أمد/
قام جيش الاحتلال الإسرائيلي هذا الأسبوع بعملية عسكرية ليست مباغتة، احتل خلالها الجزء الفلسطيني من معبر رفح. وأول ما فعله المحتلون هو تنزيل العلم الفلسطيني، الذي يرمز إلى التوق للحرية، ورفع علم الدولة الصهيونية، الذي يمثّل الاستعمار والاحتلال والاقتلاع والإبادة. وحاولت الدعاية الإسرائيلية، داخليا، وصف ما جرى بأنه إنجاز استراتيجي وتسويق حركة الأعلام كنوع من صورة النصر المصطنعة، لكنها لم تفلح، على الرغم من الاحتفال الإسرائيلي باستعادة بعض الثقة بالنفس، التي نسفتها أحداث السابع من أكتوبر. ومن جهة أخرى وفي محاولة لامتصاص الانتقاد الدولي، ادّعت الأبواق الإسرائيلية بأنّها «عملية محدودة»، وجرى تنفيذها وفق المعايير الأمريكية. ولكن هذه الأبواق لم تلتزم بأن تبقى ما سمّتها «محدودة» محدودة فعلا، بل بالعكس عاد وزير الأمن الإسرائيلي وأكد أن إسرائيل ستواصل عملياتها في رفح لحين «تحقيق أهداف الحرب».
مباركة أمريكية
صادقت حكومة الحرب الإسرائيلية بالإجماع على احتلال معبر رفح، وما رافقه وما تلاه من قصف همجي على أحياء مختلفة في جنوب القطاع. وتشير هذه المصادقة إلى أن الخصومات الداخلية في إسرائيل ليست من الوزن الثقيل، فهناك شبه إجماع على المتن وبعض الخلاف في الهوامش. هذا لا يعني أنّه لن ينشأ تمزّق لاحقا، تبعا لتحمّل المسؤولية عن الإخفاق في السابع من أكتوبر، ومصير المحتجزين النهائي، وتغيير قيادة المؤسسة الأمنية. وإذا كان نتنياهو يرفض أن يكون طوع اليدين للإدارة الأمريكية، فإن غالانت وغانتس وبالأخص آيزنكوت على انسجام شبه تام مع المؤسسة الأمنية الأمريكية، وهؤلاء ما كانوا ليوافقوا على الدفع باتجاه احتلال المعبر، دون تنسيق مسبق مع الولايات المتحدة.
لقد ظن البعض أن الإدارة الأمريكية تعارض اجتياح رفح، لكنّها في الحقيقة لم تقل ذلك في يوم الأيام، وكان موقفها على الدوام، أنّها «تعارض عملية في رفح من دون خطّة مقنعة تشمل نقل السكّان ومنع حدوث كوارث إنسانية». وقد أعلنت إسرائيل عدّة مرّات موافقتها على الشرط الأمريكي، ويبدو أنّها أطلعت القيادة العسكرية الأمريكية على خطط معينة بهذا السياق. ويبدو، من الناحية العملية، أن الموافقة الأمريكية أوسع، وتشمل عدم عرقلة احتلال تدريجي لرفح تحت يافطة «ملاحقة قيادات وعناصر حماس».
