أمد/
تمهيد
على الرغم من اختلاف منطلقاتنا الفكرية، وظروف الصراعات اللّاعقلانية التي شهدها العراق، ولاسيّما بين البعثيين والشيوعيين، لم أجد ما أختلفُ عليه مع صلاح عمر العلي في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة.
وصلاح عمر العلي هو من الجيل الثاني للبعثيين العراقيين، وقد برز اسمه بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968، الذي أعاد حزب البعث إلى السلطة بعد التجربة الدموية التي شهدها العراق، عقب انقلاب 8 شباط / فبراير 1963. وظلّت صورته في الذاكرة العراقية ارتباطًا بالانقلاب التموزي الثاني في 30 تموز / يوليو 1968، الذي أطاح بعبد الرزّاق النايف، رئيس الوزراء، حيث ظهر على شاشات التلفاز مع صدام حسين واثنين من رفاقه، وهم فريق التنفيذ، الذي أجهز على النايف، وحملته طائرة خاصة إلى المغرب حينها، وما قيل من مبررات أن ذلك كان جزءًا من خطة مسبقة، بعد أن عرف النايف وعبد الرحمن الداوود بموعد انقلاب 17 تموز / يوليو، واضطّرت قيادة البعث إلى التعاون معهما كي لا ينفضح أمر الحركة، ولكنها كانت مصممة على التخلّص منهما بأسرع وقت، وهو ما حصل يوم 30 تموز / يوليو، أي بعد 13 يومًا من الإنقلاب الأول، حسب الرواية الرسمية، التي شاعت.
واحتلّ صلاح عمر العلي مكانة بارزة بعد القيادات العسكرية (أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي)، والقيادات المدنية (صدام حسين وعبد الخالق السامرائي وعبد الله السلّوم السامرائي)، فهو عضو في مجلس قيادة الثورة، وعضو في القيادة القطرية ووزير الإعلام والثقافة، إضافة إلى مسؤولياته الأولى عن قطاع الشرطة (الحزبي)، وخارج بغداد منسقًا لعدد من المحافظات (حزبيًا).
مع صلاح عمر العلي
صداقات مع المثقفين
خلال فترة قصيرة من تولّيه المسؤولية، ارتبط صلاح عمر العلي بصداقات مع عدد من المثقفين، واستقطب بعضهم بمن فيهم بعض اليساريين وغير البعثيين، وكان من أبرز أصدقائه، في تلك الفترة، المفكر العراقي المختفي قسريًا منذ العام 1991، عزيز السيد جاسم. وفي استعادة تلك الفترة خلال أحاديث مع صلاح ربما زادت على ثلاثة عقود من الزمن، قال لي: كنت أضيّف السيد جاسم في منزلي مرّة أو أكثر في الأسبوع، لأتباحث معه في شؤون الثقافة والمثقفين والإعلام والصحافة، واستمع إلى رأيه وملاحظاته عن الثقافة العراقية وحقولها المتنوّعة لاطلاعه الواسع وعلاقاته المختلفة، وبعد أن يأكل ويشرب وينتشي، يشتُمُ التكارتة وينتقد بعض مواقفنا السياسية، ويُغادر المنزل، وهي طريقة مملّحة للتعبير عن صداقته اعتدت عليها، وكنت أقبلها من الصديق عزيز، لأنني كنت أشعر أنها نابعة عن حرص وشعور بالمسؤولية، وكان “السيّد” كما أسمّيه، يُطلقها بعفوية محببة، مصحوبة بلهجته الجنوبية وحسجته وتنظيراته المتقدمة.
وكان صلاح، القادم من تكريت، قد عاش في الناصرية، موظفًا في البلديات، من العام 1959 ولغاية العام 1962، ودائمًا ما يذكر أهل الناصرية بالخير والمحبة والإعجاب، وظلّ يرتبط بعلاقات واسعة مع العديد من نخبها السياسية والاجتماعية.
ويذكر صلاح، وهو ما كتبته وجئت على ذكره أكثر من مرّة بخصوص الشاعر عبد الأمير الحصيري، أن عزيز السيد جاسم اصطحب معه إلى زيارتي شخصًا لم أتعرّف عليه، ولم أسمع عنه قبل ذلك لانشغالي بالعمل السياسي، وقال لي هذا شاعر كبير، وعليك إيجاد وظيفة مناسبة له.
وحين أقبل عليّ الحصيري، والكلام لصلاح، لم أستسغ منظره ولا رائحته، فكان يرتدي أسمالًا بالية ومترهّلة، ويحمل بيده حقيبة متآكلة، فقلت مع نفسي: أهذا هو الشاعر؟ وهذا هو الشعر؟ وكنت قد تعرّفت على الجواهري معجبًا وقارئًا، والتقيت به بعد 17 تموز / يوليو، وكرّمته ووجدت فيه ملاحةً وكبرياءً وتطلّعًا، بل وحبًا للحياة على الرغم من تقدّمه في السن، لكنه كان يعشق الجمال ويرنو إليه، فماذا سيكون رأيه لو التقى بالحصيري ؟
ويُضيف صلاح أنه عرف رأي الجواهري الكبير بالحصيري، الذي اعتبره شاعرًا واعدًا ومبدعًا. وقد ظلّت علاقة صلاح عمر العلي بالجواهري قويّة جدًا، وهو الذي أقنعه بحضور مؤتمر المعارضة في بيروت (آذار / مارس 1991)، بل أنه هو من اصطحبه من دمشق إلى بيروت بسيارة خاصة. وكان الجواهري كلّما يُذكر إسم صلاح عمر العلي أمامه، يقول: بأنه زين الشباب وأن “أبو عمر” صاحب موقف وصديق وفي، وهو ما سمعته منه أكثر من مرّة.
أصدر صلاح عمر العلي أمرًا بتعيين الحصيري، ووجد له السيد جاسم وظيفة أخرى في مجلة “”وعي العمّال، التي كان يشرف عليها عبد الخالق السامرائي، وهكذا أصبح راتب الحصيري، حوالي 80 دينارًا، في حين كان راتب خريج الكليّة 42 دينارًا. ورويت كيف صرف الحصيري أول راتب استلمه، فجاء يبحث عنّا في حانة الجندول في شارع أبو نؤاس، حيث كنا نلتقي ثلّة من الاصدقاء غالبيتنا مثقفين وأدباء وسياسيين (طلبة أو خريجين)، مساء أول خميس من الشهر، وما أن رآنا حتى انفرجت أساريره، فأخرج حزمة دنانير من جيبه، وأعطاها إلى النادل، مخاطبًا إياه: الجماعة “ويير” على حسابي، وكلمة “ويير” تعني مدفوعًا حسابهم، وكلما كان يأتي من يعرفه وسبق أن استضافه على كأس عرق، حتى يضمه إلى قائمة ضيوفه ليتولّى دفع حسابهم.
يقول صلاح: بعد أن قابلت الحصيري والسيد جاسم، وأصدرت الأمر، طلبت من السيد جاسم مقابلتي لوحده، فدخل عليّ، فطلبت منه شراء بدلتين وقمصان وأربطة وأحذية للحصيري، وعليه الاستحمام باستمرار، كي يبدو بالمظهر اللائق بالثقافة والمثقفين، خصوصًا بالنسبة لموظفي الوزارة، وهو ما حصل، ولكن لأشهر قليلة لا تزيد من عدد أصابع اليد، “فعادت حليمة إلى عادتها القديمة”، وعاد الحصيري مجددًا إلى بوهيميته وحياته العبثية وطريقة عيشه الوجودية الصعلوكية، وانقطع عن العمل وعن تصحيح المواد المرسلة إليه. وقد رويت ذلك في مقالة لي العام 2008، بعنوان “الحُصيري: الشعر والتمرّد الدائم”.
يقول الحصيري:
أنا الشريد لماذا الناس تذعر من / وجهي وتهرب من قدّامي الطرق؟
وكنت أفزع للحانات تشربني / واليوم لو لمحت عيني تختنق
مع الشيخ حسين شحادة وصلاح عمر العلي وحيدر شعبان
أبو أيوب “أبو عمر”
كان صلاح يُكنّى ﺑ “أبو أيوب”، ثم أخذ يُعرف ﺑ “أبو عمر” لاحقًا، وعمر هو نجله البكر، والذي فارق الحياة وهو في عزّ شبابه، وترك لوعة لدى العائلة. لم يستمر صلاح عمر العلي في الوزارة طويلًا، فقد حصلت خلافات في مجلس قيادة الثورة، الذي كان يجتمع في كل يوم أربعاء، وكان عمّه، شاكر علي التكريتي، الصحافي المعروف، قد أخبره بما حصل للدكتور شامل السامرائي، وهو طبيب، وكان وزيرًا للصحة، فقد تعرّض للتعذيب والإهانة عند اعتقاله، وقد خاطبه بشيء من الاستفزاز: أهذا ما وعدتم به الناس بثورتكم البيضاء، وقلتم أنكم سوف لا تلجؤون إلى ما فعلتموه في انقلاب 8 شباط / فبراير 1963؟ فما كان من صلاح، إلّا أن عرض الموضوع على مجلس قيادة الثورة، وحصل خلاف حول صحّة أو صدقية رواية السامرائي، فطلبوا منه إحضاره إلى القصر الجمهوري.
وبالفعل جيء به إلى الموعد في الأسبوع التالي ليسأله طه ياسين رمضان وصلاح عمّا تعرّض له خلال فترة اعتقاله، فردّ بكلمات غامضة: مردّدًا أنها “ضيافة أخوية”، وهي تورية، وكان قد شعر بخوف شديد، وحين طُلب منهما تقديم تقرير عن المقابلة إلى مجلس قيادة الثورة، قال رمضان: أن السامرائي شكر الحزب والثورة على المعاملة الحسنة، ونفى أنه تعرّض للتعذيب، وضاع صوت صلاح وسط زحام أحاديث عن التشكيك بالعهد الجديد، ومحاولات الانتقاص من هيبته وقوّته.
لم يكتفِ صلاح بذلك، بل قابل الرئيس البكر على انفراد، ليبلغه حقيقة ما حصل وما سمعه على لسان عمّه، إضافة إلى العبارة الوحيدة، التي نطق بها السامرائي، وأبدى نقده الشديد للعودة لمثل هذه الأساليب التي أجهضت “الثورة” في السابق على حد تعبيره، وهكذا بدأت الخلافات تكبر على هامش هذه الحادثة، وبدأ صلاح يكثر من تذمّره من بعض التصرّفات وما يسمعه مما يحصل في قصر النهاية، فأُقيل من الوزارة واختار هو السفر إلى القاهرة وبيروت بعدها، قضى فيهما بضعة أشهر، وذلك تجنبًا للصراعات التي بدأت تتّسع.
في بيروت كما عرفت من الشاعر مظفر النواب، والمخرج السينمائي قاسم حول والشاعر فوزي كريم، أنه كان يلتقي بهم، خصوصًا والجميع في ظروف صعبة، وكان يقوم بضيافتهم كلّما وجد إلى ذلك سبيلا، وهو ما عرفته أيضًا من طلال شرارة، عضو القيادة القطرية اللبنانية لحزب البعث، الذي قال لي:كان يلتقي عند صلاح في بيروت بعض الذين لديهم تحفظات حول المسيرة الجديدة، لاسيّما ما ارتبط منها بالإعلام الخارجي، وتقييم بعض إجراءات الحكم في العراق والمسيرة القومية عمومًا، وقد ظلّت القيادة البعثية اللبنانية، بحكم أجواء الحريّة التي يعيشها لبنان، تمتلك رؤيةً نقديةً أو قريبة منها قياسًا بالبلدان العربية الأخرى.
بعد تشتّت وهموم، عاد صلاح إلى العراق، وقرّر أن يكمل دراسته في كليّة القانون والسياسة، طالبًا مواظبًا على الدوام وإداء الامتحانات، وكان له ما أراد، مبتعدًا عن المواقع السياسية المباشرة، وكان قد هاتفه نائب الرئيس صدام حسين، ليلتقي به ويبلغه أن رفاقه يكاد يجمعون، وباقتناع تام بأن صلاح يضمر شرًا، وهو إن يكن متآمرًا، فهو مستعد للتآمر، وقال له صدام قبل أن ينفي صلاح التهمة، إلّا أنا، فقناعاتي عكس ذلك، وما عليك إلّا أن تتّصل غدًا بمرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي، الذي كان فيها وزيرًا للخارجية وتقبل الذهاب سفيرًا إلى أي دولة تختار.
