أمد/
لماذا يشكل امن اسرائيل قضية عالمية، بحيث يتسابق سياسيو العالم اجمع، لتأكيد التزامهم بأمن هذ الكيان في كل مناسبة، وفي كثير من الأحيان بغير مناسبة!؟، ففي معرض قيام قادة العالم باستنكار مجازر الأطفال والنساء التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، كان التأكيد على الحفاظ على أمن اسرائيل جملة وموقفا، يستبق العطف الدولي على اطفال فلسطين!، وفي معرض المطالبة التي اجتاحت العالم، بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، على حدود الخامس من حزيران ١٩٦٧ ، كان التأكيد على “امن اسرائيل” لازمة تردد في كل المواقف و حتى في التصريحات التي كانت تندد بجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية في الحرب الممتدة منذ عشرة أشهر على غزة…
لا يقتصر الإجماع العالمي على التسليم والالتزام ب ” أمن إسرائيل” ككيان ومجتمع فقط؛ بل يمتد ذلك الى سلامة اي فرد اسرائيلي يتعرض لخطر او إصابة او عنف سواء كان داخل الكيان ام في اي بقعة من العالم، فقيمة الفرد اليهودي، في وسائل الإعلام العالمية، ومنتديات السياسة والاستراتيجيات الدولية تعلو على قيمة اي انسان آخر، وتفوق سلامته سلامة اي مخلوق بشري على وجه المعمورة.
على اساس الأولوية المطلقة لأمن إسرائيل كياناً، ولسلامة اليهود افرادا، تتصرف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ تأسيس الكيان، وقد يكون الأمر مفهوما، وعلى نفس الأساس أيضا تتصرف حكومات العالم الغربي ونخبها الإعلامية والثقافية في كل أزمة او خلال أية حرب او مواجهة تنخرط بها اسرائيل، وهو امر ليس مفهوما ويثير العجب والغضب معا!…
من الطبيعي ان يغضب الفلسطينيون والعرب وبعض المسلمين من هذا الواقع الخطير، الذي جعل من اسرائيل استثناء في العلاقات الدولية، والذي مكَّنها من خرق القوانين والقرارات الدولية، وارتكاب أبشع أنواع جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومن إستدامة الإحتلال الإستيطاني وممارسة نظام التمييز العنصري، لكِنَّ الغضب المشروع هنا لا يعفي هؤلاء، من دراسة الظاهرة ومحاولة تفكيكها تمهيدا لمواجهتها.
يتصرف اليهود على انهم “شعب الله المختار” وان الله فضلهم على غيرهم من البشر، وان الله قد خلق هؤلاء الأغيار ( غوييم) كي يقوموا بخدمتهم، ولذلك تقوم إسرائيل بتوزيع المهمات على دول العالم، وتكلفها بخدمة مخططاتها، وتوكل إليها المساهمة بحل أزماتها، وتطلب منها قتال اعدائها، وتعتبر ان تأمين تمويل حروبها أمر بديهي، وان تسليحها واجب على الغرب لا يمكن نقاشه، كما يعتقد غالبية اليهود وتتم تنشئة اجيالهم على ذلك؛ بأن الله قد فوضهم واباح لهم استباحة ممتلكات الأغيار ونساءهم وأطفالهم، ولذلك فان ما يفعلونه منذ وعد بلفور ليس الا جزءا من نصوص وطقوس دينية وردت في أسفارهم.
وإنْ كانت هذه صورة وجدان اليهود ووعيهم الجمعي عن أنفسهم، وهي صورة تعكس نرجسية جماعية ونزعة عنصرية عدوانية، فلماذا تتصرف بقية دول الغرب والعالم بنفس الوجهة!؟ وتوائم إجراءاتها وسياساتها مع متطلبات يهود إسرائيل وحكوماتها؟. ومفتاح الجواب هو صورة الضحية
فقد نجح المشروع الصهيوني في تلبس جلد الضحية، واستغلال عقدة ذنب الأوروبيين، الناتجة عن ممارسات معاداة السامية من قبل اسلافهم، والتي سادت دول اوروبا على مدى عقود طويلة، وقد تم خلالها عزل اليهود واضطهادهم، وقد ظهرت معاداة السامية في ثلاث فئات الأولى: «معاداة السامية القديمة التي كانت ذات طابع عرقي، والثانية معاداة المسيحية للسامية ذات النزعة الدينية فمنذ اعتماد المسيحية في أوروبا، كانت معاداة السامية موجودة وحاضرة تاريخيًا، والثالثة معاداة السامية العنصرية، فبعد ظهور الثورات العلمية والصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر ظهر مظهر جديد من مظاهر معاداة السامية، التي قامت على العرق والدين على حد سواء. وقد بلغت ذروتها في أحداث الهولوكوست التي وقعت أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي اتخذت اسم المحرقة النازية التي يجري استحضارها في كل ازمة او سجال او حوار.
