أمد/
لفت انتباهي في الأشهر الأخيرة تفشي الرؤية التي تقول إن إسرائيل في طريقها للزوال، وأن الطريق لتحرير فلسطين من “النهر إلى البحر” قاب قوسين أو أدنى…
منذ أربعين عاما ونيف، وأنا أسمع تقديرات سياسية وعلمية وموضوعية عن انهيار إسرائيل وعن “نهاية المشروع الصهيوني”، وبالطبع فإن ذلك لم يحدث. وعموما تكهنت هذه التقديرات بانهيار إسرائيل من الداخل، ووصول تناقضاتها الداخلية إلى حالة التفجر والاندثار، والذي يستند إلى ادعاء كونها مجتمعا كولونياليا ومهاجرا و”غير طبيعي” يحمل في داخله عوامل فشله واندثاره.
هذه التحليلات مبنية بالأساس على تقديرات رغائبية وليس على حقائق واقعية، بل إن إسرائيل ازدادت قوة وكفاءة ووحدة اجتماعية خلال هذه الفترة. وفي رأيي فإن هذه التقديرات تنبع من تطلع إلى اختفاء إسرائيل من الداخل وبفعل شلل داخلي، مما يعفي القائلين بذلك- على الأقل في غالبيتهم- من ضرورة التفكير والحث على عمل فلسطيني وعربي ودولي مثابر لأجل تغيير وتصحيح الأوضاع في فلسطين…
وبينما تستمر إسرائيل في حربها على أهل غزة، وتستهدفهم يوميا وتقتلهم وتجرحهم وتشردهم وتجوعهم وتعتقلهم، وكل أصناف الملاحقات والعذابات الأخرى، يستمر العجز الفلسطيني عن فعل جماعي جدي يتجاوب أو يتلاءم مع تحدي وقف الاعتداء على الغزيين، والفشل الدولي في فرض وقف كلي لإطلاق النار، أو حتى الوصول إلى إجماع لفظي بتأييد ذلك على الأقل، فإن أوهاما منتشرة تطغى في دوائر عدة، فلسطينية وعربية وعالمية، في سياق مجابهة الحرب. فصحيح أن هنالك استفاقة عالمية في معارضة الإجراءات والسياسات الإسرائيلية، وأن هنالك موجة غير مسبوقة من الاحتجاج على السياسات الإسرائيلية والجرائم التي تنفذها في غزة، وازديادا جديا في النقاش حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحتى تقديم قيادات إسرائيلية إلى المساءلة أمام محكمة الجنايات الدولية وربما استصدار أمر باعتقال بعضهم، بالإضافة إلى قرارات أممية مهمة في دوائر عدة أهمها أمام محكمة العدل الدولية.
إن الذهاب بهذه التطورات إلى التحليل بأننا أمام تغيير جوهري وجدي في وضعية إسرائيل، وفي تحقيق الحقوق الفلسطينية، مجرد سيناريوهات رغائبية ليس لها علاقة بالواقع، وإيضاح ذلك الوهم أو تفكيكه، هو خطوة مهمة جدا لأجل الذهاب بالتطورات أعلاه وغيرها إلى سياق استراتيجي يفكر بعقلية التغيير التراكمي طويل الأمد والذي يتطلب الكثير من التخطيط والعمل الفعلي، لإنجاز تغيير جدي في المستقبل، قد يأتي بعد عقدين أو نصف قرن، وقد لا يأتي. لكن مهمة وضع السياق التاريخي لإمكانيات التغيير هي مهمة لإحداث ذلك مستقبلا، والطريق إلى ذلك يبدأ في تغيير منهجي من التفكير بالأحداث الجارية من كونها ستقود حتما وفورا إلى تغييرات انقلابية، إلى تفكير يختصر الأوهام ويذهب بنا إلى رؤى واقعية بعيدة المدى لمستقبلنا جميعا في فلسطين والمنطقة…
إن فكرة انهيار إسرائيل التي أصبحت مقولة رائجة وكأنها حاصلة الشهر القريب أو السنوات القريبة جدا على أبعد تقدير، تعتمد على تصور وهمي بأن إسرائيل التي تعصف بها الأزمات محليا وعالميا، تقترب من نهايتها، أو من “نهاية المشروع الصهيوني”، وكأن الدولة، أو الدول الأخرى، والقوية تحديدا، لا تعصف بها تناقضات ولا تتهدد لحمتها الداخلية. هذا الوضع يتطلب قراءة متأنية في الوضع الإسرائيلي، قراءة موضوعية ترتكز على معرفة علمية غير محكومة بدوافع أيديولوجية ولا بسقف سياسي عيني…
القراءات المعمقة والمستندة إلى المعرفة العلمية تشير بالتأكيد إلى تعمق التناقضات الإسرائيلية الداخلية وتراجع الوضع الاقتصادي ومكانة المؤسسات الرسمية وفقدان الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة وقدرتها على حماية المواطنين، خصوصا في ظل هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر 2023 والفشل في إعادة كل المخطوفين لدى “حماس”، برغم الحرب الشعواء، كما تردي المكانة العالمية لإسرائيل. إلا أن كل ذلك لا يفيد علميا بقرب إسرائيل من نهايتها، ولا انتهاء مشروعها، بل إنه قد يفيد بتطورها نحو التوحش كجزء من عملية تغيير، معادية أكثر للفلسطينيين، بين الإسرائيليين عموما ومتخذي القرار بشكل خاص.
