أمد/
تختلط الاوراق والتوجهات، ويعاد النظر بالخيارات والاستراتيجيات على ضوء خروج الرئيس الاميركي بايدن من حلبة التنافس الرئاسي في الانتخابات الاميركية، ورغم ان مرشحة الرئاسة البديلة ل بايدن هي من صلب الحزب الديموقراطي وهي نائبته كامالا هاريس، فان احتمال فوزها على ترامب حتى اللحظة يبدو غير مرجح، او شديد الصعوبة، لانه على مر التاريخ الأميركي، لم يسجل وصول امرأة ملونة الى البيت الابيض، ولذلك ولأسباب اخرى متعلقة بتنامي فعالية حملة ترامب بعد فشل محاولة اغتياله، ليس مرجحا وصول كامالا هاريس الى المكتب البيضاوي رغم زواجها من شخصية يهودية فاعلة. و نتيجة لكل ذلك، قد يلجأ الحزب الديموقراطي الى ترشيح شخصية رئاسية بديلا لها.
الحسابات الكبرى في دول العالم وعلى مكاتب صانعي القرارات في الازمات الدولية، تنطلق من دراسة طرق التعامل مع دونالد ترامب كرئيس اميركي تُرجَّحُ عودُته الى قيادة اميركا لمدة اربع سنوات جديدة.
ما ينفرد به ترامب بين سياسيي هذا العالم انه يقول ما ينوي ويفكر، دون تورية او تحفظ اوغموض، ورغم جلافته، وخروجه عن المألوف من اللياقات في التعبير عن السياسات والعلاقات الدولية، الا أنه يُنفِّذُ ما يَعِدُ به، ويلتزم بسياسات اعلنها وعبر عنها خلال حملته الانتخابية… لذلك يمكن معرفة ما سيفعله ترامب من خلال ما فعله في ولايته الاولى، ومن خلال ما اعلنه في حملته الانتخابية الحالية.
من حق زيلينسكي رئيس جمهورية اوكرانيا ان يرتجف هلعا من عودة ترامب، فمع ترامب في البيت الأبيض لن تتورط أميركا مباشرة في أية حرب في العالم، وستُقلِّصُ حجم تدخلاتها العسكرية المباشرة، إلى أقصى حدود ممكنة، في أي إشتباك إقليمي، كما لن تستمر أمريكا في قيادة التحالف الغربي ودول الناتو في مواجهة روسيا وبوتين، فبالنسبة لترامب لا تشكل روسيا بوضعها الراهن خطرا على أميركا، لا على المستوى العسكري الاستراتيجي، ولا على المستوى الاقتصادي، ولذلك يراهن دونالد ترامب على سياسة تنفتح على بوتين، وتستوعب روسيا ومطالبها وهواجسها، ويحاول دفعها بعيدا عن الصين، التي يعتبرها منافسا جديا وخصما اقتصاديا خطيرا.
إضافة لذلك فقد اعلن ترامب انه لا يرى ان مستقبل اوكرانيا ان تكون جزءا من حلف الأطلسي، وهو يتوافق مع بوتين حول هذه النقطة، كما اعلن بوضوح وصراحة؛ انه لو كان مكان بوتين فانه لن يكون سعيدا بتمدد حلف شمال الاطلسي الى الحدود الروسية، ولذلك فهو يتفهم قلق بوتين ومخاوفه من سياسات الناتو لتطويق روسيا،
وتندرج ضمن هذه الرؤية باقي مواقف ترامب من دول أوروبا الغربية وحلف شمالي الأطلسي، فترامب يعتقد أنه لم يعد من واجبات اميركا ان تتحمل الكلفة المالية لحفظ أمن أوروبا في مواجهة الأخطار الروسية، وعلى دول اوروبا ان تغطي بنفسها كلفة أمنها، وسيعني وصول ترامب إلى الرئاسة الأمريكية على الاقل تعثر، او على الاكثر، انقطاع الإمدادات المالية والعسكرية الأمريكية لأوكرانيا، كما سيعني اضطرار أوروبا وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على رصد موازنات دفاعية هائلة للحفاظ على تماسك أوروبي مرتجى، في وجه التفوق الروسي والتحديات الأمنية التي ستواجهها.
