أمد/
سطر وزراء «معسكر الدولة»، بيني غانتس وغادي آيزنكوت وحيلي تروبير، رسائل استقالة من حكومة الطوارئ، التي أقيمت رسميا يوم 11 أكتوبر من العام الماضي، وينتهي أمرها، يوم الخميس بعد دخول الاستقالات قانونيا حيز التنفيذ. وتأتي الاستقالات على خلفية أزمة ثقة وخلافات في الرأي حول بعض القضايا المتعلقة بصفقة التبادل وبالعلاقة بالولايات المتحدة وبقضية اليوم التالي وبمسألة تجنيد «الحريديم» وبغيرها. لكن من المؤكّد أن العامل الحاسم في اتخاذ قرار الخروج من الحكومة، كان بسبب فشل الحرب ولتلافي تحمّل مسؤولية هذا الفشل، بما قد يتبعه من إسقاطات انتخابية، ومن تداعيات في لجان التحقيق. فلو كانت أمور الحرب «على ما يرام» بالنسبة للدولة الصهيونية لبقي هؤلاء في الحكومة لينالوا قسطا من الرصيد.
بعد ثمانية أشهر انتهى عمر «حكومة الطوارئ»، التي قامت بعد انضمام حزب «معسكر الدولة» إلى الحكومة، وتشكيل «مجلس الحرب» بعضوية نتنياهو وغالانت وغانتس، إضافة إلى مراقبَين هما آيزنكوت وديرمر. كانت تلك أكثر الحكومات الإسرائيلية دموية وإجراما، فهي التي صاغت أهداف الحرب العدوانية، وهي التي رسمت استراتيجيتها العامة، وحددت أطرها وأقرت سلفا ولاحقا جرائم الإبادة الجماعية والدمار الشامل كافة. ويتحمل الجنرالان المتقاعدان بيني غانتس وغادي آيزنكوت المسؤولية المباشرة كاملة عن الجريمة الفظيعة في غزة، ليس أقل من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت. ولربما أكثر، لأن وجودهما في الحكومة منحها شرعية داخلية وعالمية مضافة، مكّنتها من اقتراف المزيد من الجرائم والفظائع، خاصة أن أوساطا أمنية وسياسية متنفّذة في الولايات المتحدة وأوروبا اطمأنت إلى وجود بعض «العقلاء» في الحكومة الإسرائيلية من أمثال غانتس وآيزنكوت. ولكن كثيرا ما تكون العقلانية أفظع من الجنون: بن غفير يصرخ بهستيريا اقتلوا العرب، وهو لم يخدم في الجيش أصلا، والجنرالان غانتس وآيزنكوت يشاركان بشكل «مهني وعقلاني» في قيادة وإدارة حرب الإبادة الجماعية، ويرددان بـ»هدوء ورصانة» أن الجيش يعمل على تجنّب المس بالمدنيين، حتى بعد أن قتل عشرات الآلاف منهم. هذا يصرخ «اقتلوا العرب!» وهذا يقتلهم فعلا، فمن الأخطر يا ترى؟
خطاب ورسالة الاستقالة
في مؤتمر صحافي عقده الأحد الماضي، أعلن بيني غانتس عن استقالته وعن خروج حزبه من الحكومة الإسرائيلية. وشن، بطريقته الرخوة المعهودة، هجوما على رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، واتهمه بالامتناع عن اتخاذ قرارات استراتيجية مصيرية وحاسمة لاعتبارات شخصية وحزبية، وكذلك بتغليب مصالح «غريبة» على المصلحة العامة واعتبارات الأمن القومي. ودعا غانتس إلى إجراء انتخابات مبكّرة وناشد وزير الأمن، يوآف غالانت، بعدم الاكتفاء بالأقوال «الشجاعة وباتخاذ الخطوات العملية، التي «يعرف أنّها لازمة». في المؤتمر الصحافي وفي رسائل الاستقالة والتصريحات الصحافية، التزم وزراء «معسكر الدولة» بعدم توجيه أصابع الاتهام علنا إلى بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي يعطّل صفقة التبادل، لكن هناك إجماعا على أن هذا رأيهم وهو من أهم عوامل الانسحاب من الحكومة. وقد دعا أقطاب «معسكر الدولة» إلى تشكيل «لجنة تحقيق رسمية»، ويبدو أن الضغط بهذا الاتجاه سيتصاعد في ظل محاولات نتنياهو التنصّل من المسؤولية وتحميلها للجيش وللمخابرات ولحركة الاحتجاج.
