوف تجاه الإسلام، التي كانت سائدة في الوعي الجمعي الأوروبي، وتشكل أصداء للتجربة التاريخية لأوروبا.
ولا شك أن الصور النمطية التي حلَّت محل الواقع، والتأويلات الزائفة ضد الدين الإسلامي، والقسوة في الحكم على الإسلام، وتقديمه إلى المخيال الغربي كدين وثني، والتشكيك في صحة وصدقية نبوّة محمد، صلى الله عليه وسلم، كانت في مجملها تحفز (الفرنجة) لتنظيم هجوم مضاد للمد الإسلامي الجارف والكاسح الذي كان يشكل تهديداً للوجود المسيحي في البحر المتوسط.
تكرَّست الصور النمطية عن الإسلام من خلال نسج خطاب حول هذه الديانة، خطاب تداخلت فيه المعلومة المنتزعة من سياقها، والرغبة المقصودة في تشويهه، وجعله ديانة ماكرة ومنفرة وممقوتة ووثنية، شعاره السيف والحرب والعنف، وتقديم صورة نبي الإسلام كصورة مجرَّحة، وتدمير صدقية رسالته.
بقي الإسلام موضوعاً للخوف، ولتمثّل متخيل كعدو، ذي نزعة تدميرية، فضلاً عن صفات أخرى ممقوتة في السلوك ونمط الحياة، والفظاظة وحتى لونه «الأسود»!! مواقف وصور موروثة من مخلفات القرون الوسطى الأوروبية عززت في زمانها الوعي المسيحي بالذات الذي كان بحاجة إلى تقديم الآخر في أكثر صوره عدوانية وتشوهاً، وخلق ظروف تعبئة نفسية ومعنوية لمحاربة قوته السياسية، ووقف زحفه «الدعوي» وفتوحاته.
وفي مرحلة تالية، وفي عصر النهضة الأوروبية، توارث كتَّاب وساسة ورجال دين وفلاسفة صوراً نمطية عن الإسلام من موروث القرون الوسطى، وأخرى جديدة بتأثيرات سقوط القسطنطينية، ونهاية العصر الأندلسي وصعود العثمانيين، وحركة الإصلاح الديني التي قادها وأسسها الراهب الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر، وقسمت المسيحية بين الكاثوليكية الرومانية والبروتستانتية، وانشغلت أوروبا في قرون تالية بحروب دينية داخلية دامية، وطويلة المدى والأثر.
وفي عصور تالية، مروراً بعصر النهضة الأوروبية وعصر الاستعمار الغربي لمناطق واسعة في العالم، ظلت هذه الصور النمطية المشوهة عالقة في المخيال الغربي، وأمدت الاستعمار بهذه الصور التحريفية والظالمة لطبيعة الإسلام وحضارته، وتم وسم مجتمعات المسلمين، وكذا الشرق، بالتخلف الذي يستمد جذوره من معتقدات دينية وثقافة مغلقة تعادي العلم والروح العلمية والفلسفة والحداثة، وتحث على التطرف.
لا ينتعش رهاب الإسلام إلاَّ في ثقافة أو وعي يتداخل فيه الجهل بحقيقة وجوهر الإسلام، مع عناصر أخرى سياسية واجتماعية، وتعصب، وتزييف إعلامي لإبقاء حالة التوتر مستدامة. ولا شك أن هناك اليوم ظواهر تستحق التشجيع تلوح بين حين وآخر، في صحف ومراكز تفكير وإعلام ونخب سياسية في أوروبا والغرب عموماً داعية إلى إنصاف الإسلام، والرغبة في فهم أهله، وله أسبابه ومبرراته، وله علاقة أيضاً بعشرات الملايين من المسلمين الذين يتنامى عددهم وتأثيرهم في مجتمعاتهم الأوروبية، بخاصة أن نحو ثلث عدد المسلمين في العالم يعيش اليوم في مجتمعات دول غير مسلمة، ويتفاعل مع أتباع ديانات ومعتقدات وثقافات متنوعة، وبالتالي فإن السلم المجتمعي واحترام التعددية هو لمصلحة الجميع.
إن مرض «رهاب الإسلام» بحاجة إلى معالجات ثقافية جادة وموضوعية، وتتطلب إعادة النظر في برامج التعليم ومحتويات الثقافة والإعلام والتشريع، وبناء مناخات لا تنمو فيها مشاعر العنصرية والتعصب، ولا الصور النمطية السلبية عن الآخر.
نحتاج جميعاً، في الشرق والغرب، إلى قراءة التاريخ بنظرة «التاريخ الحافز» وليس بنظرة «التاريخ العبء» والتعاون الإنساني المشترك، لإسقاط الصور المزيفة عن الآخر، والتسليم بمبدأ الاختلاف، ونبذ نزعات التفوق والسيطرة والهيمنة ونفي الآخر.