أمد/
للحزن رائحة الموت المؤجل في حكاية شعبٍ أُعِد ليكون قرابين للوجوه القبيحة في عالمٍ،لا يسمع،لا يرى، لا يتكلم.
تقول جدتي : يا بني إياك أن يفتك بك الجمود.إياك أن تشعر أنك مجرد صورة في ألبوم ويقتلك الغبن والخذلان.
إياك أن تتعلق بقشة،لتشعر أنك مازلت حياً،
اجتهد واسرد الحكايات لتوثق حقيقة أننا نرفض أن نكون قرابين .
فكن أنت يا صغيري واكسر إطار الصورة النمطية لموت أعد لنا سلفًا وإن لم تنتصر،فيكفيك شرف المحاولة.
دفء صوت جدتي مازال يطوف في المكان يدعوني أن انهض، أن أعافر وأعافر ،
ولكي لا أهزم لن أتجمل، لن أتغنى بالشعارات ،نحن نحب الحياة، لسنا خارقين كما يتصورون، نكابر ونكابر ومن داخلنا ضعفاء مهشمين، نعيش التناقضات ،نبكي ، نضحك ، نخون.
تدور الطاحونة ونحن نقتلع من جذورنا ونباد وقبل أن نمسح من الكون ونصبح هباءً منثورًا ،استحضرت تجربة جدتي ورفضها لموت أعد لنا سلفًا وأصبح رفيقنا الممل. سرت على خطاها. حاولت جاهدًا أن أنجو بعائلتي، رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه،لا أريد أوسمة أو بطولات ،أريد أن أحمي أسرتي ونعيش بسلام .
بعد الحديث عن اجتياح مدينة رفح وحرق شرقها بالقذائف ، قررت أن أنتزع خيمتي و أحضن عائلتي وأفر هاربًا، ودعت رفاق النزوح ومضيت أفتش عن مساحة آمنة لنشد إليها الرحال ،قضيت أيام شاقة بالتنقيب عن مأوى ،ومع اشتداد وتيرة القصف لم يكن أمامنا أي خيار،خلعنا الخيمة وركضنا في البحث عن عربة نقل بأسعار غير مجنونة ،بعد ارتفاع أسعار المواصلات وانتشار أرقام فلكية تمتص روح المواطن المسحوق.
دار جدال مع أصحاب العربات وبعد مجهود شاق وبحثٌ مضني ،اتفقنا مع سائق سيارة تجر خلفها عربة حمار ،على سعر مرتفع ، لكنه أفضل الموجودين .حملنا ما استطعنا إليه سبيلا و انتقلنا بأعجوبة من مدينة رفح إلى حيث لا ندري ، لملمنا بقايانا المبعثرة وكرامتنا المهدورة و أدواتنا البدائية التي ابتكرناها لتستمر حياتنا.
رتبنا أخشاب خيمتنا الطائرة المسافرة على الشوارع والأرصفة.
بحثنا عن مساحة امنة لنحمي أجساد أبنائنا من الفناء.
صغارنا جردتهم الحرب من كل معاني الربيع .انتشرت أوبئة على أشكال بشرية متطفلة وكان علينا أن نخرج عن طبيعتنا و نقاتلها لنقيم خيمة في الوطن.
نزحنا إلى شاطئ البحر وقضينا الليلة الأولى مرهقين محبطين نحلم بحصتنا
من النوم ،أنهكنا التعب وعشنا الفصول الأربعة ما بين مد وجزر.
اشتدت العواصف الفجائية وتعالت صيحات البحر بهديره الصاخب ، اقتحمت خيمتنا أمواج شيطنت حياتنا.
أرعبنا بكاء البحر و نواحه.
هذه الليلة، لم يغمض لنا جفن، تضرعنا لله أن تهدأ العاصفة وتمضي الليلة بدون فاقد أو مفقود.استجاب الله لضعفنا وانصرفت الكوابيس، سكن البحر وعاد إلى طبيعته الهادئة السمحة ومع شروق الشمس خرجت من خيمتي التي اغتسلت بالماء ووقفت أمام البحر شاحب الوجه، نظرت إليه غاضبًا، وقفنا كصديقين متخاصمين قتلهم الجفاء، وسط هذه الخربشات والمشاعر المتضاربة
امتد ظلٌ طويل، التفت لمصدره ، وجدت فتاة رشيقة امتص البحر لونها، فاحترقت وتغيرت ملامحها،حملت دلوها
ووقفت شاخصة وكأنها دمية زرعت على الشاطئ وبين الفينة والأخرى، بحركة سريعة خجولة كانت تختلس نظراتها صوبي وكأنها تريد أن تبث رسالة ما، ثم تفر هاربة وتدفن عينيها في البحر .