مع صلاح عمر العلي وإياد علاوي وصحافية ألمانية داعمة للمقاومة الفلسطينية
صلاح سفيرًا وأسرار الاستقالة وما بعدها من هموم
السويد
يقول أبو عمر: لم يبق أمامي سوى الرضوخ، وحاولت أن أُبيّن وجهة نظري، التي لا تخلو من بعض الانتقادات الطفيفة، والتي يعرفها السيد النائب، وسبق لي أن طرحتها في مجلس قيادة الثورة، مثل تدخّل خير الله طلفاح في شؤون محافظة صلاح الدين، قبل أن يُؤسس مجلسًا في بغداد، حيث كان كلّ يوم جمعة يذهب إلى هناك، ويفتح أبواب المحافظة وكأنها “ديوانية”، ويستقبل زوّاره، ويفتي ويقرّر ويصدر الأوامر والتعليمات، ويمنح ويحجب الأراضي والعطايا، دون أن تكون له صفة رسمية، لكن صدام قطع الجواب بأنه سيتّصل بمرتضى لإبلاغه بالأمر، وودّعني ببشاشته المعهودة، وتمنى لي عملًا ناجحًا في مهمّتي الجديدة.
وإذا كانت عقدة لساني لم تُحل، كما يقول صلاح، فقد ذهبت إلى صالح مهدي عمّاش مباشرةً لأسأله الأمر، وأبث له همومي ومخاوفي وتحفظاتي، فنصحني الأخير بقبول المهمة على الفور، دون أي انتظار. وفي اليوم التالي، ذهب صلاح إلى مرتضى الحديثي، الذي استقبله بحفاوة بالغة، وعرض عليه السفارات الشاغرة، فطلب صلاح منه أبعد سفارة عراقية، حيث لا يوجد عراقيون، طالما أن الرفاق يعتقدون أنني متآمر، فما بالك بالآخرين، فقال له مرتضى: لدينا السويد، فيقول أبو عمر: قبلت لحظتها على الفور، وحاول مرتضى أن يُثنيني عن الذهاب إلى السويد، لقساوة الطقس، وعدم وجود عراقيين حينها (أواسط السبعينيات، باستثناء موجات اللجوء الكردية أولًا، ثم العربية لاحقًا).
نيويورك
يقول صلاح: كان ذلك قراري، طالما كانت السفارة العراقية في ستوكهولم شاغرة، وكنت أرغب الابتعاد تمامًا عن أجواء الاحتكاك السياسي. وبعد أن قضى نحو سنتين في السويد، تم نقله إلى السفارة العراقية في أسبانيا، ومنها شغل موقع ممثّل العراق الدائم في الأمم المتحدة، الذي بقى فيه من العالم 1979 ولغاية العام 1982، حيث قرّر الاستقالة من موقعه وترك الوظيفة بعد تعقيدات الحرب العراقية – الإيرانية، وعدم قدرته على تبرير مواقف بلده أمام المجتمع الدولي، حيث كان بين نارين كما يقول، الأولى هي مصالح بلده العليا، التي لا يريد التفريط بها؛ والثانية هي الإحراج الذي وقع به بعد الحرب والخطابات الرسمية التي لا ترتقي إلى اللغة الديبلوماسية والدولية، بل تدلّ على جهلها.
الجدير بالذكر أن صلاح كان قد التقى الرئيس صدام حسين في قمة عدم الانحياز في هافانا (3 – 9 أيلول / سبتمبر 1979)، وكانت الثورة الإيرانية قد نجحت بالإطاحة بنظام الشاه ( 11 شباط / فبراير 1979)، وبدأت العلاقات العراقية – الإيرانية بالتوتّر بعد هدوء نسبي أعقب اتفاقية (6 آذار / مارس 1975) التي وقعها محمد رضا بهلوي شاه إيران وصدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها في الجزائر، ودار الحديث التالي بينهما، حيث سأل صدام، صلاح: ما الذي ينبغي أن نفعله مع إيران؟ وكانت المناوشات جارية على قدم وساق عبر الحدود، خصوصًا وأن إيران أخذت تُعلن عن رغبتها في تصدير الثورة، فكان جواب صلاح: أظن أنها فرصة مناسبة لتسوية الخلافات مع إيران، على أساس حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وبالطرق السلمية والقانونية يمكن استعادة حقوقنا، فما كان من صدام إلّا أن يخاطبه: يبدو أنك أصبحت ديبلوماسيًا يا صلاح تمامًا، هؤلاء لا بدّ من تكسير رؤوسهم، ويقول صلاح: شعرت أن ثمة ما هو مبيّت تحضيرًا للحرب العراقية – الإيرانية، التي ابتدأت بعد عام من هذا اللقاء (22 أيلول / سبتمبر 1980).
وفي نيويورك، أقام صلاح علاقات واسعة مع العديد من القيادات العربية، وممثلي البلدان العربية في الأمم المتحدة، وشخصيًا أعرف ثلاثة منهم حدّثوني عن دوره العروبي ومواقفه العقلانية، وهم الكويتي الصديق عبد الله بشارة، الذي عمل لاحقًا كأول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي بعد تأسيسه في العام 1981، وهو ما ذكره كذلك في كتابه الموسوم “الغزو في الزمن العابس – الكويت قبل الغزو وبعده”، الذي كتبت عنه تقريظًا في جريدة الخليج (الإماراتية) بعنوان “غزو الكويت.. الزمن العابس” في 5 آب / أغسطس 2020، والصديق محسن العيني، الذي كان رئيسًا لوزراء اليمن، وقد اشتركنا في العديد من الفاعليات والأنشطة الحقوقية، حتى وفاته في القاهرة، حيث كنّا أعضاء في المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب، وكذلك الصديق منصور الكيخيا، الذي كان وزيرًا لخارجية ليبيا، وممثلها لاحقًا في الأمم المتحدة، والذي التحق بالمعارضة ضدّ القذّافي، ونصب هذا الأخير كمينًا لاختطافه في العام 1993 في القاهرة، حين كنّا نحضر سويّةً مؤتمرًا حقوقيًا فيها، وقد كتبت عنه كتابًا بالعربية والإنكليزية بعنوان “الاختطاف القسري في القانون الدولي – الكيخيا نموذجًا” “Forced Disappearance Under The Light of International Law – The Kekhia Case (1998).” .
كما قمنا في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، بمساعدة ودعم الفنان محمد مخلوف، عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة، الذي أخرج فيلمًا عنه بعنوانه “إسمي بشر”، وشارك في تقديم شهادات عنه صلاح عمر العلي ومحسن العيني وبهاء العمري زوجة الكيخيا وكاتب السطور، إضافة إلى شخصيات ليبية.
وقد أسسنا لجنة للدفاع عنه وإجلاء مصيره في لندن، كان على رأسها الشاعر بلند الحيدري، وضمّت عددًا من الشخصيات منهم صلاح عمر العلي وناهدة الرمّاح وفاطمة أحمد ابراهيم ومحمد المقريف وخلدون الشمعة وغادة الكرمي ومصطفى كركوتي وأمجد السلفيتي وآخرين.
صلاح عمر العلي
الاستقالة وما بعدها من هموم
كنت قد سألت صلاح “أبو عمر” في آخر لقاء بيننا (تموز / يوليو 2023)، حيث قمت بزيارته في اسطنبول: وماذا حصل بعد مغادرتك الموقع الرسمي؟ قال: تعرّضت إلى ضغوط شديدة من جانب الحكم في العراق كي أعدل عن استقالتي، التي حاولت أن أظهرها في البداية، وكأنها أقرب إلى انقطاع عن العمل، لاسيّما مع اشتداد أوار الحرب العراقية – الإيرانية، وفي السنة الأولى لها، فوجدت الأمر مناسبًا كي أُعلن الابتعاد عن الموقع الرسمي.
كما واجهت ضغوطًا أمريكية شديدة، لكي أصرّح ضدّ العراق أو أُعلن موقفًا مناوئًا للحكومة بما يخدم السياسة الأمريكية، فرفضت بشدّة. أما الإيرانيون فهم الأخرون حاولوا استمالتي لكنني لم أستجب، على الرغم من أنهم طرحوا اسمي كبديل لصدام، إذْ روّجوا أنهم يقبلون بقائد تكريتي وبعثي وليس صدامًا.
وقد جاءني رسول من الرئيس حافظ الأسد طالبًا لقائي، فذهبت إلى باريس ومنها إلى لندن، ثم طرت إلى الشام، والتقيت الرئيس حافظ الأسد، وبيّنت له وجهة نظري، وحاولت قدر الإمكان التعتيم على تلك الزيارة السريّة الخاصة، لكن المعلومات وصلت إلى الأمريكان، على الرغم من تكتّمي، وبعد عدّة أيام وصلتني رسالة بأن عليّ مغادرة الولايات المتحدة في مدّة أقصاها شهر، لأنه غير مرغوب بي، وحاولت الاستفسار، هل الأمر يشمل عائلتي وأطفالي الصغار آنذاك؟ فكان الجواب: أن المشمول هو شخصك لأسباب سياسية، ففكّرت بالحصول على إقامة عبر صديق لي في باريس، ولديه علاقات واسعة، وكان الجواب هو الرفض القاطع، وأخيرًا وقبل نهاية المدّة المذكورة اتصلت بأحد الأصدقاء لدعوتي إلى لندن، وحصلت على الفيزا وذهبت إلى هناك، وعلى الرغم من انتهاء مدّة الفيزا، إلّا أنني لم أخرج من بريطانيا، وحاولت عبر المحامي وبالطرق القانونية، التي يعرفها، الحصول على إقامة لي بعد مرور نحو سنة كاملة، حيث التحقت العائلة بي في لندن.
وسألته ماذا عملت في نيويورك بعد انتهاء عملك في الممثلية العراقية كمندوب دائم للعراق في الأمم المتحدة؟ فأجاب أنه حاول الابتعاد عن محيط نيويورك وعن الأنظار والأضواء، وقد سعى لترتيب مشروع خاص، لكنه اضطّر إلى تركه بعد تعذّر بقائه في الولايات المتحدة.
صلاح عمر العلي في لندن وجولة جديدة من المعارضة
اللقاء في لندن
في لندن التقيت صلاح عمر العلي، وذلك بعد وصولي إليها ( تشرين، الأول / أكتوبر 1990)، وكان العالم قد اهتزّ لخبر مغامرة غزو الكويت في 2 آب / أغسطس 1990، ومهّد الصديقان إياد علّاوي واسماعيل القادري للقاء حين زاراني في منزلي، ثم حدّدنا موعدًا لتبادل وجهات النظر بشأن أوضاع ما بعد عملية الغزو وما سيترتّب عليها. واجتمعنا حينئذٍ، كلّ من صلاح عمر العلي ونوري عبد الرزاق وإياد علّاوي واسماعيل القادري وكاتب السطور، وناقشنا موضوع احتمالات تطوّر الموقف.
وتباينت الآراء بيننا، وكان رأي نوري في البداية استبعاد وقوع الحرب، وانصبّت تقديراته على احتمالات الانسحاب العراقي، وحصول مساومة تُرضي الغرب، أما رأي صلاح وإياد والقادري وشعبان، فقد كان يميل إلى أن الحرب قائمة، حتى لو انسحب النظام العراقي من الكويت، فقد قُضي الأمر بإرسال القوّة العسكرية الأمريكية إلى الخليج والجزيرة، وتوقّعنا أبعد من ذلك، احتمال احتلال العراق والإطاحة بالنظام، خصوصًا وكان صدام حسين قد تباهى بامتلاك “الكيمياوي المزدوج” في لحظة غرور غير مسؤولة، مهددًا بتدمير نصف “إسرائيل”، وذلك في الوقت الذي كانت المعادلة الدولية قد اختلّت تمامًا لصالح الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب عمومًا، بعد تغيير أنظمة أوروبا الشرقية، إثر سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، وتصدّع موقع الاتحاد السوفيتي، الذي أخذ بالتحلّل تدريجيًا، حتى انتهائه في أواخر العام 1991.
واجتمعنا أكثر من مرّة لاحقًا مع الفريد هوليداي، الخبير اليساري البريطاني، والخبير بأوضاع الشرق الأوسط واليمن بشكل خاص، والتي زارها في السبعينيات أكثر من مرّة وكتب عنها، وذلك لتوسيع دائرة النقاش والاحتمالات والتوقعات. وكان رأيه أقرب إلى رأي نوري، حيث لم يرجّح وقوع الحرب، بل إنها لم تكن ضمن الاحتمالات الأولى، فقد تفضي الأمور إلى انسحاب محدود، والاحتفاظ بجزيرة بوبيان أو انسحاب تدرّجي بعد تطمين الولايات المتحدة أو ضربة عسكرية مخففة للتمهيد للانسحاب بعد وساطات وتسويات دولية، علمًا بأن نوري، بعد التطورات المتسارعة، اعتبر الحرب قائمة لا محال لتدمير القوّة العسكرية العراقية لصالح “إسرائيل” بعد الخبرات لتي اكتسبتها من الحرب العراقية – الإيرانية.