دلالات الاستقالة
وجّه غانتس يوم 18 مايو المنصرم إنذارا إلى بنيامين نتنياهو بأن حزبه سينسحب من «حكومة الطوارئ» إن هو لم يطرح «خطة عمل جديدة» حول الحرب وصفقة التبادل واليوم التالي. وتجاهل نتنياهو الإنذار ورد أنصاره عليه باستهزاء وباستخفاف، وكان واضحا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لن يحرّك ساكنا لمنع خروج غانتس وحزبه من الحكومة، ربما لاعتقاده بأن هذا الخروج سيضعف هذا الحزب المنافس له. لقد انضم غانتس وحزبه إلى حكومة نتنياهو بعد السابع من أكتوبر، بادعاء المشاركة في تحمّل «العبء الوطني»، مع التأكيد بأنّها شراكة لـ»زمن الحرب» فقط. فهل انتهى هذا الزمن؟ بالتأكيد لا، فقد قال كل من غانتس وآيزنكوت بأنها سوف تستمر لسنوات. وعليه، لم يأت الانسحاب على خلفية نهاية الحرب، أو قرب نهايتها، بل له أسباب ودلالات أخرى، منها:
أولا، جاء في نهاية رسائل الاستقالة، التي قدمها وزراء «معسكر الدولة»، جملة قد تبدو غريبة للبعض، ونصّت على أنّه «إذا أقيمت حكومة وحدة قومية في زمن الحرب، وتعمل لأجل دولة إسرائيل، بكل ما يعنيه ذلك، سوف نتجنّد نحن أيضا لنكون جزءا منها». معنى هذا الكلام إبقاء الباب مواربا لإمكانية العودة إلى الائتلاف الحكومي. علام هذا الكلام والحرب ما زالت دائرة؟ السبب باعتقادي هو أن «حكومة وحدة قومية» هي سيناريو ممكن إذا جرى تحوّل دراماتيكي واندلعت حرب شاملة على الجبهة اللبنانية، وهذا سيناريو وارد في حالة تعذر التوصل الى حل دبلوماسي، أو في حال جرت مواجهة عسكرية كبيرة مع إيران، وهذا مستبعد لأسباب كثيرة. الانسحاب بحد ذاته يدل على أن غانتس وآيزنكوت لا يريان أن هناك إمكانية قوية لحرب إسرائيلية شاملة على لبنان، ولكنّهما يعدان بالانضمام مجددا للحكومة، إن هي نشبت. المثير أن وسائل الإعلام الإسرائيلية والمحللين كافة تجاهلوا هذا البند في رسائل الاستقالة، ربما لاستبعاد إمكانية الحرب الشاملة.
ثانيا، تنحّي غانتس وآيزنكوت عن المسؤولية السياسية والأمنية المباشرة، هو أقوى دليل على اليأس من إمكانية قبول نتنياهو بصفقة تبادل تعيد المحتجزين الإسرائيليين، وتنهي الحرب، وهما ليسا وحدهما بهذا الرأي، وكما كتب الصحافي الإسرائيلي رفيف دروكر في صحيفة «هآرتس» هذا الأسبوع «لا أحد في القيادة الإسرائيلية يصدّق أن نتنياهو يمكن أن يقبل بصفقة تنهي الحرب. ولو لاحت صفقة في الأفق، لبقي وزراء «معسكر الدولة» في حكومة الطوارئ.
ثالثا، أعلن المستقيلون بأنهم يقبلون بالصفقة، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن، بما في ذلك وقف الحرب لإعادة المحتجزين. لكنّهم صرّحوا في الوقت نفسه، بأن الحرب ستستمر من ثلاث إلى خمس سنوات. هم لم يشرحوا كيف يستوي وقف الحرب مع استمرارها لسنوات، ولكن من الواضح أن القصد هو وقف «الحرب القوية» لفترة ما ثم استئناف حرب جديدة أقل شدّة لسنوات. ليست تصريحات نتنياهو المتطرّف وحدها هي ضوء أحمر أمام الموافقة الفلسطينية على الصفقة، بل كلام «المعتدلَين» غانتس وآيزنكوت أيضا.
