أمد/
غزة: كانت رنا أبو نصيرة تستخدم تطبيق "جوجل مابس" Google Maps أثناء تنقلها في قطاع غزة لتجنب الغارات الجوية الإسرائيلية؛ بحثاً عن منزلها الذي اضطرت إلى تركه.
ولم تكن أبو نصيرة، البالغة من العمر 37 عاماً، تعلم أن صور التطبيق لا تُحدث لحظياً، لكنها شعرت بالاطمئنان عندما رأت أن المنزل الذي كانت تعيش فيه مع زوجها وابنها قد نجا من الفوضى والقصف في الحرب، التي تخوضها إسرائيل على غزة، لكنها عندما وصلت إلى الموقع، وجدت المنزل، مدمراً بالكامل.
لم يتبق من منزل أبو نصيرة، سوى شجرة واحدة في الحديقة. وقالت: "لقد شعرت وكأن هذا ليس حيّنا، هذا ليس شارعنا أو منزلنا. كان الأمر جنونياً".
وتتكرر هذه القصة في جميع أنحاء جنوب القطاع، عندما تتمكن الأسر من مغادرة المخيمات والعودة إلى ممتلكاتهم، ولو لفترة وجيزة، خلال فترات توقف القتال، وفق "بلومبيرغ".
وتفرض إسرائيل تفرض قيوداً على الوصول إلى المناطق الواقعة شمال "ممر نتساريم"، وهو طريق عسكري بنته إسرائيل في مارس الماضي، لتتمكن من مواصلة سعيها إلى تحقيق هدفها المُعلن المتمثل في العثور على مقاتلي "حماس" والبنية التحتية للحركة؛ رداً على الهجوم الذي شنته الحركة في 7 أكتوبر الماضي.
وأفادت تقارير منظمات دولية وإغاثية، بأن 70% من المباني السكنية في غزة، المنهكة بالفعل من صراعات سابقة، تعرضت لأضرار، وكذلك المدارس والمستشفيات والشركات.
وتقول وكالات الإغاثة، إن معظم سكان غزة، البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، نازحون ويكتظون في مساحة صغيرة من القطاع على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث قُطعت عنهم إمدادات المياه العذبة، والغذاء، والأدوية، ومرافق الصرف الصحي الأساسية.
وفي خضم كل هذا الدمار الناجم عن الحرب الإسرائيلية على القطاع، لقي أكثر من 40 ألف شخص حتفهم في غزة، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.
وإلى جانب محادثات وقف إطلاق النار التي استؤنفت، الخميس الماضي، في العاصمة القطرية، الدوحة، تجري أيضاً مناقشات رفيعة المستوى بشأن عملية إعادة الإعمار، نظراً إلى حجم الدمار.
42 مليون طن من الأنقاض
وحتى الآن، خلفت الغارات الجوية الإسرائيلية أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض في قطاع غزة، وفقاً للأمم المتحدة. وهذا الحجم من الركام يكفي لملء صف من شاحنات النفايات يمتد من نيويورك إلى سنغافورة، بحسب "بلومبرغ".
وقد تستغرق إزالة هذه الأنقاض، سنوات، وتكلف ما يصل إلى 700 مليون دولار، بحسب "بلومبيرغ". وتزداد صعوبة المهمة بسبب وجود قنابل لم تنفجر، وملوثات خطيرة، وبقايا بشرية تحت الأنقاض.
وتتكون غالبية الأنقاض من مساكن مدمرة منتشرة في جميع أنحاء القطاع، ما يعكس كثافة السكان في غزة قبل الحرب. وسيتعين إزالة ما لا يقل عن 8.5 مليون طن من الأنقاض في خان يونس، حيث تقع بني سهيلا التي كانت تعيش فيها عائلة أبو نصيرة.
وكانت خان يونس تنتج معظم الفاكهة الحمضية في غزة، بما في ذلك البرتقال والجريب فروت. أما الآن، أصبحت بساتينها وحقولها خراباً، إذ دُمر ما لا يقل عن نصف الأراضي الزراعية في القطاع، ما أدى إلى انهيار القطاع الزراعي. وسيستغرق التعافي من هذا الانهيار سنوات، وفقاً لمؤسسة جذور للإنماء الصحي والاجتماعي، وهي جمعية خيرية محلية تتعاون مع منظمة "أوكسفام".
وذكرت "بلومبيرغ"، أن الوضع في شمال غزة أكثر خطورة. فقد تعرضت مدينة غزة، التي كانت أكبر مركز حضري في فلسطين، والمناطق المحيطة بها لأضرار جسيمة، وتشكل أكثر من نصف أنقاض القطاع.
