أمد/
هذا العنوان هو استعارة من مطلع قصيدة للشّاعر الراحل محمود درويش، الذي التقيته لآخر مرّة في حفل تأبين الشّاعر السوري ممدوح عدوان في دمشق، والقصيدة وأجواؤها وصورها من السّهل الممتنع، ومنذ قراءتها كانت تأتيني بين الحين والآخر، وأجد نفسي أردّد بعض مقاطعها، بل أدندن فيها في خلوتي أحيانا، وها آنذا اقتبس العنوان بمناسبة يوم الأم.
رغم غيابها فما تزال تزرع لديّ حقولاً من الدهشة، وتظلّ أسئلتها الأولى تسكن أعماقي، منذ جئْتُ حاملاً كتبي وأقلامي من المدرسة، في تلك المدينة ذات القباب الذهبيّة الوهّاجة، وستبقى معي ما حييت ومهما تقادم الزمن وتعتّق العمر.
كنْتُ لسنوات أحسّ بها قادمة مع أسراب الطيور المهاجرة، والعصافير المزقزقة والهواء الذي يداعب الأشجار العالية، رافضة قفص الوحدة والعزلة الإجبارية، والخوف الذي ظلّت مسكونة وساكنة فيه، وكانت رغم عالمها المتفرّد والبعيد، تأخذني إلى ضفة الانبهار، وأستحضر كلماتها وعباراتها البسيطة والعميقة، فتتحوّل لديّ الى سمفونيات رائعة وألحان تسحر ألبابي.
كان لديها معجمها “الشعري” الخاص على بساطته، لكنّها كانت تعتني بكلماتها وتركّب مفرداتها وتطوّع ذلك لقراءاتها القرآنية وحكمتها الحياتية، فتخرج “القصيدة ” من تنوّرها طازجة شهية، مثل امرأة لذيذة مستحمّة مكلّلة بزهرة النوّار، أو مثل حورية تخرج من البحر وهي تتقّطر بندى السوسن مزهوة بالسنا.
إنّها تُجيد اقتناص اللّحظة وتبرع في تصوير ذكرياتها وأيّام فرحها وتتذكّر أحياناً أيّام عرسها، فنزيد في أسئلتها عن الشبقيّة والعشق، وتتنهّد لتروي بعض ما يمكن روايته بالحشمة، وإنْ كانت تطعّمها أحيانا ببعض المفاجآت.
تراها ترقص أحياناً لسماع خبر جميل، وتنكفئ وتتراجع وتكتئب لخبر حزين أو غير سار، وكانت في السنوات الأخيرة مصدر إخباري، حيث تقابل الشاشة الزرقاء وكلّ طموحها أن تنقل لي بعض الأخبار، وعندما كانت تشعر أنّني لم أسمعها رغم أنّني أكون قد سمعتها، وأدّعي ذلك لأزيد من أهميّتها وأهمية ما تقوم به، كانت تزداد فرحاً وتنقل تفاصيل الأخبار، وأحياناً تضيف إليها ما تريد أن يتحقّق أو ما تتمنّى، ناسبة ذلك إلى أنّها سمعت الخبر هكذا، أو هكذا فهمته.. وكُنتُ أمازحها حين أقول لها هذه وكالة أنباء ” كَالو” أي ” قالوا” أو وكالة أنباء نجاة، اسمها البهيّ.
أحسّ بها مثل راقصة باليه تنتقل في زوايا الأمكنة وتملأ الباحة والصالون بحضورها الأنيس، ولفرط براعتها في الحركة لم أكن أشعر بها حتّى تفاجئني وتضع يدها على كتفي أو تلمس رأسي وأحياناً تطبع قبلة حارة على خدي.
شعرتُ أنّ الوطن منقوش في قلبها مثل حبّ أبديّ مبارك وهو يجوب الأفلاك والمرافئ والفضاءات، تدخل الألفة رغم الحزن، والثقة رغم الانكسار والتواصل رغم الغربة. إنّها صورة نابضة وحيّة للجرح العراقي والرفض العراقي والإذلال العراقي والإشكال العراقي والتناقض العراقي.
يا لها من نكهة خاصّة، لا تشبه أحداً ولم ينافسها أحد، كنْتُ أريد تصويرها بالفيديو وهي تروي بعض الحكايات والقصص القديمة، وكانت تنتصب مثل نخلة حين تعرف ذلك. كنْتُ أرى فيها لوحة تشكيليّة هائلة، شعرها الفضّي وعيناها الواسعتان وجبهتها العريضة، وثمة نقطة زرقاء فوق أنفها الجميل، لعلّها مكمّلة لتقاسيم وجهها وكأنّها رسمت في الأصل.
حين ينهمر المطر تقابل الشبّاك وتخرج إلى الشرفة أحياناً وكأنّها تريد أن تغرف من الحياة ما تبقّى. لم ترغب أن تفلت لحظة من بين أصابعها، كنت أمازحها حين أطلب لها كأساً من النبيذ في أحد المطاعم، فتنظرني بشزر أحياناً، مثلما كانت تفعل عندما كنّا صغاراً وهي ظلّت تشعر بأنّنا صغار، ولعلّي باستمرار كنْتُ صغيراً أمامها ومستجيباً إلى حدٍّ ما رغم تمرداتي المبكرة، ولم أشعر بالشيخوخة لأول مرّة إلاّ عندما غادرتني في ذلك الربيع الحزين.