خلال أربعة عقود (ونيف) قام أستاذ الشؤون الدولية ودراسة الصراعات، من جامعة تافتس المرموقة في بوسطن، الأستاذ الفلسطيني نديم روحانا بمساهمات جدية في محاولة دراسة وفهم تطور المشروع الاستعماري-الكولونيالي في فلسطين، وهو بالتأكيد من أهم المصادر العلمية لفهم إسرائيل، وخصوصا أنه يتقن العبرية ومطلع على مجمل التطورات الإسرائيلية من خلال معرفة مباشرة.
بالأساس اهتم روحانا بتجليات تطور الصهيونية وإسرائيل في تعاملهما مع الفلسطينيين، أهل البلد الأصليين، منذ بدايات المشروع الصهيوني وحتى يومنا هذا…وأشار روحانا إلى أن هنالك تحولات جارية في الصهيونية وإسرائيل، وعلى رأسها ثلاثة تجليات: الأولى، تعمق الخوف الفردي في إسرائيل على المستقبل وازدياد الشعور بعدم الثقة في الدولة على حماية اليهود من محاولات استهداف فلسطينية. ثانيا، انهيار مبررات الشرعية لدولة إسرائيل كما يراها غالبية الإسرائيليين ويشاطرهم في ذلك الكثيرون من العالم، بما في ذلك تقلص إمكانيات الاستمرار في استعمال الهولوكوست النازي ضد اليهود لتبرير ممارسات إسرائيل وخوفها من المستقبل. والثالث، يتعلق بتعمق فكرة الإبادة للفلسطينيين وحلولها بقوة، ولو جزئيا، مكان فكرة المحو المرتكزة على الإبعاد وليس الإبادة، أي تعمق ما يسميه “الصهيونية الإبادية” وموضعتها في قلب الإجماع أو تأييد غالبية الإسرائيليين…
إن الفلسطينيين ورغم المعاناة والألم، لم يقوموا بنخبهم وفصائلهم وقياداتهم، في البدء أصلا بالتحضير لاستثمار ارتدادات حرب غزة لأجل بلورة تصور جدي متفق عليه بشكل واسع، للمستقبل في فلسطين، أو- بحسب روحانا- لشكل النصر الذي يرغبون في تحقيقه، وبذلك فإن الأداء الفلسطيني الوطني والجماعي لا يبشر أصلا بأي خير في المساهمة بإحداث تغييرات أو في انهيار المشروع الاستيطاني الاستعماري وبناء مشروع مدني ديمقراطي بديل…
التطورات التاريخية في عموم فلسطين، وفي العالم بحاجة إلى الاستثمار والتقنين، وذلك غير قابل للإخراج في الوضع الوطني الفلسطيني الحالي، لا “فتح” ولا “حماس” ولا قيادة الداخل ولا “منظمة التحرير” وفصائلها قادرة على حمل مشروع التغيير المستقبلي والمرغوب لفلسطين. وهنا نعود لتأكيد، ما تحاول نخب فلسطينية القيام به، ألا وهو بذل جهود جدية في سبيل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والتجاوب مع آلام وتضحيات الغزيين وغيرهم للانطلاق لترميم القيادة وربما بناء قيادة جدية تستحق أن تقود النضال الوطني نحو أفق الخروج من المأزق، والذي يتضمن بالضرورة رؤية وطنية تقدمية وإنسانية لمستقبل الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.