وعشية الحرب (17 كانون الثاني / يناير 1991)، نظّمنا اجتماعًا موسّعًا حضره عددًا من الشخصيات العراقية للاتفاق على توجّه مشترك، وقبل ذلك فكّرنا باسم من ستوجّه الدعوة؟ وقلنا طالما ستكون الدعوة في منزل الأستاذ صلاح فلتكن باسمه الشخصي، وتمهيدًا لذلك عقدنا لقاءً مصغّرًا تحضيرًا للاجتماع الموسّع، الذي اعتُبر حدثًا لندنيًا – عراقيًا حينها، حيث نوقش فيه موضوع الموقف من الحرب على العراق، وتوقعات ما بعد الحرب، وذلك على مدى ثلاث ساعات.
المعادلة الصعبة: لا لغزو الكويت ولا لاجتياح العراق
بعد مناقشات مستفيضة وآراء مختلفة ومتنوّعة وعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات، كُلّفت بإعداد صيغة بيان لعرضه على الحاضرين لتوقيعه، إضافةً إلى عدد من الشخصيات، التي لم يتسنَّ لها الحضور. وقد حرصت على أن يكون البيان متوازنًا، فليس باسمنا تُشنّ هذه الحرب، وليس باسمنا جرى اجتياح الكويت، وما ندعو إليه هو الانسحاب الفوري للقوات العراقية من الكويت، وتسوية المشاكل العالقة بين البلدين، في إطار سياسة حسن الجوار والعلاقات الأخوية التاريخية والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وقواعد القانون الدولي، التي تقضي احترام السيادة وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية وحلّ المشاكل بالطرق السلمية، وذلك لقطع الطريق على القوى الإمبريالية والصهيونية المستفيدة من كلّ ذلك، والتي جلبت جيوشها إلى المنطقة، ودعونا لانسحابها، وعودتها من حيث أتت، دون نسيان أهمية وجود نظام ديمقراطي في العراق، فالديكتاتورية كانت وراء المغامرات العسكرية، واستمرارها يلحق أفدح الأضرار بالعراق ومستقبله.
وقد أثار البيان حفيظة العديد من القوى، أولها – النظام العراقي، الذي حمّلناه مسؤولية الغزو؛ وثانيها – القوى الإمبريالية والصهيونية، التي هي المستفيدة من هذه الحرب، خصوصًا تكثيف وجودها العسكري، وهو ما أوصلناه إلى جهات عربية مختلفة، بعضها اتّفق معنا وأبدى مخاوفه هو الآخر، وبعضها لم يخفِ تحفّظه على البيان؛ وثالثها – بعض القوى السياسية التي أرادتها فرصة للإطاحة بالنظام العراقي، حتى ولو أدّت إلى احتلال العراق، سواء أعلنت ذلك أو لم تعلن (بعض القوى الإسلامية والكردية وبعض اليساريين)، فقد اعتبرت هذه القوى مغامرة النظام العراقي بغزو الكويت فرصة ذهبية لها، ولو على حساب الشعب العراقي الذي يُعاني الأمرين؛ ومثل هذا الموقف العدمي لبعض القوى استمرّ طيلة فترة التسعينيات، فلم تتورّع تصريحًا أو تلميحًا بالدعوة إلى استمرار الحصار، تحت عنوان أنه سيؤدي إلى تآكل النظام وإسقاطه.
ولم تخفِ بعض هذه الجهات صراحةً معارضتها لوجهة البيان، بل وصفته ﺑ “البيان السيء الصيت”، والغرض منه ممالأة لصدام حسين، ومحاولة لإطالة أمد حكمه بزعم “الدفاع عن الاستقلال الوطني”، وحمايته من الاضرار اللاحقة، وهو ما تمّ تحريض أحد الشخصيات الكردية البارزة للقول بما يقارب ذلك، خلال سفره إلى السعودية، لكنه حين عرف حقيقة البيان والشخصيات الموقعة عليه، اعتذر شخصيًا من عدد من الأسماء الموقّعة على البيان، وقال أنه وقع تحت تأثير تضليل البعض.
ومن الشخصيات التي وقعت على البيان: صلاح عمر العلي، نوري عبد الرزاق، محمود عثمان، إياد علّاوي، بلند الحيدري، موفق فتوحي، محمد الظاهر، فاروق رضاعة، مهدي الحافظ، عادل مراد، اسماعيل القادري، تحسين معلّة، صلاح الشيخلي، سمير شاكر محمود، عائدة عسيران، عدنان المفتي، عبد الحسين شعبان وآخرين. وطلب هاني الفكيكي وضع اسمه على البيان الذي صدر حينها والذي مفاده ليس باسمنا: لا للغزو، ونعم لتحرير الكويت ولا للحرب على العراق ونعم لإقامة نظام ديمقراطي.
جبهات وطنية وتحالفات بالجملة
كانت قد تشكّلت في 27 كانون الأول / ديسمبر 1990 لجنة العمل المشترك، وحاولت احتكار العمل للقوى الكبرى، كما تمّ تسميتها، وضمّت الحزبين الكرديين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) والحزبين الإسلاميين (الدعوة والمجلس الإسلامي) والحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث (الجناح السوري).
وقد بدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع، على جبهة المعارضة، بعد إسدال الستار على جبهة جوقد (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، التي تأسست في دمشق في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1980، وضمت حزب البعث (جناح سوريا) والحركة الاشتراكية العربية (جواد دوش وعوني القلمجي) والاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الاشتراكي (مبدر الويس) والحزب الشيوعي العراقي والحزب الاشتراكي الكردستاني (محمود عثمان ورسول مامند)، وجيش التحرير الشعبي (هاني حسن النهر)، والمستقلّين الذين مثلهم حسن النهر.
وجبهة جود التي تأسست بعد أسبوعين من الجبهة الأولى في كردستان، وهي مختصر ﻟ “الجبهة الوطنية الديمقراطية”، وضمت الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الكردستاني وحزب الباسوك، وهو حزب قومي كردي صغير، والحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، الذي رفض حزب الاتحاد الوطني (أوك) انضمامه إلى جوقد، وهو الموقف الذي سانده أيضًا حزب البعث (الجناح السوري) بتحريض من أوك.
وقد حصلت احتكاكات بين الجبهتين، كان واحدًا من نتائجها السلبية مجزرة بشتاشان، التي راح ضحيّتها نحو 70 شيوعيًا على يد مقاتلي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في العام 1983، وكنّا زكي خيري وكاتب السطور قد قابلنا نائب الرئيس السوري عبد الله الأحمر، باسم الحزب الشيوعي في أواخر العام 1981، ودعونا سوريا وحزب البعث للتدخّل لدى الأطراف المختلفة لتخفيف حدّة التوتّر بين بعض أطراف المعارضة، لما تملكه من دور وثقل عندها جميعًا لتسوية الخلافات، واقترحنا صيغة حلّ مفادها، إمّا الاتفاق على برنامج عمل موحّد، يقوم على دمج الجبهتين، أو التنسيق بينهما إن تعذّر توحيدهما، أو انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني في جوقد، وعندها تنتهي المشكلة.
وللأسف فإن قصر نظر جميع الأطراف كان وراء ذلك التشتّت والاحتراب، وهو الذي استمرّ مع المعارضة في مراحلها المختلفة، حيث تحاول بعض الأطراف الهيمنة على توجهاتها أو بسط جناحها على هذه المجموعة أو تلك أو محاولة احتكار تمثيل المعارضة أو أجزاء مهمة منها.
مؤتمر بيروت وتأسيس الوفاق
انعقد المؤتمر الأول للمعارضة العراقية في آذار / مارس 1991، بدعم غير مباشر سعودي – سوري، وبمباركة إيرانية، وذلك بعد انتهاء الحرب وإعلان انسحاب العراق من الكويت. وشهدت أجواء المؤتمر اندلاع الانتفاضة في جنوب العراق وتزامنًا معها، وفي كردستان كذلك. لكن المؤتمر كان عبارة عن خطابات ومزاودات، ولم يتم التوصّل فيه إلى برنامج عملي وهيئة قيادية لتمثيله، وانتهى مثلما بدأ بخلافات تعمّقت مع مرور الأيام.
حضر صلاح عمر العلي وإياد علّاوي واسماعيل القادري وعدد من رفاقهم المؤتمر باسم حركة الوفاق، كما حضر المؤتمر سعد صالح جبر وحزبه المجلس العراقي الحر، ومن أبرز الشخصيات التي حضرت معه صادق العطية وشفيق قزاز، وهو شقيق وزير الداخلية سعيد قزاز، الذي أعدمته ثورة 14 تموز / يوليو 1958، وقد وصلوا بطائرة سعودية خاصة من الرياض إلى دمشق، كما كان الحضور المميّز هو لحزب البعث (الجناح السوري)، والحركة الكردية ممثلة بجناحيها، والحركة الإسلامية بجناحيها، والحزب الشيوعي وشخصيات مختلفة.
وكان يُفترض انعقاد المؤتمر الثاني في السعودية، لكن ثمة تغييرات طرأت على ساحة المعارضة، فلم تمضِ سوى فترة قصيرة، إلّا والقوى السياسية بدأت بالانقسام، فالمجلس العراقي الحر انقسم إلى جناحين، أحدهما كان على رأسه سعد صالح جبر، الذي سبق له أن أصدر جريدة “التيار”، والثاني كان بقيادة نائبه صادق العطيّة، وانقسمت حركة الوفاق كذلك إلى مجموعتين، ضمّت الأولى صلاح عمر العلي، والثانية إياد علّاوي، وأسس سامي عزارة المعجون حركة الإصلاح، وتأسست الحركة الملكية الدستورية برئاسة الشريف علي بن الحسين، وهذه كلّها كيانات تم تشكيلها على عجل، وحدثت خلافات داخل اتحاد الديمقراطيين، الذي ضم شخصيات ثقافية واجتماعية، مثل بلند الحيدري وموفق فتوحي ومحمد الظاهر وفاروق رضاعة وعزيز عليّان وآخرين، كما حدثت خلافات داخل حركة المنبر الشيوعي، وعاد الرفيق ماجد عبد الرضا إلى بغداد على مسؤوليته الخاصة، كما عاد عدد من الشيوعيين الآخرين المحسوبين على ملاك القيادة الرسمية قبل وبعد الحرب على العراق.
كما أن لجنة العمل المشترك، التي مقرّها دمشق، هي الأخرى انقسمت إلى جناحين، ففرعها اللندني بغالبيته اختار عقد مؤتمر مستقل برهانه على العامل الدولي، أما فرعها الأساسي في دمشق، فقد مضى على توجهه الإقليمي الأول.
وأخذت العناصر الأساسية في لجنة العمل المشترك – لندن، تعمل على عقد المؤتمر الثاني الخاص بالمعارضة. وقاد هذا التوجّه أحمد الجلبي، عضو لجنة العمل في لندن، الذي ظهر لأول مرّة في ساحة المعارضة، حين وقّع على بيان ضمّ 28 شخصية، بُعيد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، وذلك في العام 1989، إضافة إلى السيد محمد بحر العلوم وتحسين معلّة وإياد علّاوي وهاني الفكيكي وليث كبّة والحزبين الكرديين وبعض الإسلاميين. وتكلّلت هذه الجهود بعقد مؤتمر للمعارضة في فيينا في حزيران / يونيو 1992، قاطعته بعض القوى. الأمر الذي أدى إلى تعميق الانقسامات في الخريطة السياسية العراقية المعارضة، خصوصًا بدخول الولايات المتحدة بثقلها، وتعويل بعض الأطراف عليها، بل وضع بيضها في سلّتها للإطاحة بالنظام.
في القاهرة
بعد انتهاء الحرب على العراق، دعتنا منظمة التضامن الأفرو – آسيوي (الأبسو)، لحضور اجتماع للاستماع إلى وجهة نظر عراقية بخصوص ما حصل في العراق ومآلاته واحتمالات تطوّر الموقف والتعاطي معه عربيًا وإقليميًا. وقد حضر من القوميين العرب أديب الجادر وأحمد الحبوبي، ومن البعثيين صلاح عمر العلي وإياد علاوي، ومن الشيوعيين مهدي الحافظ وعبد الحسين شعبان (وحينها كنّا نمثّل حركة المنبر الشيوعي)، إضافة إلى وجود نوري عبد الرزاق في قيادة منظمة التضامن الأفرو – آسيوي، وهو مؤسس في حركة المنبر، وقد أدار الاجتماع السفير مراد غالب، رئيس منظمة التضامن.