وقالت الوكالة، إن إعادة بناء غزة وحياة سكانها سيتطلبان إعادة هيكلة شاملة للبنية التحتية الأساسية بأكملها، وإيجاد حل سياسي لتحديد الشكل الجديد للقطاع. ولكن قبل أن يحدث أي من ذلك، ستكون الأولوية لجمع وإزالة كل الركام بعد انتهاء الحرب، لكن هذه العملية ستزداد تعقيداً بسبب صعوبة العثور على مواقع للتخلص من الأنقاض الملوثة.
وقد تصل تكلفة إعادة إعمار غزة إلى أكثر من 80 مليار دولار، عند أخذ النفقات الخفية، مثل التأثير طويل المدى على سوق العمل الذي دمره الموت والإصابات والصدمات، في الاعتبار، بحسب دانييل إيجيل، وهو خبير اقتصادي كبيير في مؤسسة "راند" RAND في كاليفورنيا.
وقال إيجيل: "يمكنك إعادة بناء المبنى، ولكن كيف تعيد بناء حياة مليون طفل؟". ولم يتضح بعد من سيتحمل تكاليف عملية إزالة الأنقاض من القطاع وإعادة بنائه، وفق "بلومبرغ".
تكلفة باهظة لإعادة الإعمار
قال مارك جازومبيك، أستاذ تاريخ العمارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي درس إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، لـ"بلومبرغ": "ما نراه في غزة هو شيء لم نشهده من قبل في تاريخ التمدن". وأضاف: "ليس الأمر مجرد تدمير للبنية التحتية الأساسية، بل هو تدمير لمؤسسات الحكم الأساسية والشعور بالحياة الطبيعية".
وأضاف جازومبيك: "تكلفة إعادة الإعمار ستكون باهظة. مواقع بناء بهذا الحجم يجب أن تكون خالية من الناس، ما سيؤدي إلى موجة نزوح جديدة. وبغض النظر عما سيتم فعله، غزة ستعاني من ذلك لأجيال".
وكان اجتماع للدول المانحة والجمعيات الخيرية العالمية في مدينة رام الله بالضفة الغربية في 12 أغسطس الجاري، بمثابة نقطة انطلاق للجهود المبذولة لتوفير المساعدات المالية.
وناقش الاجتماع، الذي نظمه برنامجا الأمم المتحدة الإنمائي والبيئي والسلطة الفلسطينية، ما يجب القيام به لاحقاً.
وقال وزير الأشغال العامة والإسكان الفلسطيني، عاهد بسيسو، للصحافيين، بعد الاجتماع، إن وضع خطة الآن لإزالة الأنقاض "أمر بالغ الأهمية"؛ حتى يمكن بدء العمل بمجرد انتهاء القتال.
ونقلت "بلومبيرغ"، أن الصراعات "أمر مألوف" بالنسبة لغزة، فقد خاضت حركة "حماس" 4 حروب أخرى مع إسرائيل منذ عام 2007، عندما استولت على السلطة في القطاع من حركة "فتح"، منافستها التي تقود السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. ولكن هذه الحرب هي الأطول والأكثر تدميراً حتى الآن.
وبعد جولات القتال السابقة، كانت دول الخليج، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، واليابان ضمن الجهات المانحة التي تعهدت بتقديم الأموال لمساعدة غزة على التعافي، لكنها لم تلتزم دائماً بذلك.
وكانت قطر من أكبر الداعمين لغزة، إذ استثمرت بشكل مباشر في الطرق، والمستشفيات، والمجمعات السكنية، بالإضافة إلى المشروعات الزراعية والبنية التحتية، وقدمت منحاً بلغت مئات الملايين من الدولارات على مدى 10 سنوات.
لكن الأطراف الرئيسية أبدت تردداً في المساهمة مرة أخرى دون مسار تفاوضي لحل سياسي ينهي دائرة العنف.
وتجري نقاشات مكثفة بشأن ما ستتضمنه هذه الجهود، بالتزامن مع محادثات وقف إطلاق النار التي تجري بوساطة قطر ومصر، ومناقشات لخفض التوترات مع إيران وجماعة "حزب الله" اللبنانية.
خطة شاملة
وتدعو الدول العربية ودول أخرى، إلى وضع خطة شاملة لقطاع غزة فور انتهاء الحرب، تهدف إلى إنشاء دولتين، وإسناد الحكم للسلطة الفلسطينية، فيما تضغط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على الحكومة اليمينية في إسرائيل، والتي تعارض السيادة الفلسطينية ولا تريد التخلي عن السيطرة على الأمن، من أجل إبداء مزيد من المرونة.
وفي رام الله، يعمل مسؤولو السلطة الفلسطينية منذ أشهر على وضع خطط لإعادة إعمار غزة، وقدموا رؤيتهم للمجتمع الدولي في بروكسل في مايو الماضي، ويحاولون منذ ذلك الحين حشد الدعم.