مناورات وغايات
أعد جيش الاحتلال الإسرائيلي خططا تفصيلية لاحتلال مدينة رفح بما فيه المعبر. وعرضت هذه الخطط على الأمريكيين، الذي قالوا مرارا وتكرارا بأنهم لا يأذنون لإسرائيل باجتياح رفح، طالما لم تعرض عليهم هذه الخطط. وجاء ردّهم الباهت على الاستيلاء على المعبر تعبيرا عن رضاهم عنه. ويبدو أن هذه هي الخطوة الأولى وستتلوها خطوات في الحرب المفتوحة على غزة. من المهم جدا بالنسبة للقيادة الإسرائيلية أن تبرهن على جديتها في السعي لتحقيق أهداف الحرب المعلنة، وأنّ تحركاتها العسكرية تندرج ضمن «مخطط مدروس» لأحراز تقدم في الطريق إلى هذه الأهداف. وقد حاولت إسرائيل، من خلال احتلال المعبر فرض واقع على الأرض، يسمح لها باستثماره لتحقيق مآربها في عدة اتجاهات:
أولا، أرادت القيادة العسكرية ـ الأمنية في إسرائيل تحقيق إنجاز يرفع من معنويات الشارع الإسرائيلي، الذي يتخبّط بين الرغبة في إعادة المحتجزين والتعطّش للانتقام. وهي تسوّق احتلال المعبر بأنّه يؤكّد مواصلة «تقويض سلطة حماس»، ولذا يجري التأكيد في الإعلام الإسرائيلي بأن معبر رفح هو من أهم مرتكزات سلطة حماس.
ثانيا، السيطرة على المعبر وما ستتبعها من خطوات تفتح، بالنسبة لإسرائيل، بابا لتسهيل التهجير، حين تحين الفرصة. قد يبدو الأمر صعبا في المرحلة الحالية، لكن القيادة الإسرائيلية لم تتخلّ عن هذا الهدف، بل حوّلته إلى مشروع ينتظر اللحظة المواتية، واحتلال المعبر يقرّب هذه الفرصة، إضافة لكل المآزق، أدخلت الحرب على غزة الدولة الصهيونية في أزمة ديموغرافية، بعد أن عاد ثقل الكتلة البشرية الفلسطينية في غزة إلى معادلة التوازن الديمغرافي الإسرائيلية، التي لم تعد تأخذه بعين الاعتبار منذ الانسحاب من طرف واحد عام 2005. والمعادلة الجديدة في الحسابات السكّانية الإسرائيلية هي أنه في المنطقة الواقعة بين النهر والبحر والواقعة تحت سيطرة إسرائيلية هناك اليوم 7.3 مليون من الفلسطينيين، والعدد نفسه من اليهود الإسرائيليين. وهذه معادلة لا يحلها إلّا التهجير، خاصة أن إسرائيل لا تريد الانسحاب من المناطق التي احتلت عام 1967.
ثالثا، تسعى إسرائيل للضغط على مصر لتتعاون معها بشأن بناء جدار محكم على طول محور فيلادلفيا، تحت الأرض وفوق الأرض، كامتداد للجدار الذي أنشأته على طول الحدود مع قطاع غزة. مصر رفضت طلب إسرائيل، وهذه ستحاول استثمار ورقة المعبر للتوصل إلى اتفاق برعاية أمريكية لبناء الجدار، الذي تقول بأنّه كفيل بمنع تهريب الأسلحة من سيناء إلى داخل قطاع غزة.
رابعا، بعد احتلال المعبر، لن تقبل إسرائيل بمحض إرادتها الانسحاب منه، من دون أن تضمن سيطرتها عليه ولو بشكل غير مباشر. من هنا جاء الاقتراح بأن تتولي شركة أمنية أمريكية إدارة المعبر. أما الحديث عن تسليم المعبر لطرف فلسطيني «ليس من حماس»، فهو شبه مستحيل لأنه لا يوجد فلسطيني بالمواصفات المقبولة عند إسرائيل. وفي كل الأحوال أبدت إسرائيل استعدادا لحماية من يجري الاتفاق عليه لتولي المسؤولية عن المعبر، ما يعني أنّها تنوي مواصلة الوجود في محيطه لمدة طويلة، إن لم يكن بشكل دائم.
خامسا، تخطط إسرائيل لجعل الموقع نقطة انطلاق لمواصلة احتلال مدينة رفح. ويبدو أنها تريد احتلالها بالتدريج، وتحت مسميات عسكرية مختلفة. في البداية ستتحدث عن حق قواتها في معبر رفح في الدفاع عن نفسها، لتبدأ بتوسيع سيطرتها لحماية جنودها، وبعدها لمناطق أوسع بحجّة مطاردة عناصر حماس. وهي أعلنت جهارة بأنها بدأت عملية إخلاء رفح، التي ستستمر برأيها لأشهر.