وخلال وجودنا في القاهرة (أيار / مايو 1991)، أجرينا العديد من الاتصالات مع قوى وشخصيات يسارية وناصرية، وخصوصًا من حزب التجمّع خالد محي الدين ورفعت السعيد و فريدة النقاش وحسين عبد الرازق، إضافة إلى محمد فايق وأحمد حمروش وصلاح الدين حافظ وفاروق أبو عيسى (السودان) رئيس اتحاد المحامين العرب، كما أعطينا العديد من الحوارات الصحافية واحتفظ بمقابلة معي في جريدة الأهالي وهي بعنوان “أمريكا تسعى لإنهاك صدّام وإنهاك المعارضة أيضًا”، في 1 أيار / مايو 1991، والمنشورة في كتاب “عبد الحسين شعبان – الصوت والصدى: حوارات ومقابلات في السياسة والثقافة”، إعداد وتقديم كاظم الموسوي، الدار العربية للعلوم، 2010.
وقد تعزّزت علاقتي كثيرًا بصلاح خلال وجودنا في القاهرة، وقضينا أكثر من أمسية في خان الخليلي وسيّدنا الحسين، ودعانا نوري عبد الرزاق مع المجموعة لزيارة الشخصية الوطنية والقانونية المرموقة عبد اللطيف الشواف، الوزير السابق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وكنت قد تعرّفت عليه بالقاهرة في نهاية العام 1970 وبداية العام 1971، حين كنت أحضر مؤتمرًا في القاهرة بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بنحو أربعة أشهر، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك في أكثر من مناسبة، قدّمت فيه بحثًا بعنوان “عبد الناصر: وحركة التحرّر الوطني”. واستمعنا إلى آرائه بخصوص الوضع القائم في العراق ومستقبل الحكم، وما على القوى الوطنية القيام به لحماية الاستقلال الوطني والانتقال التدرّجي نحو الحكم التداولي للسلطة وسيادة القانون والشرعية الدستورية بدلًا من الشرعية الثورية.
وقد حضر على هامش اجتماع القاهرة شكري صالح زكي الوزير القومي، لعلاقته بحركة الوفاق عند تأسيسها، وساهم في التحضير لاجتماعاتها الأولى. وقد أخبرني أنه هو الذي اقترح اسم الوفاق الوطني، لكنه لم يحضر اجتماع منظمة التضامن الأفرو – أسيوي. وأتذكّر أنّ اللقاء كان وديًّا بين أحمد الحبوبي وصلاح عمر العلي، وظلّ حبل الودّ قائمًا بينهما.
الوفاق
كان تأسيس حركة الوفاق التي ضمّت بعثيين سابقين قد تمّت على مراحل، وعبر اجتماعات في لندن والرياض، حيث كان قد وصل إليها عدد من الضباط اللّاجئين بعد حرب الخليج الثانية، وإثر الانتفاضة الآذارية في العام 1991، وشملت اللقاءات الأولى صلاح عمر العلي وإياد علاوي وصلاح الشيخلي وأرشد توفيق وشكري صالح زكي وتحسين معلّة وفارس حسين وتوفيق الياسري وضرغام كاظم وعلي الزبيدي وسليم شاكر الإمامي واسماعيل القادري، على الرغم من أن الأخير كان على ملاك قيادة البعث السورية، إلّا أنه بعد انتقاله إلى لندن، انضمّ إلى حركة الوفاق قيد التأسيس، وتدريجيًا انقطعت علاقته بالتنظيم السوري، كما كان عدد من المحسوبين على ملاك البعث سابقًا، على اتصال بحركة الوفاق.
وأصدرت الحركة جريدة باسم “بغداد”، دعاني صلاح وإياد للكتابة فيها على نحو أسبوعي، فاعتذرت، لأن قرائي عربًا من بلدان عربية مختلفة وغير معنيين في الكثير من الأحيان بشؤون معارضة الحكم في العراق، التي تخصص لها صحف المعارضة غالبية مقالاتها وأخبارها، علمًا بأن الكتابة في الصحف العربية تختلف عن الكتابة في صحف المعارضة، وغالبًا ما تتجاوز هذه الأخيرة، مثل الصحف الرسمية والأيديولوجية، النظرة الموضوعية بهدف إظهار مساوئ النظام وعيوبه من جانب المعارضات ومثالب وثغرات المعارضات من جانب الأنظمة، بل اتهامات متبادلة بين الطرفين، فضلًا عن ضعف المهنية والمعايير المعتمدة في الصحافة المعروفة بشكل عام.
وكنت حينها أكتب في “جريدة الحياة”، وتنشر لي “جريدة القدس العربي” بعض المقالات أيضًا، إضافة إلى الصحف والمجلات العربية والفلسطينية الأخرى، وباستثناء “صحيفة المنبر الشيوعي”، التي كنت رئيسًا لتحريرها في الثمانينيات، لم أكتب في صحف المعارضة للسبب ذاته، علمًا بأنه في الغالب الأعم كان المعارضون يكنّون أنفسهم بأسماء أو ألقاب مستعارة لإخفاء هويّاتهم، مثل “أبو فلان” أو يختارون اسمًا تعويضيًا لأسمائهم، ولكني حرصت على الكتابة باسمي، بما يُعطي للقارئ الصدقية والاطمئنان لجهة القضية المراد معالجتها، على الرغم مما جلبه هذا الأمر لي ولعائلتي من أذى، ولاسيّما إثر صدور كتابي “النزاع العراقي – الإيراني”، في مطلع العام 1981، فضلًا عن موقفي من الحرب العراقية – الإيرانية.
بدأت صحيفة “بغداد” تنتشر في أواسط المعارضة العراقية، وأخذت الكثير من الأقلام اليسارية تكتب فيها باستمرار، بل تعاقد البعض معها، وكان دور صلاح بارزًا فيها، فقد اختار أن يكون هو المسؤول عن الإعلام، وموجهًا له، لما تمتّع به من معرفة وعلاقات وإمكانيات في استقطاب شخصيات للكتابة في الجريدة، وقد كان ينشر لي ما ألقيه من محاضرات أو ما يصدر عني، أو يُعيد نشر ما أكتبه في بعض الصحف العربية، لاسيّما القضايا التي تتعلّق بالعراق.
كان الترقّب شديدًا بعد قمع الانتفاضة، وأتذكّر أنه وصلتني بعض الأخبار بخصوص ذهاب مام جلال الطالباني إلى بغداد للقاء الرئيس صدام حسين، وحينها كنت ألقي محاضرة في ديوان الكوفة “الكوفة كاليري” في لندن، حيث كانت بعنوان “المهجّرون والقانون الدولي”، جئت فيها على مسألة الجنسية وقوانينها، وموضوع التبعية والمعاناة المزدوجة، لاسيّما بعد قرار مجلس قيادة الثورة رقم 666، الصادر في 7 أيار / مايو 1980، لإسقاط الجنسية عن العراقيين غير الموالين للحزب والثورة، ومن التبعية الإيرانية، حتى وإن ولدوا هم وآباؤهم وأجدادهم في العراق، وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطنًا سواه.
وبعد الانتهاء من محاضرتي، كان صلاح عمر العلي حاضرًا وإياد علاوي وجمهور غفير كذلك، وتبادلنا الأخبار والمعلومات حول بدء مفاوضات الحركة الكردية مع النظام العراقي، وتأكّد كلّ منّا من صحّة مصدر معلوماته، وبعد يوم شاع الخبر وأحدث انقسامًا جديدًا في صفوف المعارضة.
وتوسّعت حركة الوفاق بانضمام بعض من الذين تركوا العراق إليها من البعثيين، لكن الخلافات أخذت تدبّ في أوساطها بسبب الاجتهادات الخاصة بالتعاطي مع العامل الدولي، وقاد ذلك إلى انقسام شديد وحاد بين الطرفين، حيث شهدت نزاعات قانونية حول ملكية الجريدة، ومستلزمات الطباعة الخاصة بها، والتي أصبحت من حصة إياد علاوي، في حين أصدر صلاح عمر العلي جريدة باسم “الوفاق”، وحاولت المملكة العربية السعودية رأب الصدع، ولكن دون جدوى، بسبب تعاظم الاتهامات المتبادلة بين الطرفين وحساسية بعض القضايا.
وقد قصّ عليّ صلاح عمر العلي أسباب الخلاف بالتفصيل، مثلما استمعت إلى ذلك من إياد علاوي، وظلّت علاقتي قويّة بالطرفين، واضعًا مسافة واحدة من قوى المعارضة جميعها، خصوصًا بعد أن استقلت من المؤتمر الوطني العراقي، الذي كنت أمينًا للسر فيه، واتّخذت من الجانب الحقوقي والموقف النقدي، الأساس الذي سرت عليه، وهو ما سيأتي ذكره.
نشاطات العام 1992
شهد العام 1992 نشاطات غير مسبوقة، فقد انعقد المؤتمر الوطني العراقي المظلّة الأوسع للمعارضة في فيينا (حزيران / يوليو)، والذي توسّع لاحقًا بانضمام بعض القوميين العرب والحزب الشيوعي في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته، باجتماع صلاح الدين، وأضيف إليه كلمة “الموحّد”، مثلما ضمّ القوى الكردية بجناحيها، والمجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة، وأوساط واسعة من المستقلين وأحزاب ناشئة جديدة ليبرالية التوجّه. واستمرّ على مقاطعة المؤتمر ثلاث جهات هي: حزب البعث – الجناح السوري المؤسس للجنة العمل المشترك، والوفاق – صلاح عمر العلي، وسعد صالح جبر – المجلس العراقي الحر.
وعقد المجلس العراقي الحر والوفاق (صلاح عمر العلي) وشخصيات أخرى اجتماعًا تشاوريًا في لندن في العام 1992، ضمّ عددًا من القوى والشخصيات المختلفة، حتى أن الفريق الطيار عارف عبد الرزاق، الذي حضر مؤتمر صلاح الدين، وانتخب رئيسًا للجمعية الوطنية، انفصل عن المؤتمر، وشارك في الاجتماع التشاوري.
محاولة كاك مسعود البارزاني
وبالمناسبة فقد دعا مسعود البارزاني إلى عقد اجتماع تمهيدي لمؤتمر صلاح الدين (أيلول / سبتمبر 1992)، أي بعد ثلاثة أشهر من مؤتمر فيينا، حضرته جميع القوى تقريبًا، بمن فيهم ممثل عن صلاح عمر العلي، وهو راشد الحديثي، وعن حزب البعث السوري، مهدي العبيدي، كما حضر اللواء حسن النقيب، وعن المجلس العراقي الحر، شفيق القزاز، ومن الحزب الشيوعي – رحيم عجينة، وعن الحزب الاشتراكي حضر مبدر الويس.
وقد اتّفق المجتمعون على عقد مؤتمر صلاح الدين وتوسيع دائرة المشاركة، وتشكّلت لجنة لكتابة البيان الختامي، ضمّت كلّ من: ابراهيم الجعفري، وفلك الدين كاكائي، ورحيم عجينة، وكمال فؤاد، وكانت برئاستي، ووافق الجميع دون أية تحفظات على البيان الختامي، الذي هو استمرار للبيان الختامي الذي صدر عن مؤتمر فيينا، وكنت قد كتبته أيضًا، إضافة إلى التقرير السياسي. ولكن بعد انتهاء الاجتماع، والتحضير للمؤتمر التكميلي، اعتذر صلاح وسعد صالح جبر وحزب البعث – الجناح السوري، عن حضور المؤتمر، كما سبق أن اعتذر كلّ من أديب الجادر ومهدي الحافظ، بعد أن حضرا في فيينا لقاءً تمهيديًا مع مسعود البارزاني وأحمد الجلبي ومحمد بحر العلوم وهاني الفكيكي، لاختلافات حصلت قبيل عقد مؤتمر صلاح الدين.
