أمد/
واشنطن: تعيش أمريكا انقساماً واستقطاباً كبيرين منذ فترة طويلة، تعمقا أكثر، في الآونة الأخيرة، ووصلا بالبلاد إلى شفير الهاوية، حتى جاءت محاولة اغتيال ترامب الفاشلة يوم السبت الماضي، وخلقت تحدياً جديداً أمام المجتمع الأمريكي، الواقف فوق فوهة النار.
السبت الماضي، كانت الولايات المتحدة، أكثر قرباً من كارثة سياسية لا تحمد عواقبها، إلا أن القدر اختار مصيراً آخر، وحرّك رأس ترامب في اللحظة الحاسمة، ليكمل حياته، في نجاة كانت شبه مستحيلة، دافعاً بها الأمريكيين أبعد بعرض شعرة من اللا عودة.
وتقول صحيفة "نيويورك تايمز" في تحليل لها، يسلط الضوء على تبعات المحاولة الخطيرة على المجتمع الأمريكي ومستقبله، قائلة، إنها أتت في وقت أصبحت فيه الولايات المتحدة مستقطبة بالفعل ثقافياً وأيدولوجيا، ومنقسمة في كثير من الأحيان إلى حقيقتين.
مخاطر كبيرة
و تضيف الصحيفة، محاولة اغتيال ترامب، هي الأخيرة، في مسلسل الاغتيالات السياسية بالولايات المتحدة، لكنّها تحمل في تبعاتها مخاطر أكبر، وعند مقارنتها بمحاولة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان برصاص شخص تائه يسعى لجذب الانتباه في عام 1981، اتحدت أمريكا وشعبها خلف زعيمها الجريح، وتوجه رئيس مجلس النواب الديمقراطي، توماس بي أونيل جونيور، بعينين دامعتين، إلى غرفة الرئيس الجمهوري في المستشفى، وأمسك بيديه وقبل رأسه وجثا على ركبتيه للصلاة من أجله.
لكن ومن وجهة نظر الكاتب بيتر بيكر، يبدو من المرجح أن تؤدي محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب إلى تمزيق أمريكا أكثر من توحيدها، ففي غضون دقائق من إطلاق النار، امتلأ الجو بالغضب والمرارة والشك والاتهامات المتبادلة، ووجهت أصابع الاتهام، وتقدمت نظريات المؤامرة، وازداد انقسام البلد الذي يعج بالعداء بالفعل.
اتهامات
ويضيف بيكر، حقيقة أن محاولة الاغتيال التي جرت في ولاية بنسلفانيا ليلة السبت، كانت قبل يومين فقط من بدء الحزب الجمهوري مؤتمره الوطني، وإعلانه ترامب مرشحاً رسمياً لخوض الانتخابات الرئاسية، تضع الحدث دائماً في سياق حزبي، فبينما كان الديمقراطيون يتذمرون من العنف السياسي، الذي طالما انتقدوا ترامب على تشجيعه، ألقى الجمهوريون على الفور باللوم على الرئيس بايدن وحلفائه في تدبير الاغتيال، قائلين إنه نابع من لغة تحريضية تصف الرئيس السابق بأنه فاشي من شأنه أن يدمر الديمقراطية.
هاجم أنصار ترامب، وعلى رأسهم مدير حملته الانتخابية كريس لاسيفيتا، الديمقراطيين، في غضون ساعات من إطلاق النار حتى قبل التعرف على المسلح أو تحديد دوافعه، وكتب على منصة "إكس"، "حاولوا إبعاده عن الانتخابات، وحاولوا سجنه، والآن حاولوا قتله".
ولاحقاً يبدو أن حملة ترامب فكرت في الأمر بشكل أفضل، وحذفت المنشور، وأرسلت مذكرة يوم الأحد من قبل مدير الحملة لاسيفيتا، والمستشارة سوزي وايلز، بتعليمات لأعضاء فريق ترامب وأنصاره بعدم التعليق على إطلاق النار.
"ضحية الاضطهاد"
ويقول الكاتب، "في كلتا الحالتين، يمكن أن تغذي هذه الحادثة رواية الرئيس السابق ترامب حول كونه ضحية لاضطهاد الديمقراطيين بعد اتهامه ومقاضاته وإدانته".
وقبل يوم السبت، كان ترامب يردد دائماً اتهاماته للديمقراطيين بالسعي لإطلاق النار عليه.