رابعا، استقالة غانتس وآيزنكوت هي إقرار منهما بأن الحرب فاشلة. وقد صرّح الاثنان أكثر من مرة بأن الدولة الصهيونية فشلت في تحقيق أهداف الحرب، وحمّلا نتنياهو مسؤولية حرمانها من إنجاز «النصر الحقيقي»، كما سمّاه غانتس. في الحقيقة هما يستقيلان هربا من تحمّل أعباء الإخفاق.
خامسا، غانتس وآيزنكوت هما أقرب المقرّبين إلى الإدارة الأمريكية، وهما على تنسيق دائم ومتواصل مع مسؤوليها. وقد نشرت في الأشهر الماضية أنباء متواترة عن طلب أمريكي منهما للبقاء في الحكومة لمنع «حماقات» اليمين المتطرف. يبدو أن الإدارة الأمريكية أصبحت يائسة من حكومة نتنياهو وتريد لها أن تسقط بعد أن فشلت في الحرب وفي التعامل مع قضية اليوم التالي، وصارت تتعامل معها وفق مبدأ نيتشه «من لا تستطيع أن تعلمه الطيران، ساعده على الأقل أن يسرع في السقوط!»، فلربما يعتقد من يعتقد في واشنطن أن استقالة وزراء «معسكر الدولة» ستقصّر عمر حكومة نتنياهو.
سادسا، ليس واضحا بعد شكل تأثير الاستقالة على الداخل الإسرائيلي، ولكن من المؤكّد أنه سيكون لها أثر مهم على مسار حركة الاحتجاج، بشقيها وبمطلبيها: إسقاط الحكومة والتوصل إلى صفقة لإطلاق سراح المحتجزين. كما سيكون تأثيرها على العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري، خاصة أن آيزنكوت تحديدا كان على علاقة حميمية ومتينة بالقيادات العسكرية، وأسدى لها النصائح ومثّلها في «مجلس الحرب».
سابعا، ليس واضحا أيضا مدى وشكل التغيير في التعامل الأمريكي مع حكومة نتنياهو بعد انسحاب «جماعة أمريكا» منها، وخسارة أحد دروعها الواقية. لقد فقدت الإدارة الأمريكية أحد أهم ادعاءاتها وهو أن هناك «عقلاء» في الحكومة الإسرائيلية. فكيف ستتعامل واشنطن مع «حكومة المجانين»؟
لقد استقال وزراء «معسكر الدولة» آملين بتبكير موعد الانتخابات، ولكن الأمل وحده لن يقرّب موعدها. هذا يتطلب انتقال خمسة أعضاء كنيست من الائتلاف، المكوّن من 64 نائبا، إلى دعم مشروع قانون لتبكير موعد الانتخابات. حاليا، هذا مستبعد جدا، فالائتلاف متماسك ومنسجم إلى حد كبير، ويخشى أعضاؤه الانتخابات وفقدان السلطة. لكنّي أرى أن من الممكن لاحقا أن يتشكّل حزب يميني جديد بقيادة نفتالي بينيت رئيس الوزراء السابق، وأفيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا، ويوسي كوهين رئيس «الموساد» السابق، وجدعون ساعار رئيس حزب «اليمين الرسمي». في هذه الحالة، وحالات مشابهة أخرى، من الممكن أن ينسحب بعض أعضاء الكنيست من الليكود لينضموا إلى الحزب الجديد ويدعموا تبكير الانتخابات. هذا سيناريو ضعيف الاحتمال حاليا، لكن السيناريوهات الأخرى أضعف بكثير.
يجب الانتباه إلى أن أهم ما جاء في حيثيات استقالة غانتس وآيزنكوت هو التأكيد على أن الحرب ستدوم لسنوات. وقد آن الأوان لفعل فلسطيني وعربي ودولي لحشد الطاقات والجهود والأفعال لوقفها، وعدم الاكتفاء بالتعويل على صفقة التبادل لوحدها.