لم تستمر التوافقات والاصطفافات في صفوف المعارضة الرسمية، بسبب اتّساع دائرة التداخلات الدولية، وخصوصًا الأمريكية، فضلًا عن دائرة التداخلات الإقليمية، لاسيّما الإيرانية والسورية والسعودية والتركية وغيرها. وشعر كلّ منا، صلاح وأنا، أن لا المؤتمر الوطني ولا الاجتماع التشاوري مكاننا، لذلك انسحبنا منهما، مثلما انسحب عارف عبد الرزاق وآخرين من الاجتماع التشاوري، وتدريجيًا انسحب ستار الدوري من المؤتمر، وبعد عام من انضمامه إلى المؤتمر الوطني، انسحب الحزب الشيوعي، وبعد ذلك انسحب طالب شبيب، ثم انسحب هاني الفكيكي، وجمّد حزب الدعوة عضويته، وظلّ المؤتمر قائمًا على ركن أساسي هو الحركة الكردية، وموقع خارجي استفاد منه المجلس الإسلامي الأعلى، كما استمرّ الوفاق – إياد علاوي في المؤتمر، وظلّت رئاسة أحمد الجلبي موضع نقد وأخذ ورد، فضلًا عن السياسات العامة، وخصوصًا الموقف من الحصار ونظام العقوبات المفروض على العراق، والتعويل على العامل الخارجي، بل الرهان عليه.
الحصار: الشغل الشاغل
كنا نلتقي صلاح وأنا بشكل مستمر مع عدد من الذين بدأوا يتخذون موقفًا ضدّ الحصار وضدّ الحرب على العراق، مثل أديب الجادر ومهدي الحافظ، اللذان كانا قد أسسا الهيئة الاستشارية، كما كنا نلتقي في لندن: حامد الجبوري وماجد السامرائي وآخرين، ونصدر بيانات تندّد بالحصار، ونحاول التوجّه إلى الشعب العراقي لمخاطبته، وكان يوقّع البيانات ذات الطابع الحقوقي فوزي الراوي وصفاء الفلكي وجواد الخالصي، وبعد ذلك السيد أحمد الحسني البغدادي، وأحيانًا مشعان الجبوري وموسى الحسيني وأسامة التكريتي وغيرهم، وكنت على اتصال بعدد من اليساريين والشيوعيين السابقين، الذين يقتربون من هذه المواقف، مثل باقر ابراهيم الموسوي وآرا خاجادور وآخرين، وكنّا نتبادل الآراء وننسّق بعض المواقف.
وقد نظّمتُ مذّكرة، وقعها 120 شخصية عراقية، موجهة إلى الأمم المتحدة، تدعو لرفع الحصار عن العراق، والتخفيف من معاناة العراقيين، الذين يتعرضون لحرب إبادة بسبب نظام العقوبات اللّاإنساني، وقد نشرتها جريدة الوفاق، وكان لها صدىً إيجابيًا على المستوى العربي، وكلّ تلك التحرّكات كان لها طابعًا حقوقيًا وليس حزبيًا أو سياسيًا، خصوصًا وكنت قد تفرّغت للعمل الحقوقي والبحثي والكتابي.
عشية احتلال العراق: ما العمل؟
أشرت إلى انصرافي للعمل الحقوقي بشكل عام وغالب، حتى أن التقارير التي كانت تصدر عن المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والتي تشمل الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان في العراق، إضافة إلى انتهاكات الولايات المتحدة بسبب إصرارها على فرض الحصار على العراق في عملية إبادة استمرّت إثني عشر عامًا، كانت بقلمي أو تحت إشرافي أو أن بصمتي واضحة فيها، ويمكن مراجعة تلك التقارير خلال فترة التسعينيات كلها، وصولًا إلى فترة ما بعد الاحتلال، فإنها خرجت من بين أصابعي، وهو ما يعرفه صلاح عمر العلي، وأحيانًا كان يزودني ببعض المعلومات أو أدقق معه بعض الحوادث والأسماء للتأكد من صحّتها، ويقوم بإعادة نشر هذه التقارير في جريدة الوفاق بعد صدورها، مثلما استمر بنشر ما ألقيه من محاضرات تخصّ العراق في الجريدة أيضًا. علمًا بأن التقرير العربي كان يصدر من القاهرة عادةً، ويقوم بإعداده الصديق محسن عوض.
رسالة صلاح إلى لجنة التكريم في القاهرة
يوم تمّ تكريمي في القاهرة، عشية الحرب على العراق في 20 آذار / مارس 2003، كأبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، كتب صلاح رسالة موجهة إلى المحتفلين يقول فيها: “حين تجتمع في شخصية واحدة الدينامية الفكرية والنزاهة الأخلاقية نكون إزاء موهبة إبداعية نادرة”، وبعد أن أشاد بالمناقب الشخصية والنشأة الأولى والنضال الوطني، كتب يقول: “ومنذ مطلع التسعينيات وما زال الدكتور شعبان يمارس هذا الدور الإنساني المتميّز بصفته رئيسًا للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في المملكة المتحدة بكل همّة ونشاط، حيث عقد العشرات من المؤتمرات والاجتماعات، وألّف الكتب والدراسات ونشر العديد من المقالات، وشارك في الندوات التلفزيونية والإذاعية، ولا زال صديقنا العزيز الدكتور عبد الحسين شعبان يتوقّد شعلة ونشاطًا وعطاءً في هذا الميدان الهام، وساهم مساهمة فعّالة في إغناء هذه التجربة الغنية، وتعميق توجّهاتها ومفاهيمها الإنسانية، وهو يحث الخطى من أجل المساهمة المباشرة في تعميق ثقافة حقوق الإنسان لدى المواطن العربي في عموم الساحة العربية، من خلال مؤهلاته وكفاءته وتجاربه، التي تمتد قرابة أربعة عقود من الزمن، فتراه دائم الأسفار متنقلًا بين هذا البلد العربي وذاك، محاضرًا أو مشاركًا في مؤتمر”.
واختتم صلاح عمر العلي كلمته بالقول أن شعبان “رجل يتمتع بموهبة نادرة، وطاقة إبداعية متدفقة، لا غنى لأبناء أمتنا العربية عن الاستفادة القصوى منها”.
مثلما كتب العديد من الشخصيات العراقية، مثل مسعود البارزاني وجلال الطالباني ومحمود عثمان وناهدة الرماح وطارق الدليمي وأحمد الحبوبي وعصام الحافظ الزند، وسلام خياط وماجد مكي الجميل وقاسم حول وأحمد الحبوبي وهاشم شفيق وحامد الجبوري ومحمود البياتي وياسين النصيّر وكاظم الموسوي وجاسم المطير وأحمد الموسوي وعبد جاسم الموسوي، فضلًا عن شخصيات عربية شاركت في الاحتفال مثل محمد فائق وحلمي شعراوي وبهي الدين حسن وصالح بكر الطيار ونظام عساف وجورج جبور وأمين مكي مدني وسلام خياط ووائل خير وصلاح بدر الدين وعلي خليفة الكواري وهدى الخطيب شلق وعز الدين سعيد الأصبحي، وصدرت المساهمات في كتاب بعنوان “عبد الحسين شعبان – صورة قلمية: الحق والحرف والإنسان”، المركز العربي لنشطاء حقوق الإنسان، مركز المحروسة للنشر، القاهرة، 2004.
في دمشق مع عبد الحليم خدام وفي القاهرة مع عمرو موسى
صادف يوم تكريمي في القاهرة لحظة بدء العدوان على العراق تمهيدًا لاحتلاله (20 آذار / مارس 2003)، وكم كانت لحظات ترقّب وقلق وألم مصحوبة بمخاوف كبيرة لما سيحصل لأهلنا. وقد استعضت عن كلمتي التي أعددتها لأرتجل كلمة تعطي المناسبة حقها، ارتباطًا ﺑ “تطورات الأوضاع”، وهو ما تمّ نشره في كتاب (عبد الحسين شعبان – الحق والحرف والإنسان) لاحقًا كما جرت الإشارة إليه.
في مساء اليوم التالي، وقد أخذت محطة الجزيرة الفضائية ومحطات التلفزة في كلّ مكان، تنقل أخبار ما يتعرّض له العراق على يد قوات التحالف الدولي، اتصل بي الأخ صلاح عمر العلي يسألني عمّا يمكن عمله في تلك اللحظات العصيبة، واتّفقنا على اللقاء في دمشق بعد ثلاثة ايام.
طرت من القاهرة إلى دمشق، ووصل أبو عمر في اليوم ذاته من لندن، واتّفقنا على اختيار فندق الفردوس تاور “برج الفردوس”، الذي اعتدت على النزول فيه، لعلاقة الصداقة التي تربطني بمديرة العلاقات فيه رلى الركبي، وبعد اللقاء اتفقنا على خطّة للتحرّك، تبدأ من دمشق، وذلك استمرارًا لتحركنا منذ الحصار الدولي، الذي كاد أن يخنق العراق، وضدّ نظام العقوبات المفروض عليه، من جانب الأمم المتحدة، وفي ظلّ الهيمنة الأمريكية.
اللقاء مع عبد الحليم خدام
طلبنا موعدًا مع عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس حينها، وذلك بعد لقائنا بالصديق فوزي الراوي، عضو القيادة القومية لحزب البعث (السوري)، وكم كان اللقاء بخدّام محبطًا ومخيبًا للآمال، فبدلًا من المخاوف التي أبديناها، والمخاطر التي أوضحناها، واحتمالات تمدّد العدوان ضدّ ما سُمي ﺑ “محور الشر” ومنه سوريا، فضلًا عما يمكن أن يهدّد الاستقرار والأمن في المنطقة بوجود قوّات أمريكية في العراق، ناهيك عن التحكّم بمصير الشعب العراقي، فقد كان خدّام في غاية الانشراح، وحاول التذاكي بالإشارة إلى احتمالات إيجابية ستحصل في المنطقة، وأن ثمة تغييرات تنتظرها.
وقد دخل الأخ أبو عمر في جولة حوار ساخن معه، موضحًا أن نجاح المخطط الأمريكي وما هو معلن منه يعني إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، بما فيه ما يشمل سوريا أيضًا، وذلك لتأسيس شرق أوسط كبير، وأَضفتُ عليه أن الوجود العسكري الأمريكي سيهدّد بلدان المنطقة، ويعزز من التعنّت “الإسرائيلي”، لأن وجود العراق كقوّة عسكرية في المنطقة، هو عامل ردع ﻟ “إسرائيل”، بغض النظر عن النظام القائم فيه، وغياب هذه القوّة سيكون لصالح تل أبيب، وذلك بغضّ النظر أيضًا عن نظام الحكم الذي كنّا نعارضه ومختلفين مع أساليبه ونهجه السياسي، إلّا أن خدّام كان يرى الأمور من منظار آخر، مستبشرًا بالخير الذي سيعمّ المنطقة، معلنًا رأيه أحيانًا بعبارات عمومية، ومبهمة أو غامضة.
وقد نقلنا وجهات نظرنا إلى الصديق فوزي الراوي، الذي كان يشاطرنا تلك المخاوف، وكان قلقنا يزداد كلّ ما كانت مجريات الحرب تتعقّد، ودائرتها تتّسع، وللأسف فإن الكثير من المعارضين كانوا يعبّرون، لاعتبارات كثيرة عن وجهات نظرهم، التي لا تختلف في التقدير عن وجهات نظر خدّام، بل أنهم كانوا لا يتورّعون عن مخاطبة بعض القوى الدولية المتنفّذة، مطالبين إيّاها باستمرار فرض نظام العقوبات، وتشديد الحصار باستخدام جميع الوسائل، بما فيها التدخّل العسكري للإطاحة بالنظام، بزعم إجباره على الامتثال للقرارات الدولية، تلك التي تفرض على العراق نظام عقوبات قاسٍ جدًا، وحصار دولي شامل، وهي قرارات مجحفة ومذلّة، بل قرارات إذعان وإكراه، وتمثّل نوعًا من أعمال الإبادة الجماعية، ويمكن هنا أن نتذكر رسالة بعض العراقيين في لندن، الموجهة إلى رئيس الوزراء توني بلير، تدعوه لتشديد الحصار على العراق، بل أن بعض الوفود باسم “المعارضة الرسمية”، كانت تتوجّه إلى الأمم المتحدة تطالبها بتشديد الحصار على العراق، بزعم أنه الإجراء المناسب لإضعاف النظام والإطاحة به.
عدنا إلى لندن واتفقنا على الذهاب إلى بغداد والعمل على اللقاء مع النخب الفكرية والسياسية والثقافية، لتحفيزها على عدم التعاون مع المحتل، وهذا أضعف الإيمان، علمًا بأنه لم يكن لدينا أي وهم من أن ذلك سيُحدث تغييرات في موازين القوى، لكنه على الاقل سيعرف المواطن العراقي المنكوب من النظام، والمُستلب من الاحتلال، أن ثمة عراقيين من تيارات شتّى وقفت ضدّ الاحتلال بالكلمة والصوت والرأي، على الرغم من الضغوطات التي تعرّضنا لها، والمغريات التي وُضعت أمامنا من جهات مختلفة، لكن رأينا، وكلّ على انفراد، وحتى دون تنسيق، أن البقاء في مواقعنا وعدم مغادرتها، هو السبيل الصحيح والمناسب حينها.