أحنّ إلى خبز أميّ
وقهوة أميّ
ولمسة أميّ
وتكبر فيّ الطفولة
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري
لأنّي إذا متُّ أخجل من دمع أميّ
هو الحنين الخفيّ والاسم المهاب ” نجاة”، فالأشياء العادية والبسيطة، تصبح غالية وكبيرة كلّما ابتعدت عنّا، وأتذكّر كم كتَمَتْ دموعها لكي لا تُشعرني بألمها، مرّات ومرّات.
تحلم مثل كلّ أمّ عراقية بالزنابق البيضاء وبعثق رطب برحي عراقي، تحلم بالنازينج الذي كانت تستأنس حين تعصره بيدها وتقدّمه إلى الناصر والرؤوف والجليل، إخوانها الذين تضع الألف واللّام أمام أسمائهم، وكأنّها أجنبية تتعلّم كيف تلفظ أسماءهم، لاسيّما بالألف واللّام، وفي الفترة الأخيرة لم ترغب في ذكر اسمي الاّ بالألف واللّام مع اللّقب، فتردّد ” بنت مَنْ وبعل مَنْ وأمّ مَنْ؟ ” وكانت تلك الثلاثية ملاذها آخر أيّامها وكأنّها تعويض عن الحرمانات والعذابات الطويلة، والتي كانت أصعبها فراق الأحبّة والحزن على الوطن.
هكذا غاب النورس الأزرق، ذلك الغياب السماوي، مختصراً تاريخاً طويلاً وعويصاً من الألم والحسرة والفداحات. رحل الكوكب الدرّي حين باغتنا بابتسامة وداع، يبدو أنها أجلّت لحظة الرحيل لتموت في فرح غامر بعد رؤية الغائبين. غابت دون أن تستأذن أحداً وكأنّها أنجزت مهمّتها..
قلْتُ مع نفسي لا أرى مبرّراً لغيابها أو مسوّغاً لرحيلها، فلتوّها ملأت المكان فرحاً وحبوراً، ولأوّل مرّة تذكر العزيز بملء الفم والحسين والحيدر والسلمى وأبو الشوق. قلْتُ لها لماذا تتركيننا، لماذا بهذه السرعة تغادرين عالمنا أثمّة مَنْ أزعجك أو لم يرضكِ … ضحكت من وراء الملاءات البيضاء، وكأنيّ أسمع ضحكتها وهي تردّد: عشْتُ ربع القرن الماضي وحيدة وبعيدة وغريبة حتّى وإنْ كنتُ في وطني، دعوني أرحل وأنا بينكم لأنّي أخاف أن أرحل وأنا وحيدة… أكره الوحدة ولو في الجنّة.
حين جاء يوم 8 آذار(مارس) الذي كنّتُ أسعى رغم فراق زاد عن 20 عاماً أن أتواصل معها ولو بعد بضعة أشهر، فقد كان مجرّد مكتوب من أمّي يتأخّر في أروقة الدولة شهرين قمريين حسب الشاعر مظفر النواب، لأنّي كنْتُ حريصاً على وصول تهنئتي وظلّت حريصة على هذا التواصل وتتذكّر المناسبة وتميّزها عن عيد الأمّ، الذي يصادف عيد ميلادي.
قرّرْتُ هذا العام وبعد سنتين من رحيلها أن أحرّر قلمي وأكتب عنها، مثلما كتبْتُ عن جورج حبش وعبد العزيز التويجري والطيّب صالح، ولديّ قصاصات عن محمود درويش ومحمود أمين العالم وممدوح عدوان، ورغم أنيّ لا أرغب في أن أحشرها بين الكبار، لكنّ الأمّ تظلّ كبيرة عند أبنائها، وكنْتُ كلّما هممْتُ بالكتابة عن أحد الكبار الذين غادرونا واجهْتُ وجه أميّ وصوت أميّ وخبز أميّ، التي انطفأت سريعاً مثل شهاب.
*****
أعيد نشر هذه المادة بعد 17 عامًا على رحيل والدتي نجاة حمود شعبان، التي غادرتنا يوم 7 نيسان / أبريل 2007، وكانت وصيّتها أن تدفن في دمشق إلى جوار السيدة زينب، وهو ما تحقق استجابة لرغبتها.
وكنت قد استعدتها مرّة أخرى حين كتبت اعتذارًا متأخرًا للوالدة في حواراتي مع الإعلامي المغيّب قسريًا توفيق التميمي والمنشورة في كتاب ” المثقف في وعيه الشقي: حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان”، دار بيسان، بيروت، 2014.
والتي اختتمتها بالقول: كنا نحلم بأن نستطيع أن نسير بأوطاننا باتجاه الحداثة والعمران والجمال والخير والعدالة والسلام، لكن بعض أحلامنا تحوّلت إلى كوابيس لعوائلنا، التي لا ذنب لها، سوى أنها عوائلنا، وقد وجدتها مناسبة للاعتذار للوالد أيضًا عزيز جابر شعبان، لما سببته له من آلام وعذابات، الأمر لم يكن لي يد فيه، كما لم يكن لي حيلة به، وهكذا هي السياسة في بلداننا ومجتمعاتنا العربية، وبالأخص في العراق، الذي وصلت فيه العقوبة إلى الدرجة الرابعة، ناهيك عن القتل على الهويّة، حيث استبدّ به العنف والإرهاب إلى درجة مروّعة.
وأنتهز هذه الفرصة للقول أنني فخور بهذه العائلة المتحابة والمتسامحة والأبية.