ويضيف الكاتب، أن إطلاق النار جاء في وقت كانت فيه الولايات المتحدة مستقطبة بشدة على أسس آيديولوجية وثقافية وحزبية، ويبدو أنها منقسمة في كثير من الأحيان إلى دولتين، بل وحتى إلى حقيقتين، واليوم، أكثر من أي وقت مضى، لا يرى الأمريكيون أنفسهم في مشروع جماعي وحدوي، بل ينظرون إلى أنفسهم على طرفي نقيض.
حرب أهلية ثانية
وقد أصبحت الانقسامات في الولايات المتحدة صارخة إلى حد أن استطلاع رأي أجرته مؤسسة ماريست في شهر مايو (أيار) أظهر أن 47% من الأمريكيين يعتبرون أن حرباً أهلية ثانية محتملة، أو محتملة جداً في حياتهم، وهي الفكرة التي دفعت "هوليوود" إلى إطلاق فيلم يتخيل كيف يمكن أن تبدو تلك الحرب.
وقد دفع التصاعد المتسارع للأحداث التخريبية في الآونة الأخيرة الكثيرين إلى مقارنة عام 2024 بعام 1968، وهو عام الصراع العنصري وأعمال الشغب في المدن، واغتيال مارتن لوثر كينغ، وروبرت إف كينيدي. كما ساعدت الاحتجاجات على حرب فيتنام في دفع الرئيس الأسبق ليندون جونسون إلى الانسحاب من السباق الانتخابي في ذلك العام.
عنف متجذر
وقال المؤرخ بجامعة "جورج تاون" مايكل كازين، إن العنف السياسي له تاريخ طويل في أمريكا، وكما حدث في أعوام 1861، و1886، و1991، و1968، فإن العنف أمر لا مفر منه في مجتمع منقسم بشدة مثل مجتمعنا، رغم أن العنف السياسي في الوقت الحالي أقل مما كان عليه في السنوات السابقة".
ومع ذلك، فمنذ إطلاق النار على الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن، لم تُحدث محاولة اغتيال ضد رئيس أو مرشح رئاسي كبير هذا الحد من الانقسام الحزبي.
وقتل 3 رؤساء أمريكيين في اغتيالات سياسية سابقة، هم جيمس غارفيلد، وويليام ماكينلي، وجون إف كينيدي، لكن ورغم ذلك لم تصبح عمليات القتل البغيضة تلك مصدراً للانقسام بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وينطبق ذلك على محاولات اغتيال لوثر كينغ، وروبرت كينيدي، وفرانكلين روزفلت والرئيس جيرالد فورد.
محرض فضحية
وللرئيس السابق دونالد ترامب، تاريخ طويل في تشجيع العنف، وحث أنصاره في كثير من المناسبات على ضرب المتظاهرين في المسيرات، وهتف لعضو جمهوري في الكونغرس لأنه ضرب أحد المراسلين، ودعا إلى إطلاق النار على اللصوص وسارقي المتاجر، وقلل من أهمية الهجوم على رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي ووعد بالعفو عن مثيري الشغب في 6 يناير (كانون الثاني) 2021.
لكن الآن، وبعد كل هذا التحريض من ترامب، قلب الجمهوريون الطاولة على الديمقراطيين في نهاية هذا الأسبوع، بحجة أنه إذا كان ترامب مسؤولاً عن الخطاب الاستفزازي، فيجب أن يكون بايدن مسؤولاً أيضاً.
وكتب السيناتور جي دي فانس، الجمهوري من ولاية أوهايو والمرشح الأوفر حظاً للفوز بمنصب نائب الرئيس دونالد ترامب، على مواقع التواصل الاجتماعي، "الفرضية الأساسية لحملة بايدن هي أن الرئيس دونالد ترامب فاشي استبدادي يجب إيقافه بأي ثمن، هذا الخطاب أدى بشكل مباشر إلى محاولة اغتيال الرئيس ترامب".
ويضيف الكاتب، "يكمن الخطر في أن يصبح العنف السياسي أمراً طبيعياً في الولايات المتحدة، وشكلاً آخر من أشكال الحروب الحزبية التي لا نهاية لها".
ووجدت دراسة نُشرت في مايو (أيار) الماضي، أن 11% من الأمريكيين قالوا، إن "العنف كان مبرراً أحياناً أو دائماً لإعادة ترامب إلى الرئاسة، وقال 21% إنه مبرر لتعزيز هدف سياسي مهم".