أمد/
في الوقت الذي يخوض فيه الجيش حرب إبادة ضد حماس في قطاع غزة، تخوض حماس ضدنا حرباً ناجحة جداً، لشدة الأسف، بعيداً عن هناك وقريباً أكثر من مركز البلاد.
حقيقة أن اهتماماً قليلاً نسبياً مكرساً للقتال في طولكرم وجنين ونابلس وقلقيلية، لا يلغيها بل ينم عن وهن أعصابنا. سواء شئنا أم أبينا، ثمة رحى معركة دموية تدور هناك.
هذا الأسبوع دفع الرقيب احتياط يهودا جاتو، وهو سائق عملياتي في وحدة “دوفدفان”، الثمن بحياته، وكان جزءاً من القوة التي عملت في مخيم نور شمس للاجئين في طولكرم؛ لنزع عبوات مزروعة هناك بانتظار القوات. لم يعرف أن مثل هذه العبوة زرعت بالضبط في المكان الذي قاد فيه مركبته. شغلت العبوة، وقتل جاتو وأصيب رفيقه، ضابط في الوحدة، بجروح خطيرة. جاتو، ابن 22 من “فرديس حنا – كركور”، ليس القتيل الأول الذي يدفع ثمناً بحياته بانفجار عبوة دفنت في الأرض في الضفة الغربية. لقد بات قتال العبوات اعتيادياً في شمالها. وغداة سقوط جاتو، قتل الجيش من الجو خلية من أربعة أفراد من المخيم إياه كانت تعمل في زرع العبوات الناسفة.
نور شمس ليست البؤرة الوحيدة التي يختبئ فيها العدو الآخذ بتعزيز قوته. فمثله مخيم جنين ومخيم بلاطة في نابلس وثمة بؤر أخرى. هذه الأحداث الدموية أخطر وأصعب مما تبدو في التقارير الإعلامية، وهي آخذة في الاحتدام.
لئن كان العدو اكتفى قبل نحو سنة بإطلاق النار، فهو اليوم يعرف كيف ينتج عبوات ناسفة فتاكة. يبين هذا الميل بأن المعلومات التي ينطوي عليها إعداد العبوات استوعبت، وباتت متوفرة لدى كثيرين نسبياً من بين خبرائهم. العبوات نفسها آخذة في التطور، فهي تصبح أكبر وأخطر وأكثر فتكاً.
يفكر الجيش بالحلول دائماً. في هذه الأيام مثلاً، يفكر بإدخال مجنزرات إلى أزقة مخيمات اللاجئين. نوع الأجوبة هذا الذي يقترحه الجيش إنما يدل على الضائقة. بقي الجيش وحده لحل المشكلة المقلقة، وإن كان المطلوب هنا حل متعدد المنظومات، هو في قسم منه سياسي… بالفعل، يجب الرد بقبضة من حديد، لكن ليس بوسعها حل المشكلة وحدها. وذلك لأن المقدر الأهم يجده المسلحون في السكان المدنيين. وبسبب شدة القوة التي يستخدمها الجيش، فإنه كلما قتلنا منهم سينضم المزيد من الشباب إلى دائرة القتال. يموت واحد فيأتي آخران. لن تجدي أي مجنزرة نفعاً أمام مثل هذا التحدي، ولا مروحية أو دبابة أيضاً. بل ستتسع الصفوف.
لا توجد وسيلة جميلة لقول هذا: حرب عصابات على نمط “فتح لاند” في جنوب لبنان آخذة في التموضع على مسافة بضعة كيلومترات من “نتانيا”. زرع الإيرانيون فخا لنا هنا مرة أخرى، هذه المرة بمعونة ذراع حماس العسكري في لبنان، التي وضعت فكرة القتال في بدايته قبل نحو سنتين ونصف.
في المرحلة التالية ستستخدم العبوات في طريق الباصات والسيارات الخاصة. ولن تكون الوسيلة الوحيدة لسفك دمنا. قبل نحو خمسة أسابيع، أطلقت صليات نارية نحو ضواحي القرية الزراعية “بات حيفر”. وفي السنة الماضي أطلقت صواريخ من جنين إلى منطقة “غلبوع”. فما يدريك أن ناراً كهذه ستكرر نفسها وبتواتر أعلى؟
قد ينتشر القتال جغرافيا أيضاً، وقد يخرج من مخيم اللاجئين إلى الطرق الرئيسة بل ويهدد المستوطنات. هو لا يزال في بدايته، وقدرات القتل الكامنة لديه واسعة وخطيرة. المدن الفلسطينية من جنوب طولكرم وجنين، وعلى رأسها الخليل، عصية على الفهم وإن كانت لا تزال بسيطرة السلطة ولهذا لا تبدو منها ظواهر كهذه، ومثلها بيت لحم ورام الله. لكن نابلس قد تعود لرفع رأسها في أي لحظة. وبدأت قلقيلية بالاستيقاظ الآن، لعلم سكان “كفار سابا”. للحمساويين وقت. انتظروا 20 سنة للحظة تتضعضع فيها السلطة الفلسطينية، كي يتمكنوا من القتال ضد الإسرائيليين من داخل أراضيها.
يثقل الجيش الإسرائيلي يده على هذه الشبكات، لكنه لا يعرف ولا يفترض أن يعرف كيف يحل تحديات كهذه بقوة الذراع وحدها. فالقوة وسيلة وليست غاية. الغاية هي الاستقرار السياسي. وعليه، فمن يعتقد بأن القتال ضد العبوات في طولكرم وجنين سيحل مشكلتها الجيش و”الشاباك” وحدهما، يحكم على مزيد من الإسرائيليين بالقتل.
ننشغل بالصغائر، في الوقت الذي تتشكل فيه المخاطر الكبرى في أماكن أخرى. بعد ذلك نتفاجأ.
لم نتعلم الدرس من 7 أكتوبر. فالدرس لا يقتصر على شرور حماس، بل ثمة ثغرات ونقاط ضعف لدينا. لن توقف إسرائيل جندياً في كل بيت، وهي غير قادرة على حماية عموم السكان. لن نتمكن من حماية بلدات الشمال وبلدات الجنوب والمستوطنات في الضفة كلها معاً طوال الوقت؛ فإما أن ينهار الجيش أو ينهار الأمن.
ثلاث جبهات تشتعل الآن، والوضع هش وخطير. أصدقاء إسرائيل حذروها من هذا الوضع. المصريون والأردنيون والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، كلهم صعدوا إلى القدس أو التقوا مندوبين كباراً في جهاز الأمن وقالوا لهم مرات: الضفة الغربية ستشتعل. استمع الجانب الإسرائيلي بأدب ولم يقلق إلا قليلاً. إذ من هم أولئك الأغيار الذين سيشوشون علينا حروب اليهود؟
معاريف / 5/7/2024