تتلبس اسرائيل جلد الضحية، وانها كدولة بنتٌ شرعيةٌ للمحرقة، وتصور نفسها معرضة لخطر الابادة، او لتهديد الوجود، وتُعظِّمُ قوة اعدائها، وتخترعُ لهم اسلحةً لا يملكونها، ومهاراتٍ لا يجيدونها، وتصور سكانها ومجتمعها على حافة الانهيار والزوال والتفكك، وعلى انها شعب صغير مُطوَّقٍ بمئات الملايين من العرب والمسلمين، هكذا جعلت غولدامائير ولادة طفل فلسطيني كل سبع دقائق سببا لكي لا تنام ليلا، و صور بيغن العراق بلدا يمتلك أسلحة دمار شامل، واعلن نتنياهو ان حزب الله وحركة حماس يشكلان خطرا استراتيجيا وجوديا على اسرائيل…
والحقيقة البسيطة ان ولادة الأطفال في فلسطين ليست خطرا على احد، وان أسلحة الدمار الشامل في العراق ليست إلا كذبة وذريعة استعملت لتدمير العراق وإحتلاله، أما خطر حماس وحزب الله، فهما لا يشكلان الا تهديدا امنيا فقط وليس خطرا وجوديا او استراتيجيا على اسرائيل، والتهديد الأمني هذا قادرة اسرائيل على مواجهته تارة واستيعابه تارة أخرى وبقدراتها الذاتية…
الخطر الوجودي الحقيقي على اسرائيل هو الشعب الفلسطيني الذي يحتفظ يحقوقه الوطنية الثابته وينتزع حقه في تقرير مصيره على ارضه.
تبتز اسرائيل شعوب الغرب وحكوماته، بعقدة ذنب عن ممارسات تجاه اليهود قام بها اسلافهم، وتهدد هذا الغرب، بإمكانية تكرارها عن طريق تعظيم قدرة اعدائها، وبواجباته تجاهها، لمنع تكرار “محرقة يهودية” جديدة مزعومة، تلعب زورا دور الضحية فيها، فيما تمارس في نفس الوقت امام العالم اجمع، جرائم الوحش الذي لا يهاب ارتكاب جرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي والاجلاء القسري للسكان وتجويع المدنيين والمرضى…
تطرب بعض الجهات الفلسطينية والاسلامية لهذه المبالغات الصهيونية وتستشهد بها لكي تقنع تابعيها انها تبلي في هذا الصراع بلاء حسنا، وأنها على وشك تحقيق الأنتصار والصلاة في المسجد الاقصى!
لذلك تتبدى صورة أنصار الممانعة وتابعيها، على الضفة الاخرى، كمأساة ومسخرة في الوقت نفسه، فهم مقتنعون ان إسرائيل مذعورة منهم، في واقع ان اسرائيل اغتالت اسماعيل هنية في مركز الحرس الثوري الايراني في طهران، كما اغتالت ارفع قيادة عسكرية لحزب الله محسن شكر بعد دخوله مكتبه السابق ب ٩ دقائق، ويترافق ذلك مع قيام زجالي الممانعة بملئ الشاشات وموجات الاثير بتهديدات جوفاء حول توقعاتهم بتدمير شمال اسرائيل او قصف مفاعل ديمونا او مرفأ حيفا، ويبقى هذا الكلام كلاما، لأن ايران لن ترد على اغتيال هنية في عاصمتها ردا حقيقيا، وهي تبحث عن رد لا يأخذها الى حرب مع إسرائيل، ونتنياهو سيستعمل هذا الرد حتى ولو كان شكليا وضعيفا لكي يجر ايران الى حرب مع اميركا، ولذلك ليس من رد ايراني جدي…
وأما رد حزب الله فلن يكون بمستوى خسائره الكارثية في كوادره وقياداته، وحفلة التفشيط والعنتريات هي لمداواة وجدان جمهوره، الذي زيف وعيه، واقنعه انه متفوق على اسرائيل، فيما الميدان يظهر عكس ذلك…
اما في الوقائع على الارض، فقد تم الاكتفاء بصور الهدهد ردا على حشد الاساطيل وحاملات الطائرات الأمريكية والقواعد الاجنبية لمنع وصول اية قذيفة الى نطاق إسرائيل.
بعد ثلاثة أشهر من عملية “طوفان الأقصى” كانت الصورة صراعا بين شعب فلسطين وجيش اسرائيل، كانت غزة الجريحة هي الضحية واسرائيل مجرمة حرب تستدعى الى محكمة العدل الدولية، وتصدر بحق حكامها مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، وتمتلئ ساحات عواصم العالم بالمتظاهرين دعما لفلسطين، فيما اسرائيل تفقد هيبة جيشها وتخسر قدرتها على الردع…
اما الصورة اليوم، وبعد ان تحول الصراع الى مواجهة بين اسرائيل وايران واذرعتها، فقد إستعادت اسرائيل صورة الضحية التي يهب الغرب لنجدتها، كما إستعادت هيبة جيشها وقدرتها على الردع…
كلما واجهت اسرائيل شعب فلسطين دخلت في ورطة، لا يخرجها منها الا عنتريات جوفاء وحماقات كارثية تقف وراءها ايران…