على خط آخر، من حق المرشد الإيراني السيد علي خامنئي أن يجزع كثيرا وأن يعيد صياغة خياراته ومبادراته! فوصول ترامب إلى الرئاسة الأميركية سيعني أفول هلال شهر العسل الأميركي الإيراني، الذي ساد العلاقات الأميركية الإيرانية خلال ولاية بايدن، والتي جرت خلالها جولات عديدة من المفاوضات الإيرانية الاميركية، في كل من دولة قطر وإمارة مسقط، ودارت جلساتها حول استعادة الالتزام بمندرجات الإتفاق النووي الإيراني مع دول الغرب، كما أنتجت سلسلة من التفاهمات السرية حول شراكة اميركية ايرانية في ادارة العراق، والافراج الاميركي عن ارصدة مالية ايرانية من العراق وكوريا الجنوبية، وعن السماح لإيران بزيادة صادراتها النفطية من ٤٠٠ الف برميل يوميا في عهد ادارة ترامب، الى مليون و ٨٠٠ الف برميل يوميا في عهد بايدن، وتم ذلك مقابل ضمان ايران لاستثمار إسرائيل لحقل كاريش في الساحل الفلسطيني، بعد الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل. كما سمح شهر العسل هذا، بمنع تحول الحرب الاسرائيلية على غزة، ردا على ” طوفان الاقصى”، الى حرب اقليمية شاملة، والى ضبط الاشتباك بين حزب الله واسرائيل في جنوب لبنان تحت سقف محدود السخونة والتصعيد.
لا يميز ترامب بين مسؤولية إيران كدولة ومسؤوليات اذرعتها وميليشياتها، فإيران مسؤولة عن اذرعتها، وهو لا يسعى في مواجهته إيران الى مواجهة عسكرية وخوض حروب مباشرة معها، بل يلجأ الى العقوبات الإقتصادية وضغط الحد الأقصى لتجفيف مواردها المالية وتعطيل تجارتها وقطع خطوط تصدير نفطها، وتجميد التحويلات والحركة المالية لارصدتها، وإخراجها من النظام المصرفي العالمي، لكنه يلجأ الى الحسم العسكري اذا اختارت ايران القيام بتهديدات أمنية او عمليات عسكرية، وهو ما لجأ اليه حين امر باغتيال الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
لن يهادن ترامب ايران ولن يقاتلها، الا اذا احرجته وجرّّته إلى تحديات مباشرة، لكنه سيحاصرها ويجفف مواردها المالية وسيمنع بقية دول العالم من التعامل المالي والتجاري معها. وستترافق هذه السياسة مع إطلاق يد إسرائيل في مواجهة ايران واذرعها وهو ما سيفتح افاق وأمد المواجهة ورقعتها بين اسرائيل وحزب الله في لبنان وسورية، ومع
والحوثيين في اليمن، وسيجعل حرب الإشغال والمساندة التي أعلنها السيد نصرالله دعما لغزة، حربا لا تنتهي مع نهاية حرب غزة، بل تدوم وتتوسع اشهرا عديدة أخرى، وتستمر فيها اسرائيل في حملة اغتيالات قاسية تطال قيادات وكوادر حزب الله و حركة حماس وضباط الحرس الثوري الايراني وحلفائهم، على أرض سورية ولبنان، و لا تنتهي هذه الحرب الا بتلبية شروط اسرائيل في ضمان أمن سكان المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة، وإعادة انتشار مقاتلي حزب الله بعيدا عن الخط الأزرق لجهة الشمال.
وقد مهد نصرالله لهذا التنازل والخضوع للشروط الاسرائيلية حين اعلن ان وقف اطلاق النار في غزة سيعني من جانبه وقفا لاطلاق النار من الجنوب اللبناني، وان الحكومة اللبنانية هي المخولة التفاوض للتوصل لاتفاق مع اسرائيل وضمان استقرار الحدود مع العدو.
لكن اخطر ما سينتج عن وصول ترامب الى البيت الابيض هو تأييد أميركا لليمين الإسرائيلي في أجندته لتهويد الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان فيها وفي تعميم إطار اتفاقات ابراهام، التي ادت وتؤدي الى تطبيع علاقات الدول العربية مع كيان العدو، واسقاط حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧ .
وفي مطلق الأحوال فإن انسحابا اميركيا من سورية سيكون على جدول اعمال الادارة الاميركية العائدة، وهو خيار يفسر السعي المستجد لترتيب العلاقات التركية مع نظام الاسد، والانسحاب اذا حدث سيكشف ظهر القوى الكردية في تركيا والعراق وسورية.
ثلاثة شعوب ستدفع ثمن إعادة ترتيب خريطة المنطقة ورسم توازنات جديدة فيها؛ الأكراد والشعب الفلسطيني ولبنان.
ولن تستقر منطقة الشرق الأوسط في ظل ثنائي ترامب في اميركا ونتنياهو في اسرائيل، بل ستذهب الى المزيد من المغامرات والحروب والمآسي، وسيكون لبنان مجددا مختبرا لتوليد الأزمات المتفاقمة، وصندوق بريد لتبادل الرسائل الملتهبة، والحماقات الفئوية المتبادلة…
نشرته “جنوبية” في ٢٣/٧/٢٠٢٤