سادسا، تحاول إسرائيل من خلال احتلال المعبر، تفعيل ضغط على حماس وعلى الوسطاء، لجعل شروط صفقة التبادل مقبولة إسرائيليا. وهذا يعني محاولة ابتزاز بعض التنازلات من حماس. ووصل الأمر ببعض الناطقين الإسرائيليين أن يدّعوا بأن العملية جاءت بالنتيجة وجعلت حماس توافق على الصفقة، مع أن ذلك حدث قبل وليس بعد احتلال المعبر، ولكن إسرائيل تتلاعب حتى باتجاه الزمن. ولعل من أهم أسباب استعجال العملية هو ربطها بالصفقة ونشر الوهم بأن العمليات العسكرية تقرّب تحرير المحتجزين.
سابعا، تريد إسرائيل أن تستبق الحدث، وأن تضع قدمها في منطقة حساسة جدا تحسبا لإمكانية عقد صفقة تشمل وقفا لإطلاق النار، يمنعها من دخول أي منطقة في رفح. وهناك من يعتقد في إسرائيل أن احتلال المعبر، سيخفف من شدة معارضة اليمين الإسرائيلي للصفقة، إذا حصلت صفقة. أما بالنسبة لنتنياهو فالعملية تخدم المحافظة على تماسك حكومته، وهو يأمل كذلك بأنها سترفع أسهمه في المجتمع الإسرائيلي، وتعينه على استعادة قاعدته الانتخابية، التي تظهر الاستطلاعات أن نصفها تقريبا قد هرب إلى بن غفير من جهة، وإلى بيني غانتس من جهة أخرى ـ كما تدل كل الاستطلاعات التي أُجريت في الأشهر الأخيرة.
شروط مستحيلة
من الصعب توقع العمليات العسكرية المقبلة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وليس أقل صعوبة التنبّؤ بمصير صفقة التبادل، في ظل صخرة الخلاف بين إسرائيل والمقاومة في غزة، الأولى تصر على عدم الالتزام بوقف الحرب في أي موعد كان، والأخرى تتمسك بضرورة وقف إطلاق النار وحقن الدماء. ومن غرائب الأحوال أن يتهم من يريد وقف الحرب بالتعنّت، في حين يوصف من يرفض ذلك بالمرن والعقلاني. وحتى لو كانت صفقة، فإسرائيل تنوي مواصلة القتال والشروط التي وضعتها لنهاية الحرب مستحيلة التحقيق، من «النصر المطلق» حتى إيجاد قيادة فلسطينية بديلة مرورا بالقضاء على حماس. ولكن القيادة الإسرائيلية، الحالية على الأقل، لا تملك الجرأة ولا الرغبة بالاعتراف بالفشل ولا حتى بإعلان «الانتصار» والانسحاب (كما كانت النصيحة التي تلقاها نيكسون في حرب فيتنام). وبعد أن وضعت إسرائيل رجلها في معبر رفح، وبعد أن ادعت بأنها خطوة استراتيجية، فكيف ستنسحب من دون أن تفرض ترتيبا بديلا في المعبر؟ وحتى لو جاءت قوات أمريكية، فالجيش الإسرائيلي سيبقى في المنطقة ليوفر لها الحماية. لقد ادعى بعض المنظرين الاستراتيجيين المقربين من نتنياهو، بأن لا معنى للتسويات السياسية في نهايات الحروب الإسرائيلية، والذي سيبقى هو ما يحققه الجيش عسكريا. ووفق هذا المنطق سيبقى الجيش ليحافظ على ما حققه، وهذا معناه عودة الاحتلال المباشر لقطاع غزة، وإن لم يكن بالنوايا المبيّتة فسيكون بحكم واقع أن إسرائيل لا تستطيع أن تفرض حلا يمكنها من الانسحاب.
عن القس العربي