وعلى الرغم من تهميشها في غزة منذ استيلاء "حماس" على السلطة قبل 17 عاماً، لا تزال السلطة الفلسطينية تدفع حوالي 40% من الإنفاق الرسمي للقطاع، مثل رواتب ومعاشات الموظفين المدنيين، بالإضافة إلى الخدمات مثل المياه والكهرباء، التي تسيطر عليها إسرائيل إلى حد كبير.
وقامت السلطة الفلسطينية أيضاً، بتنسيق جهود إعادة الإعمار، بعد الحروب السابقة، بالتعاون مع المؤسسات الدولية، ومنظمات الإغاثة، ومختلف الوكالات التابعة للأمم المتحدة. ويُرجح أن يكون هذا هو الحال هذه المرة أيضاً.
ويتعين على جميع الأطراف الاتفاق على مُخطط لإعادة الإعمار، وخاصة إسرائيل التي منعت دخول ما يسمى بالمواد ذات الاستخدام المزدوج، وهي أي شيء يمكن أن يساعد "حماس" في بناء الأنفاق أو الأسلحة، إلى القطاع منذ عام 2007.
وقال وزير الأشغال العامة والإسكان الفلسطيني، عاهد بسيسو لـ"بلومبرغ": "نأمل في انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة".
وأضاف: "نحتاج إلى التحرك بحرية والسيطرة على حدودنا للسماح بدخول المواد إلى غزة، ونأمل ألا تمنع إسرائيل دخولها".
وعند سؤاله عن إزالة الأنقاض، قال متحدث باسم منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وهي هيئة تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، لـ"بلومبرغ"، إن الهيئة تركز حالياً على تسهيل تقديم المساعدات. وقال مسؤولون إسرائيليون، إن الوقت لا يزال مبكراً للتعليق على إعادة الإعمار.
وتنطوي خطة السلطة الفلسطينية على تفكيك جميع الذخائر غير المنفجرة بمجرد الحصول على الضوء الأخضر لبدء عملية إعادة الإعمار.
وبعد ذلك سيتم تطهير الطرق للسماح بالوصول إلى مواقع الإقامة المؤقتة التي لم تُبْنَ بعد. وأوضح بسيسو، أن كل تجمع سكني سيحتوي على مدارس، وملاعب، ومكاتب حكومية، وسيتم إنشاؤها عندما تتوفر الأموال بالقرب من المراكز الحضرية المدمرة "حتى يتمكن المواطنون من المساعدة في عملية إعادة الإعمار". وفي الوقت نفسه، ستبدأ عمليات إزالة الأنقاض.
وبعد الحروب السابقة، كان الناس يميلون إلى البقاء مع العائلة أو استئجار عقارات أثناء إعادة بناء منازلهم. لكن حجم الدمار يجعل ذلك غير ممكن هذه المرة.
وتشعر وكالات الإغاثة بالقلق، إزاء قيام أشخاص مثل أبو نصيرة وعائلتها، بإزالة الأنقاض بأنفسهم والعيش في منازل مؤقتة غير آمنة.
وفي اجتماع 12 أغسطس، أكدت تشيتوس نوجوتشي، وهي مسؤولة رفيعة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي المكلف بدعم الشعب الفلسطيني، مدى تعقيد عملية إزالة الأنقاض.
وقالت نوجوتشي، إن البرنامج لديه خبرة واسعة في غزة، ولكن نظراً لعدد الجثث المدفونة تحت الأنقاض، والتي يبلغ عددها نحو 10 آلاف، وفقاً للأمم المتحدة، والذخائر غير المنفجرة، فإن "هذه المرة مختلفة تماماً" وتتطلب أساليب جديدة للعمل.
وتقول الأمم المتحدة إن هناك حاجة إلى آلاف الأشخاص لجمع الأنقاض والتخلص منها، وإنه لا توجد قوة عاملة كافية للعمل في غزة وأوكرانيا في وقت واحد. لذا بدأت في تدريب أشخاص في الأردن.
وتُعد الأنقاض بيئة مثالية لذباب الرمل الذي يمكن أن ينشر داء الليشمانيات، وهو مرض جلدي طفيلي قد يؤدي إلى الموت إذا تُرك دون علاج. كما تعشش العقارب الصفراء والأفاعي في الشقوق الصخرية.
وهناك أيضاً الأسبستوس، وهو مادة تُستخدم على نطاق واسع كعامل عزل. ويقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن حوالي 2.3 مليون طن من الأنقاض في غزة تحتوي على هذه المادة. ويحظر استخدام هذه المادة في عشرات البلدان، إذ يمكن أن تطلق جزيئات محمولة بالهواء تسبب أنواعاً متعددة من السرطان.
وتشكل المواد الخطرة التي خلفتها المستشفيات المتضررة مصدر قلق آخر.