وقد حاول زلماي خليل زاد، السفير الأمريكي الذي أشرف على مؤتمر المعارضة في لندن أواخر العام 2002 وعشية الحرب على العراق، الاتصال بصلاح عمر العلي، طالبًا منه حضور مؤتمر لندن باسم العرب السنّة، لكن صلاح رفض الأمر رفضًا قاطعًا، كما جرت محاولات عديدة لاستدراجي لحضور المؤتمر المذكور باسم الشيعة العلمانيين، وهو ما بيّنت خطله ورفضي للطائفية وكلّ المسوّغات التي تبرّر غزو العراق، مبينًا أن احترامي للعقائد الدينية ولحق الجميع في ممارسة طقوسهم وشعائرهم بحريّة، أمر ينطلق من حقوق المواطنة المتساوية والمتكافئة.
وبالمناسبة فإن الأخ أبو عمر يقف على ذات الأرضية المناوئة للطائفية، متمسكًا بموقفه الوطني العروبي، الذي هو الأساس، مع احترامه للأديان والطوائف والقوميات والتمايزات ذات الهويّة الخصوصية، وأشير هنا إلى موقفه من حقوق الشعب الكردي.
وبالمناسبة، بعد توقف القتال في كردستان 1994 – 1998، زرت أربيل لإلقاء محاضرات في جامعة صلاح الدين لطلبة الدراسات العليا (كلية القانون)، ووجدت في تجربة الأخ نجرفان بارزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان حينها، ما يستحق التوقّف عندها، وقد التقيته أكثر من مرّة، وقدّمت له مقترحات وملاحظات أخذ بالعديد منها، ومنها إنشاء وزارة باسم حقوق الإنسان في كردستان، وتعزيز العلاقات العربية – الكردية بإطلاق أسماء شخصيات عربية على مرافق عامة ومؤسسات ثقافية وساحات وشوارع، وهو ما أكّده صلاح عمر العلي بعد زيارته أيضًا إلى أربيل مع صفاء الفلكي، ولقائه بالقيادي الشاب حينها نجرفان بارزاني ، كما قال لي.
في جنوب أفريقيا
كنت قد التقيت بالسفير العراقي السابق، منذر المطلك، في جنوب أفريقيا خلال حضوري مؤتمر ديربن (أيلول / سبتمبر 2001)، وكان هو يحضر على رأس وفد باسم العراق، ومازحته بالقول، تعال معي إلى لندن كي تحصل على اللجوء فتتخلّص من “التمساح”، فأجابني كي أصبح عميلًا؟ فقلت له كلنا لاجئون، فهل كلّنا عملاء كما تعتقد؟ فقال أقصد جماعتنا، وحاشى لأسمائكم، فقد سبقتنا وطنيتكم. قلت له: لهذا استهدفتمونا أكثر من غيرنا؟ فضحك بقوله: لأنكم تنافسونا على الوطنية، وهذه هي الباقية لدينا، فأنتم ضدّ المشروع الأمريكي والإيراني، وضدّ الحصار والقرارات الدولية، فماذا تبقّى لنا؟ والأكثر من ذلك أنكم تتحدّثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي الغائبة عندنا. كان برفقته الصديق رياض عبد العزيز النجم ونقيب المحامين نعمان شاكر نعمان وثائرة عبد الواحد، وقد تعرّفت على الأخيرين في ديربن.
وفي محاججتي له، ذكرت له أسماء بعض من جماعتهم، ومن بينهم صلاح عمر العلي، فقال لي كلامًا لا يُعقل، كان هو الرائج في الأجهزة كما أخبرني، وبعد أن صححت له معلوماته، قال لي سلّم لي على صلاح، وأذكر أنني قلت له، إذا كانت معلوماتكم عن صلاح مشوشة بهذا القدر، فكيف معلوماتكم عن الآخرين؟ وهو ما يدلّ على استهدافات معيّنة لبعض الشخصيات، وهو ما ذكرته لصلاح حينها، وكنت قد أبلغته بأنني سأخبر صلاح بمحادثتنا هذه، ولعلّ السفير المطلك ذكّرني بهذا اللقاء قبل فترة قصيرة في عمّان، علمًا بأن نوري عبد الرزاق، كان حاضرًا في مؤتمر ديربن، وخلال الأسبوع الذي قضيناه في جنوب إفريقيا، كنا في لقاء يومي، بما فيه حين دعانا عمرو موسى، مع نخبة من الشخصيات الحقوقية البارزة.
لقاءات بغداد وما بعدها
التقينا في بغداد أكثر من لقاء (حزيران / يونيو – تموز / يوليو 2003)، وقام العلي بزيارتي مع عدد من أصدقائه ورفاقه القدامى في منزلي، وجرى تبادل الأحاديث بيننا والسبل الكفيلة لمواجهة العدوان وآثاره، لاسيّما التأكيد أن ما حصل ليس باسم العراقيين، وأن الدفاع عن العراق ليس دفاعًا عن النظام السياسي الذي عارضناه، وهو في أوج قوّته، وكنّا من ضحاياه، بل هو دفاع عن حق العراقيين في اختيار نظام الحكم الذي يريدونه بعيدًا عن الاحتلال والإملاءات الخارجية.
وهو ما عبّرت عنه في محاضرتين؛ الأولى – في الاحتفالية التي أقيمت لي في الجامعة المستنصرية (أواخر حزيران / يونيو 2003)، بحضور نخبة كبيرة من الأكاديميين وأساتذة الجامعة، إضافة إلى كوكبة من الشيوعيين واليساريين وشخصيات بعثية وقومية وإسلامية. وأتذكّر من بين الحضور الرفيق كاظم فرهود، رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في العام 1959، وهو عضو سابق في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، والرفيق نواف الحسن، سكرتير عام اتحاد الجمعيات الفلاحية، والرفيق سلمان الحسن والرفيق حمدان يوسف، إضافة إلى محسن الشيخ راضي، عضو القيادة القطرية لحزب البعث ومحمد دبدب رئيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق وعشرات من الشيوعيين والبعثيين والإسلاميين.
والثانية – في النجف (3 تموز / يوليو 2003)، حيث تناولتُ مشكلة الحكم في العراق والدستور المطلوب سَنّه، وفقًا لمتطلبات الدولة العصرية والمواطنة المتكافئة والمتساوية، فضلًا عن إعادة طرح مشروعي، الذي كنت قد اشتغلت عليه في الثمانينيات والتسعينيات، وهو ضرورة تشريع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، وقد لقت الدعوة التي أطلقتها في المحفلين ترحيبًا كبيرًا، خصوصًا وأن المظاهر التميزية والشحنات الطائفية والمذهبية، كانت قد أخذت طريقها إلى الشارع، بفعل تأليب وإثارة ومحاولات بث الكراهية والثأر والانتقام.
وقمت من جانبي بزيارة الأخ صلاح عمر العلي في منزل شقيقه وليد، مع عدد من الرفاق والأصدقاء، ووجدنا باستقبالنا عدد من الأصدقاء أيضًا، وتبادلنا الأحاديث، وألقى خالي المحامي جليل حمود شعبان قصيدة بالمناسبة، في هذا الجمع المبارك، كما أسماه. وفي بيروت لاحقًا أهداه نسخة من مجموعته الشعرية الموسومة “بين الأرز والنخيل”.
جريدة الوفاق في بغداد
كان صلاح قد أعاد إصدار جريدته “الوفاق” في بغداد، وكانت صحيفة جديدة مقروءة، ولعبت دورًا تعبويًا إيجابيًا، على الرغم من أن الأمور كانت تسير باتجاه آخر، وهو الاتجاه الذي أراده المحتل والمتعاونون معه. وبالتدرّج تصاعدت أعمال العنف والتطهير والاستهداف الطائفي على الهويّة، وزادت بشكل متفلّت بعد أحداث تدمير مرقديْ الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء (2006)، وقبل ذلك بدأت عمليات صدام مع قوات الاحتلال، وشهدت مدينة الفلوجة انتقامًا شديدًا بعد مقتل جنود أمريكان، كما حوصر الصحن العلوي في النجف، وحصلت صدامات مع مجموعة السيد مقتدى الصدر، وأعرف أن صلاح زار الفلوجة إثر عمليات العنف التي حصلت، والتقى وجهاء وشخصيات من أهل المدينة.
مع عمرو موسى
كان تحرّكنا كلّ من موقعه ودون أن يتخّذ صيغة محدّدة، وكنت قد تفرغت كليًا للجانب الحقوقي والفكري كما أشرت، واختصّ صلاح بالجانب الإعلامي، وحتى دون تنسيق، كنّا نتبادل المعلومات والآراء واتفقنا على تحرّك عربي، وقررنا شرح موقفنا من الاحتلال إلى جامعة الدول العربية وأمينها العام عمرو موسى، الذي استقبلنا في القاهرة في مقر الجامعة، ونقلنا إليه رأي جمهرة واسعة من العراقيين المناوئين للاحتلال، وحضر معنا ماجد مكي الجميل (وهو من كوادر الحركة الاشتراكية العربية سابقًا)، والتميمي الذي كان يعيش في الإمارات، والتقينا عدد من الدبلوماسيين العرب، ثمّ انتقلنا إلى بيروت، والتقينا عدد من الشخصيات العربية واللبنانية، أبرزهم خير الدين حسيب، مؤسس المؤتمر القومي العربي، الذي دعانا إلى عمل مشترك أو إقامة تيار فكري واسع. وكان رأينا عدم الانخراط في عمل سياسي مباشر، وإنما التحرّك كشخصيات عامة فكرية وثقافية وسياسية، يمكن أن يكون لها تأثيرًا أكبر من أي تنظيم.
وباختصار، فقد كنّا صلاح وأنا قد مررنا بتجربتين سياسيتين حزبيتين، كما كان لكلينا دورًا في تحركات المعارضة الخارجية، وكلا التجربتين كانتا مريرتين، وخرجنا منهما بذخيرة لا بأس بها وبدروس وعبر، أقل ما يُقال عنها أننا لا نريد إعادتها أو تكرارها بسبب فشلها.
نقد التجربة وإعادة قراءة الأولويات
كان رأي الدكتور خير الدين حسيب، أننا ثلاثة أقطاب عروبية: هو رمز للقوميين العرب وناصري عريق، وصلاح رمز للبعثيين، وسبق له أن اعترض على سياسات النظام، وأنا مثقف شيوعي بارز وموقفي مشرف خلال الحرب العراقية – الإيرانية وضدّ الحصار وضدّ الاحتلال، على الرغم من معارضتي للنظام. وهو ما يعطي لهذه المجموعة صدقية إذا ما أعلن عنها.
ومن جانبي، قلت للدكتور خير الدين حسيب أن الذي يعمل في المعارضة اليوم ليس كمن كان يعمل في السابق في أحزاب وحركات سريّة، إذْ كان يكفي جهاز رونيو وبضعة أشخاص للإعلان عن حركة سياسية مع برنامج سياسي (أيًا كان)، وكفى الله المؤمنين القتال، (سورة الأحزاب – الآية 25)، وهكذا يكوّنون بالتدرّج شارعًا خاصًا بهم، أمّا اليوم فإن العاملين في السياسة في العراق لديهم الأموال والمسلحين ودعم دولة أجنبية (أمريكا أو إيران)، ومستلزمات أخرى. ونحن لا نملك من ذلك شيئًا سوى أسمائنا، وعلينا المحافظة عليها وعدم التفريط بها.
وأن مجرّد الإعلان عن تكتّل بهذا المعنى، فإننا سنستهدف من جميع القوى المستفيدة من الوضع الحالي، ناهيك عن أمريكا وإيران، وكان رأينا أن مركز دراسات الوحدة العربية ممكن أن ينظّم فاعليات وأنشطة تخدم التوجّه المناوئ للاحتلال. وكنت قد توصّلت إلى ذلك قبل فترة ليست بالقصيرة، وقرّرت العمل بصفتي الشخصية الحقوقية اليسارية المستقلة، دون الانخراط في أيّ تجمّع. وقد عبّرت عن رأيي في بعض تحرّكات المعارضة الجديدة، الحديثة العهد بالسياسة، بأنها ستعمل لعشرين سنة أخرى، وستضطر إلى التعاون مع الولايات المتحدة مثلما تعاونت المعارضة السابقة، وهو ما كنّا نعرفه صلاح وأنا، ونأينا بأنفسنا عنه.