أصابني الفضول وسط فراغ قاتل وألوان من الخوف وكل المفردات التى لا تحكى ،فأطلقت العنان لمخيلتي وسألت نفسي .تُرى ما الذي تخفيه هذه الفتاة من أسرار ؟ ولماذا تقف وحيدة حائرة هذا الصباح ؟
ولأني مضغوط ومثقل بالهموم ، بحثت عن وسيلة تطهرني من اكتئابي، حتى أخرج من روتيني اليومي حرًا.تخيلت مسرعًا أنها شاعرة تريد أن تكتب قصيدة رثاء لبيتها الذي فقدته في الحرب . ثم عدلت عن فكرتي وقلت لا ،لا، يبدو أنها عاشقة ، مازالت تنتظر حبيبها بعد أن باعد بينهم الاحتلال و فرق شملهم ،ما بين شمال قطاع غزة وجنوبه . الفتاة العاشقة عينيها تنبع حباً ، لكن النكبة المتوحشة ،نهضت من جديد ورقصت فرحًا وتباهت بضحاياها ومازالت تسخر وتقول التاريخ يعيد نفسه .
الصغيرة المعذبة، أنفاسها تتصاعد مضطربة، لتبوح للبحر بسرها الدفين.أدركت حينها أن هذه الانفعالات المأساوية تنم عن ضحية فقدت عائلتها تحت الانقاض وحصتها الحسرة والدموع .
غضب البحر من أفكاري ،تلاطمت أمواجه انقضت لتمسح السيناريو وقالت لي : انتبه ،هذه الفتاة سقط زوجها شهيدًا وترك في أحشائها صغيرتها نور.
أسعدت صباحي حكايات الفتاة الملهمة، رغم انكساراتها التي صاحبت رحلتها وما تحمله من مآسي،مازالت هي الأقوى ،انتصرت هذا الصباح على رجل طحنته الحرب وتحول إلى جسد يسير فوق الأرض، قتله الفراغ ،ويعيش على هامش المكان.
بعد أن فقدت شغفي بالجمال وعشت النزوح للمرة الخامسة، ومع تراكم الأحداث اشتعلت رأسي بالصور ، شعرت بانفجار طاقة إيجابية ،امدتني بنشاط غريب، فقررت أن أكسر الحاجز وأتجه للفتاة لانتزع منها تفاصيل حكايتها.
هممت أن أخطو الخطوة الأولى ،قفز وسط الحكاية طفل نحيف شقي، أسود الوجه ، أشعث الشعر ،رث الثياب، استيقظ مبكرًا يحمل دلوه . حيانا بابتسامة ورفع بنطاله فوق ربكته واتجه للبحر وبخفة ملأ دلوه ثم هم بالرحيل وفي طريقه نظر إلى الفتاة المثقلة بالهموم وهمس لها بكلمات لم اسمعها ، ثم حمل دلوها واتجه مسرعاً وملئه بالماء، شكرته الفتاة بإبتسامه وواصلت سيرها ولم تلتفت نحوي وانتهت الحكاية
ما أسهل الواقع بدون تأويلات عبثية
الحكاية هناك صبية تريد أن تملأ دلوها بالماء و الطفل تطوع لمساعدتها.
ابتسمت خجولًا من نفسي وتذكرت حينها أننا منذ أن وصلنا بالأمس ونحن نعاني من نقص المياه ونستعين على قضاء حوائجنا بمياه البحر للحمام ولتنظيف الأواني ولغسل الصحون
يا الله كم نحن معقدين،نهول الأمور وننسج صور لعالم لا يشبهنا . الحقيقة التي لابد أن أعترف بها أنني مثل الكثير من الشخصيات الكسولة السلبية المتطفلة، المفرغة ،الصبية تحاول الاستغاثة بي على أمل مساعدتها ،لكنني خذلتها واستنسخت صورة ربما ليس لها معاني بقاموس حياتها .لذا على أن أعود لرشدي وأنفض مخيلتي من الأفكار المريضة.
بانسيابية حملت كرسي وعدت إلى خيمتي ووعدت نفسي أن أعطي الأشياء حجمها الطبيعي ،فعندما أشعر بالعطش،كل ما احتاجه أن ارتوي بالماء.