أمد/
كرّس المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز كثيرًا من الأعمال تناولت بالتحليل والنقد تجارب الأحزاب والقوى السياسية من مختلف مشاربها وانتماءاتها القومية والدّينية والأيديولوجية. ولئن كانت تلك الأعمال تنصرف تحديدًا إلى نقد المشروع السياسي بما يتثوّاه من خلفيات ومواقف، وتهدف إلى تعيين رؤية تلك القوى إلى الواقع العربي بما له من صلات داخلية وخارجية، فإنّ كتاب “نقد السياسة في أمراض العمل السياسي”، يختلف عن هذه الأعمال من جهة انشغاله بالظاهرة الحزبية العربية في شمولها لا باعتبارها تيارًا حزبيًا خاصًا، وإنما بوصفها نموذجًا حزبيًا مجردًا يستقطب مشتركات متقاطعة بين الأحزاب العربية بالرغم من اختلاف تياراتها ومرجعياتها.
يعتمد بلقزيز في هذا الكتاب على منهجية التحليل النقدي الأفقي لتجاوز تجربة نقد الحزبية الخاصة إلى نقد الحزبية من داخل السياسة. لذلك استعاض عن المقاربة الإيديولوجية بالمقاربة السياسية تجنبًا للمعيارية والتزامًا بالواقعية.
أكاد أجزم أنّ الموضوع الذي أثاره بلقزيز حول أمراض العمل السياسي ونتائج آثاره الكارثية على الفكر والخطاب والممارسة والبنيات المؤسسية، ليس إلا تحذيرًا من قتل السياسة في وطننا العربي. لأنّ موت السياسة لا يهدد المجتمعات العربية وهويتها فقط، وإنما يأتي على الدولة الوطنية ويقوض مرتكزاتها ومدنيتها واستقرارها.
كلّما كان الفكر دوغمائيًا وكانت السياسة تجري مجراه كان الفكر يتخذ نزعة مرضية سلبية
يحتوي المدخل الموسّع على أطروحة تعليلية لأسباب إصابة العمل الحزبي بالأمراض العشرة. وهي: أسباب في نظره متعددة ومتشعبة ومتداخلة ومتفاوتة التأثير. ومن بينها، تدهور أوضاع الطبقة الوسطى التي بدونها يصعب العمل السياسي، خاصة أنها تلعب أدوارًا وظيفية في خلق التوازن الاجتماعي والسياسي في أي مجتمع. وتنضاف إلى عِلّة الانسداد في النظام السياسي وآثاره على الحياة السياسية العامة، عِلّة انحطاط النظام التعليمي وعِلّة الأزمة الثقافية وعِلّة تفكك منظومة القيم، فضلًا عن عِلّة تهالك الهيئات النقابية والمنظمات الشعبية.
يتناول القسم الأول مسألة الفكر من حيث الجهة التي يتحقق فيها. فكلّما كان الفكر دوغمائيًا يسعى إلى التّأثير في السياسة وكانت السياسة تجري مجراه على مثال اليساريين والمتعصبين الإسلاميين، كان الفكر هاهنا سلبيًا باعتباره يتخذ نزعة مرضية سلبية. وكثيرًا ما تخرج هذه النزعة، حسب بلقزيز، من نطاق الفكر والثقافة والدين إلى نطاق السياسة.
يحدد القسم الثاني النزعة الشعبوية كنزعة في التفكير السياسي “تجنح لتقديس الشعب وحسبانه مستودع الحقيقة المطلقة ومناط الخلاص النهائي من شرور العالم”. ولما كانت تعتبر التفكير النظري ثرثرة وتميل إلى العفوية والغوغائية، كانت ترادف بهذا المعنى “الفوضوية والعفوية التنظيمية والتجريبية القاتلة في التفكير”. لذلك اعتبر المؤلف وهو يذكّر ببعض مظاهرها منذ القرن التاسع عشر في الغرب، أنّ أسوأ ما فيها تأسيسها “لميتافيزيقا سياسية جديدة، بل قل للاهوت سياسي جديد، هو لاهوت الشعب”.
يرى بلقزيز أنّ المركزية الديمقراطية تشكل عقيدة ذات شكل هرمي لا رابط بين ضوابطه إلا الرابط النظري الإيديولوجي
يقوم القسم الثالث على تشخيص مرض العمل السياسي والحزبي ممثلًا في المركزية البيروقراطية، ليس باعتبارها مرضًا طارئًا؛ ولكن باعتبارها مرضًا بنيويًا أفصح عن نفسه مؤسسيًا قبل أكثر من قرنين. لم يكن استفحال أمرها مقصورًا على البلدان الاشتراكية فقط، وإنما ترسخت في أحضان الديمقراطيات الغربية وامتدت إلى الدول العربية التي فهمت على الهامش النموذج اللينيني للمركزية الديمقراطية. هنا يرى بلقزيز أنّ هذه المركزية تشكل في مستواها التنظيمي عقيدة ذات شكل هرمي لا رابط بين ضوابطه إلا الرابط النظري الإيديولوجي.
أخيرًا، يأتي ملحق مكوّن من فصلين، وكأنه تطبيق تمثلي يتناول أمراض السياسة وأسبابها في تراجع الظاهرة الحزبية وانهيار اليسار في المغرب والبلدان العربية. ليس الهدف من هذا الملحق إلا تمتين الصّلة بين الفكرة التي دافع عنها المؤلف والواقع ممثلًا في السياسة والأحزاب.
(خاص “عروبة 22”)