النشاط الفكري
حين اقترح علينا حسيب حضور بعض الفاعليات التي كان ينظمها، رحّبنا بذلك، لاسيّما المؤتمرات والندوات الفكرية والثقافية، أما اجتماعات المعارضة، التي سعى لتأطيرها فقد اعتذرت عن حضورها، علمًا بأنها لم تصل إلى النتيجة المرجوّة، وقد انتقلت أمراض المعارضة السابقة إلى المعارضة الجديدة، التي كان بعضها أكثر تهافتًا، بحيث كانت عينه الأولى على المعارضة، والثانية على المواقع والإغراءات التي لوّح بها الأمريكان والحكم الجديد.
وكنا قد اتفقنا صلاح وأنا، وبعد مناقشات مستفيضة، أن الانخراط في مثل هذه المشاريع لا جدوى منه، وهو مضيعة للوقت، وعلينا التركيز على نقد الأوضاع بالوسائل الإعلامية والثقافية والفكرية. وبالفعل فقد شاركنا في الاجتماعات التي دعا إليها المركز مع شخصيات عربية، وكنت مقررًا للجنة عربية لصياغة دستور عراقي، وقمت بإعداد صيغته النهائية، إضافة إلى صياغة قانون للأحزاب وقانون للانتخابات، وصدرت عن المركز بكتاب بعنوان “برنامج لمستقبل العراق بعد انتهاء الاحتلال” ، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005.
كما أعدت صياغة قانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، ثم أعددته ليكون صالحًا عربيًا، وقمت، بصفتي مقررًا، مع لجنة خبراء بصياغة قانون اتحاد فدرالي، لأي بلدين عربيين أو أكثر، ولم يكن لتلك الجهود التي قمنا بها علاقة مباشرة بالعمل السياسي أو بشؤون المعارضة، التي أخذت بعض أطرافها تنتقل من مناوئة الاحتلال إلى التعامل معه، والانخراط في العملية السياسية التي أسسها، وذلك بعد تأسيس مجلس الحكم الانتقالي وتأسيس وزارة عراقية أولى وفقًا له (2003 – 2004)، وهي فترة حكم بول بريمر (أيار / مايو 2003 – حزيران / يونيو 2004)، حيث تم صياغة دستور في (8 آذار / مارس 2004)، وهو الذي وضع مسودة نوح فيلدمان وأدخل عليه بيتر غالبرايت ألغامًا عديدة، وعلى أساسه صيغ الدستور الدائم 2005.
وكنت قد كتبت كتابين عن الدستور، صدرا في مصر، الأول عن مؤسسة الأهرام، وهو عن الدستور العراقي المؤقت: “الهياكل السياسية والحقوق الفردية”، والثاني عن دار المحروسة، وهو بعنوان “العراق: الدستور والدولة – من الاحتلال إلى الاحتلال”، وكانت الإدارة الأمريكية قد حدّدت جدولًا زمنيًا للانتقال من الدستور المؤقت إلى الدستور الدائم، وفقًا لما يأتي: في (15 آب / أغسطس 2005) تستكمل لجنة صياغة الدستور عملها بوضع اللمسات الأخيرة عليه، والمستمد معظمه من دستور نوح فيلدمان، وفي (15 تشرين الأول / أكتوبر) يتم الاستفتاء عليه، وفي (15 كانون الأول / ديسمبر 2005) يتم إجراء الانتخابات على أساسه، وتم بالفعل اختيار أول جمعية وطنية (برلمان)، وفقًا لهذا الجدول الزمني.
خلال العديد من الفعاليات والأنشطة في بيروت وفي دمشق والقاهرة وتونس، إضافة إلى بغداد، كنت أتبادل الرأي مع الأخ أبو عمر، ونستشير أحدنا الآخر. وكان صلاح قد اضطّر إلى مغادرة العراق بعد موجة التطهير الطائفي، وتوجّه إلى بيروت، وكنت قد انتقلت إليها في نهاية العام 2004، حيث استقرّيت فيها منذ العام 2005 لقربها من نبض المنطقة، وثانيًا لحميميتها وثالثًا لمعرفتي بها ورابعًا لاعتدال طقسها وخامسًا لمعقولية الحياة فيها قياسًا بلندن الغالية والبعيدة، وسادسًا للجو الثقافي والفكري.
في بيروت
في بيروت، وعلى مدى نحو 10 سنوات، كنّا صلاح وأنا على اتصال دائم ولقاءات مستمرة. وحتى حين أجريت عملية (قلب مفتوح – Open Heart، 2015)، وقام إجرائها لي الدكتور جبرين خوري (في مستشفى كليمنصو CMC، وهو طبيب لبناني الأصل يعيش في بروكسل )، كان صلاح هو الآخر ينتظر دوره، وقد أجراها عند ذات الطبيب وبنفس الإجراءات التي أعدها، ولكن في بروكسل بدلًا من بيروت.
كان معظم أصدقاء صلاح قد أصبحوا أصدقائي الذين أعتزّ بهم، سواء كانوا عراقيين أم سوريين أم لبنانيين، حتى أنني حين دعيت إلى تكريت لإلقاء محاضرة في نهاية العام 2012، أصرّ وليد عمر العلي، شقيق صلاح، على المجيء إلى بغداد لاصطحابي بسيارته الخاصة، وقام بإيصالي إلى أربيل بعد ثلاثة أيام قضيتها في قصور صدام، حيث كان الصديق سبهان الملّا جياد حينها نائبًا لرئيس مجلس المحافظة، الذي قام باستضافتي فيها، علمًا بأن الدكتور مصباح، شقيق صلاح، كان قد أعدّ مكانًا لاستضافتي في منزله، وكان معي في هذه الزيارة العم شوقي شعبان، وكان من المفترض أن أبقى يومًا رابعًا في تكريت، إلّا أن وفاة والد صديقي البروفيسور شيرزاد النجار في أربيل اضطّرني التوجّه إليها بدلًا من العودة إلى بغداد، للقيام بواجب العزاء ومواساة صديقي وحضور مجلس الفاتحة.
وبالمقابل كان معظم أصدقائي، وهم من بلدان عربية مختلفة، قد أصبحوا أصدقاء صلاح، إضافة إلى علاقة العائلتين، وعند كلّ صدور كتاب جديد لي أو بحث مهم، أرسله إلى صلاح، وغالبًا ما كان يتّصل بي ليعطيني رأيه أو يكتب لي ملاحظاته. وكنّا نلتقي “عراقيًا” الثلاثة: العلي، حسيب وشعبان على نحو مستمر، واستمرّ الحال حتى قرار صلاح مغادرة لبنان إلى اسطنبول في العام 2017، لكن الاتصالات بيني وبينه لم تنقطع، وقرّرت مؤخرًا زيارته في اسطنبول، ووجدته كما افترقنا، صافي الذهن مهمومًا بالعراق، كريمًا وودودًا ومحبًا للصديق ووفيًا له. وعائلته الصغيرة هي على شاكلته ترحيبًا بالضيف وكرمًا وعطاءً.
ملاحظة: وردتني العديد من الرسائل والاتصالات الهاتفية، تعليقًا وتعقيبًا وتدقيقًا وإضافةً وتصحيحًا، عن ما ورد في الحلقات الستة، التي نشرت في جريدة الزمان (العراقية)، والتي أعيد نشرها في العديد من المواقع الإلكترونية العامة والخاصة، وصفحات التواصل الاجتماعي، وربما سترد ملاحظات أخرى بخصوص الحلقة السابعة والأخيرة، الأمر الذي يضطرّني، استجابةً للأمانة العلمية ككاتب وخدمةً الحقيقة، التي هي هاجسي الأول والأخير، إلى مراجعة الأصل وإجراء التعديلات الضرورية والتصويبات اللازمة من خلال التدقيقات وإعادة فحص المعلومات ومقارنتها بما لدي، بهدف تنقيتها مما يكون قد علق بها أو شابها من نواقص، وهو ما سأخصص إضمامةً ملحقةً لهذه السردية
إضمامة
أثارت سرديتي بخصوص “صلاح عمر العلي” ، المنشورة منها 6 حلقات في جريدة الزمان العراقية، والتي ألحقتها بحلقة سابعة، واستكملها بهذه الإضمامة، اهتمامًا من عدد من القراء والمهتمين بالفكر السياسي وتاريخ العراق المعاصر، خصوصًا وأنها تناولت مرحلة مهمة من تاريخ العراق، في حقبة من أدق الحقب التي عاشها، حيث كانت السبل شبه مقطوعة بين الداخل والخارج، فتضببت الكثير من المواقف والتبست الحقيقة، بل ضاعت في الكثير من الأحيان، بين استبداد الداخل وطغيان الخارج، لاسيّما باختلال منظومة القيم والاحترابات الطائفية والإثنية، التي انفلتت من عقالها لدرجة مريعة، إضافةً إلى المواقف المسبقة، والتي يتم اسقاطها إرادويًا على الواقع وفقًا لاعتبارات آيديولوجية أو قومية أو دينية مذهبية.
سأحاول تسليط الضوء على 8 مداخلات وردتني بالإشارة المباشرة، وأعتذر عن عدم ذكر بعض التعليقات والإشادات والآراء التي جاءت لتأكيد موقف أو إضافة آخر، لكن مضامينها مذكورة في ثنايا هذه التدقيقات والتصويبات والتعديلات.
الأولى – ما وردني من نوري البحراني، وهو أحد الشخصيات القومية العربية البارزة، وكان رئيسًا لاتحاد الطلاب العرب في بريطانيا (في أوائل السبعينيات)، حين كان للاتحاد دور مؤثر وبارز، وتحسب له القوى السياسية العربية حسابًا غير قليل على مستوى العمل الخارجي، فقد كتب لي رسالة أنقل الفقرات الأساسية منها “أحر التحيات… متابعة كل النشاطات والإسهامات المميزة التي تقوم بها، أود أن أذكر لك المداخلة التالية: بخصوص صلاح عمر العلي واستقالته وسفره من نيويورك، فقد التقيته في شقة محمد المسفر، ممثل دولة الإمارات بالأمم المتحدة (قبل أن يصبح مواطنًا قطريًا – ع. ش)، وبحضور طالب شبيب، وحين عودتي إلى لندن، جرى اتصال به من قبلي حسب رغبة سوريا.
وقبل الدعوة قابلناه في باريس، وكان معي محمود الشيخ راضي (محمد رشاد الشيخ راضي)، عضو القيادة القومية الاحتياط لحزب البعث سابقًا، وممثل عن السفارة السورية في لندن. وقام بنفس اليوم بمقابلة ميشيل عفلق، الذي كان في باريس في حينها. ورُتّبت زيارةً له إلى دمشق بمرافقة المرحوم أبو يوسف (محمد عبد الطائي، استشهد في العام 1991، وكنت قد ريثته حينها – ع. ش)… للاطلاع مع أحر التمنيات والأشواق (انتهت الرسالة).
وهذه التفصيلات مهمة لصدقية ما تناوله صلاح عن الظروف التي عاشها بعد استقالته، حيث كان بيني وبينه مطارحات متصلة ومنفصلة، زادت عن ثلاث عقود من الزمن.
الثانية – رسالة د. مصباح عمر العلي (شقيق صلاح)، يشير فيها أن من مسؤوليات صلاح قبل 17 تموز 1968، كانت في مكتب العمال المركزي، وليس كما ذكرت، علمًا بأن معظم أعضائه كانوا يترددون على دارنا في العطيفية، ومنهم محمد عايش وبدن فاضل وراسم العوادي وآخرين، كما يقول مصباح، وهذه معلومات جديدة لم أسمعها من صلاح أو من غيره أو مما قرأته سابقًا، وبالتأكيد فهي معلومات مهمة.
أما المسألة الثانية، فهي الفترة التي قضاها صلاح في الناصرية، وقد صحح لي الأخ مصباح ذلك بالإشارة إلى كونها كانت بين أعوام 1959 و 1962، وليس كما ورد في سرديتي بعد 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، وهذا التاريخ هو الصحيح الذي اكتشفته بعد أن عدت إلى أوراقي لتدقيقها. وأشار إلى علاقته القويّة بأهل الناصرية ومنهم حسين نعمة، وهو ما سآتي على ذكره.
وأشار إلى مسألة ثالثة، هي أن شكوى الدكتور شامل السامرائي، التي رفعها صلاح إلى مجلس قيادة الثورة، جاءت على لسان ابن أخيه نزار السامرائي، الذي كان مديرًا عامًا في وزارة الإعلام، لكن ذلك لا يستبعد أن يكون شاكر علي التكريتي، وهو عم صلاح، طلب منه أيضًا التدخل لعرض قضيته على مجلس قيادة الثورة حينها كما رويت ذلك، وهو ما سمعته من صلاح أيضًا.
ويشير مصباح في نقطة رابعة، أن صلاح غادر إلى مصر مُبعدًا، وأنه كان شخصيًا باستقباله في القاهرة وبمعيّة عبد الله السلّوم السامرائي وعبد الهادي الربيعي. وهذه المسألة تتراوح بين الزعل أو محاولة التهميش، وقد ظلّ صلاح على هذه الحال نحو عام تقريبًا، انتقل فيه من القاهرة إلى بيروت كما أشرت.
والمسألة الخامسة، التي أثارها معي مصباح هي مسألة إقناع صلاح لقبول فكرة ترك العراق سفيرًا، فقد حاول صديقه المقرّب الشهيد عبد الخالق السامرائي، كما يقول إقناعه بقبول المنصب، حيث كان يقضي معه ساعات طويلة في النقاش حتى أقنعه بالخروج من العراق والعمل كسفير. والمعلومة جديدة بالنسبة لي، فقد كنت أعتقد أن صلاح عيّن سفيرًا بعد مؤامرة ناظم كزار الانقلابية في 30 حزيران / يونيو 1973، التي اعتُقل فيها عبد الخالق السامرائي، لكنني دققت في الأمر فوجدت أن صلاح عين سفيرًا بالسويد قبل ذلك، وحين حصلت المؤامرة المذكورة، كان هو في ستوكهولم.
لكن ذلك لا يمنع من أن يكون صلاح في الوقت نفسه استشار صالح مهدي عماش، وهو ما ذكره لي، خصوصًا وأنه بعد اللقاء بصدام مباشرة، توجه إلى منزل عماش ليأخذ رأيه، ونصحه الأخير بالموافقة فورًا، وهو ما حصل، حين ذهب في اليوم التالي للقاء مع مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي (وزير الخارجية)، بناءً على طلب صدّام واختار السويد، وهو ما رويته.
ومن المفارقة أن الثلاثة رحلوا غدرًا على يد رفاقهم، وهم صالح مهدي عماش، ومرتضى سعيد عبد الباقي وعبد الخالق السامرائي، وثلاثتهم يُعدّون من المعتدلين، بغضّ النظر عن توجهات كلّ منهم.
ولعلّ هذه الملاحظات مهمة جدًا، وقد أعدت قراءة السردية التي أنجزتها وقمت بتدقيق وتعديل النص بما يتوافق مع المعلومات الجديدة.
الثالثة – عبد الخالق السامرائي، ولم يكن لي معرفةً شخصيةً به، علمًا أن جميع مسموعاتي عنه هي إيجابية من أصدقائه أو حتى خصومه، بل عن كل من عرفه وأولهم من حدثني عنه مطولًا، هو الصديق الشاعر شريف الربيعي، الذي عمل معه في “مجلة وعي العمال”، وكذلك من الشاعر عبد الأمير الحصيري، الذي كان يقول لي إنه الأقرب إليكم وعزيز السيد جاسم، الذي كان شديد الإعجاب به، وقد ضمتنا جلسة “ظهرية” في مقهى عارف آغا ببغداد وبحضور الصديق الشاعر شاكر السماوي، وحين أخذ السيد جاسم يتحدّث عنه، ظننت أن في الأمر مبالغة أو حتى ممالأة، ولعلّ بعض الظن إثم، كما يقال.
وكان ذلك رأي جميع الذين عرفوا عبد الخالق السامرائي أو عملوا معه، حيث كانوا يشيدون بزهده وتواضعه وشعبيته وميله إلى التواصل مع الآخر، ولاسيّما مع اليسار، لكن الصراعات الحزبية والمنافسات الشخصية والأحقاد والكراهية، هي التي أضاعت الكثير من النخب الحزبية الواعدة، خصوصًا حين يهيمن الصقور على مقاليد الأمور، وهذه خصيصة تشمل جميع الأحزاب الشمولية، القومية والماركسية والإسلامية، دون استثناء.
وما يزال أحد أبناء عمومة، عبد الخالق السامرائي (الصديق صالح السامرائي) على اتصال بي، وقد طلب مني الكتابة عنه، لأنه، حسبما يقول، أنك تمتلك قلمًا نظيفًا وموضوعيًا، وأنني أنصف حتى خصومي، وطالما أن عبد الخالق قضى نحبه وهو مظلوم، فلا بدّ من استذكاره، وأتمنى أن يسعفني الوقت في الكتابة عنه، خصوصًا أن ذاكرتي تحمل الكثير من المعلومات عنه، وبعضها جئت عليه في سرديتي الموسومة “نوري عبد الرزاق: الذاكرة والزمن الجميل”، والمنشورة في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين، في 18 – 20 تموز / يوليو 2019، وكتابي عن عامر عبد الله “النار ومرارة الأمل – فصل ساخن من تاريخ الحركة الشيوعية”، الصادر عن دار ميزوبوتيميا، بغداد، 2014، وهو ما سمعته منهما أيضًا منذ لقائهما الأول به في بيروت في مؤتمر نصرة القضية الفلسطينية برئاسة كمال جنبلاط، أو في لقائهما في إطار المفاوضات والعلاقات بين الحزبين الشيوعي والبعثي، تمهيدًا لعقد الجبهة الوطنية في العام 1973.
الرابعة – أبلغني صديقي الأستاذ زيد الحلّي، الصحافي المخضرم، وصاحب الخبرة والذاكرة الثقافية، أن صلاح عمر العلي، قبل أن يصبح وزيرًا ترأس تحرير “جريدة الثورة”، وخلال تلك الفترة، أقام علاقات طيبة مع الصحفيين ومع أعداد من المثقفين. وحين أصبح وزيرًا، كان لديه شبكة واسعة من العلاقات، وتواصلًا مع شخصيات ثقافية، بمن فيهم الجواهري الكبير، الذي كان يستضيفه في منزله، وهو ما سبق أن تناولت علاقاته مع الجواهري، التي كنت أعرفها جيدًا، فضلًا عن أن “جريدة بغداد” التي أصدرها في لندن، ومن بعدها “جريدة الوفاق”، كانت تحتشد بالأسماء الشيوعية واليسارية، إضافةً إلى رفاقه القدامى.
الخامسة – رسالة القاضي والكاتب زهير كاظم عبود، والتي جاء فيها:
تمكن صلاح عمر العلي أن يكتب اسمه ناصعًا وعراقيًا أصيلًا خلال مرحلة عمله السياسي، منها ما هو في حزب البعث أو في معارضته لنظام صدام، وكان صريحًا وشجاعًا ومتمسكًا بحقوق شعبه وأمله في عراق تسوده العدالة والديمقراطية، واحتل الصفوف الأولى من المعارضين الفاعلين والنشطين.
ولأنه لم يقبل أن ينضوي تحت خيمة سلطة دولة مجاورة، فقد تم تجاهله للأسف، ومثل هذه الشخصية كان لابد أن تحتلّ مكانتها التي تستحقها، لكن التدافع على المناصب والكراسي والعطايا أعمت العيون، وأظلمت الضمائر، ومن المحزن أن يركن صلاح عمر العلي، الذي لم يلتفت إلى المناصب والمسؤوليات، التي كان يمكن أن يبقى عليها لولا التزامه إلى جانب الضمير أن لا يتم تكريمه او الاحتفاء به.
من ناحيتي أكنّ لهذا الرجل كل التقدير والامتنان والمودة، مع إني لم التق به للأسف.
شهادتك ابا ياسر قد تخفّف بعض التعتيم عنه، وانت المعروف بالوفاء.
لك وله كل التقدير والاحترام، وعلى أمل أن نلتقي.
السادسة – مقالة الصديق الشاعر والإعلامي والناقد حسن عبد الحميد في جريدة الدستور( 15 كانون الثاني / يناير 2024) والموسومة “السفير وشعبان”، إضافةً إلى اتصاله الهاتفي يومي 12 و 14 كانون الثاني / يناير المذكور واستفساراته بشأن صلاح عمر العلي، وقوله لقد قربته إلينا، فنحن جيل لم نكن نعرف عنه الكثير، خصوصًا في ظلّ التباسات الأوضاع السياسية والتعتيم المستمر، فهو لم يكن قياديًا سابقًا بعد 17 تموز وعضوًا في مجلس قيادة الثورة فحسب، بل معارضًا ووطنيًا، خصوصًا وأنت وهو على ذات الأرضية المناوئة للحصار المفروض على العراق وللتدخل الخارجي.
السابعة – مع الفنان المعروف حسين نعمة، فقد تعزّزت علاقتي به في العام 2013، خلال الاحتفال ببغداد عاصمة الثقافة، وحين عرف صداقتي مع صلاح عمر العلي، زاد تعلّقه بي، وأصرّ على دعوتي، وأخذ يحدّثني عن صلاح وكأنه من أبناء الناصرية البررة، وكان ملح تلك الأمسية تعليقات خضير ميري وإشادات طالب القرغولي على الرغم من أحزانه وآلامه، التي كان يعاني منها، حيث هجمت عليه على نحو مريع، وكان مقعدًا وعلى الكرسي المتحرّك.
وأتذكّر أن حسين نعمة جاء إلى بيروت، وكان جزءًا كبيرًا من زيارته هو اللقاء بصلاح، وهو ما عملت على أن يكون بمنزلي. وفي آخر مهاتفة لي مع حسين نعمة، أواسيه لوفاة زوجته، وأعزّيه لمصابه، وإذا به بعد أن يشكرني يسألني عن الأستاذ الشهم والطيب، صلاح عمر العلي، وانتهت المكالمة بالحديث عنه وعن أخباره وصحته، وبعد يومين أرسل لي ثلاث صور، واحدة مع صلاح عمر العلي والأخرى هو وأنا، والثالثة ضمته إلينا مهدي الحافظ وأنا.
الثامنة – استفزّت هذه السردية 3 مجموعات، متناقضة ومتعارضة، لكن ما يجمعها هو عدم قدرتها على التخلص من آثار الماضي وثقافة الكراهية، ناهيك عن رؤية المتغيرات التي حصلت على الفرد والمجتمع، بل والعالم أجمع خلال العقود الأربعة الماضية.
أولها، بعض رفاق صلاح القدامى، الذين ظلوا يتشبثون بالماضي، بل يعيشون فيه، ولا يريدون مغادرته، علمًا بأن الماضي مضى ولا يمكن إعادته، لكن يمكن استعادة دروسه وعبره، فمن لم يتّعظ من التجربة سيرتكب نفس الأخطاء والحماقات، سواء كانت في المرّة الأولى على شكل “مأساة”، أو في المرّة الثانية على شكل “ملهاة”، فحسب الفيلسوف الألماني غوته “تظل شجرة الحياة خضراء أما النظرية فرمادية”.
وثانيها، الطائفيون الذين لا يرون الإنسان، إلّا من خلال طائفته، وإذا كان هو خارج الهويّة الطوائفية، إلّا أنهم يتعاملون معه برؤية مسبقة بتصنيفه وفقًا لتقديرهم الطائفي وخارج أية عقلانية أو انتماء وطني أو توجه فكري، وهكذا يتذرّر الوطن إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل، وتلك هويّتهم الغالبة، وأية هويّة أخرى لا مكان لها، علمًا بأن صلاح عمر العلي كان من أشد المتحمسين لمشروعي الموسوم “قانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة”، والذي كنت قد طرحته في الثمانينيات والتسعينيات وبلورته بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وأعدت نشره في كتابي الموسوم “جدل الهويّات في العراق: المواطنة والدولة”، وكنا دائمًا ما نتبادل الرأي بشان الطائفية والطائفيين على الضفتين.
وثالثها، من رفاقنا القدامى الذين لا يزال بعضهم يعيش في عوالم الخمسينيات والستينيات وصراعاتها المدمرة، دون رؤية الحاضر وتعقيداته، وهيمنة القوى الدولية (أمريكا وإيران) على مقدرات العراق. وعلى الرغم من مغادرتنا صلاح عمر العلي وكاتب السطور، مواقعنا الحزبية منذ عدّة عقود من الزمن، وقدّمنا آراء واستنتاجات تخالف الكثير مما هو سائد، إلّا أن المتحازبين ظلوا يعدوننا متمردين على “الشرعية” و”التنظيم الحديدي”، علمًا بأن الأمر لم يعد بالنسبة لنا سوى تاريخ.
نشرت 6 حلقات منها في جريدة الزمان (العراقية) في 25 تشرين الثاني / نوفمبر و 1- 9- 17- 30 كانون الأول / ديسمبر 2023 و 13 كانون الثاني / يناير 2024. ونشرت الحلقة السابعة والإضمامة في الحوار المتمدن في 14 – 16 كانون الثاني / يناير 2024.