أمد/
نحتاج بشكل ملحّ إلى التقاط رسائل خطيرة، تطلقها أعاصير حرب دموية، تفتقر إلى كوابح، ويكثر فيها العمل السياسي، وذات أكلاف بشرية ومادية عالية، وقد تصل إلى حد إعادة رسم خرائط، في ظل نظام دولي مضطرب، وانحدار في قوة الغرب، وشلل في النظام الإقليمي العربي، وعجز في حماية الأمن القومي، وتدهور فعالية المؤسسات الأممية، وصعود لتيارات اليمين المتطرف والعنصرية، وسقوط لقواعد رئيسة في النظام الدولي.
أعرض لاجتهاد قراءات لعدد من رسائل هذه الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، وتشنها دولة غير طبيعية، تملك قوة تدميرية هائلة، وأذرعاً طويلة منفلتة:
أولاً: أسقطت الحرب على غزة والضفة الغربية المحتلة، كل الأقنعة الزائفة والمخادعة، عن وجه مشروع الدولة الإسرائيلية وطبيعته، وانكشف كمشروع استعماري استيطاني إحلالي توسعي، يتماهى فيه العلماني واليميني الديني، ومؤسس على نهج قوامه الردع المدني الوحشي، والغطرسة، والتهجير والإبادة والتطهير العرقي، ورفض حل الدولتين، والإفلات من المساءلة والعقاب الدولي، وعدم احترام قواعد القانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية ذات الصلة بمسؤولية القوة المحتلة تجاه السكان المدنيين، وقد أدى هذا الإفلات من العقاب، إلى تنامي ظواهر «الغطرسة» والتوحش والخداع، المختلطة بتعقيدات سيكولوجية مشبعة بأساطير وتأويلات توراتية، وبقناعات في حروب «أبدية».
وفي ضوء هذه القراءة، فإن قوس حرب الإبادة مفتوح على الغارب، وكذلك سيناريوهات التهجير والنزوح القسري، ولم تعطلها مفاوضات مكوكية ووساطات ومناشدات وتظاهرات، ولا حتى عمليات مسلحة لقوى غير دولاتية مساندة للفلسطينيين المعرضين للإبادة والتجويع، وفي ضوء هذا المشهد المقلق، فإن فرص التصعيد الإقليمي للحرب، تتزايد، كلما سُدَّت آفاق وقف الحرب، وكلما واصلت إسرائيل نهجها في «الغطرسة» وفي إزالة الأساس الموضوعي لإقامة وبناء دولة فلسطينية مستقلة.
ثانياً: هناك مخاطر داهمة، تتفاعل مع استمرار هذه الحرب، خاصة مع تبني إسرائيل لاستراتيجية إعادة احتلال غزة، واعتبار الضفة الغربية مسرحاً للقتال، تحت ذرائع واهية، وعودتها إلى سياسة الجرافة والهدم والقتل والتهجير لمخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، فضلاً عن ارتفاع منسوب عنف وإرهاب وتهديدات اليمين المتطرف وحركة الاستيطان المسلحة، تجاه القرى الفلسطينية، والقدس ومقدساتها، وكل ذلك سيشكل وقوداً لحالة دائمة من الحرب وردود الفعل والمعاناة الإنسانية، واهتزاز في صدقية ومناعة اتفاقيات وتفاهمات، نجحت إسرائيل وأمريكا في زمن مضى في نسجها مع مصر والأردن، ذات صلة بالحدود والمعابر والأغوار والقدس واللاجئين، ومصالح متبادلة..الخ.
ثالثاً: رغم قدرات إسرائيل العسكرية والتكنولوجية الهائلة، وما تملكه من سلاح نووي، فإنها غير قادرة على حماية نفسها، من غير دعم غير محدود، وغير مشروط من أمريكا وشركائها الكبار في أوروبا وأماكن أخرى من العالم.
ويمكن القول إن أهداف داعمي إسرائيل، هو أن تبقى الحرب محصورة في غزة، وتوفير حصانة أمنية وسياسية واقتصادية كاملة لإسرائيل، وأن يتعمق مسار تفكيك القضية الفلسطينية، والحيلولة دون انفجار حرب إقليمية موسعة. من ناحية أخرى، فإن استعادة إسرائيل لعنصر الردع، ليس أمراً سهلاً، أو حتى ممكناً في المرحلة القادمة، وقد جربته إسرائيل في غزوها لبنان عام 1982، وفشلت فيه، وجربته مراراً في جنوب لبنان وغزة، لكن من المؤكد أن كل الأطراف المنخرطة في هذه الحرب، بشكل أو بآخر، تستخدم الآن، وغداً ما يسمى ب «التوظيف الفعلي للقوة» التي يملكها كل طرف.
رابعاً: إن شبح الحرب الإقليمية، يخشاه كثيرون في عالمنا العربي، فضلاً عن روسيا والصين وإيران وغيرهم، ولكلٍ أسبابه ومخاوفه ومصالحه، وفي حالة إيران، فإنها تدرك تماماً مخاطر انخراطها في حرب إقليمية، على اقتصادها وبنيتها التحتية النفطية، وصناعتها النووية والصاروخية والتكنولوجية ولا ترغب أن تخاطر بسلامة حلفائها في الإقليم العربي، وستظل حريصة على جمع المزيد من أوراق الضغط لمساومة الغرب، وحتى منافسيه، في حروب النفوذ والطموح والمصالح الحيوية، وضمن سياق واسع لعالم يتجه نحو التعددية القطبية، وفي الوقت نفسه، فإن قراءة متعمقة لمنهج التفكير الاستراتيجي الإيراني، تشير إلى أن إيران هي مع حرب استنزاف طويلة الأمد مع إسرائيل، وفق نظرية عسكرية كلاسيكية، مبنية على «القتل بألف طعنة» ومؤسسة على قواعد نهج يشمل عناصر «البراغماتية والتقية والصبر الاستراتيجي، والربح الآجل».
ومن ناحية أخرى، يمكن القول إنه لا حرب حتى الآن، ستنتهي بالضربة القاضية، وإنما الفوز فيها سيحسب بالنقاط.
وفي المحصلة، فإن إيران، في ظل منحى فوضوي في البيئة الدولية، وظلال كثيفة على المسرح الإقليمي، فإنها ستميل أكثر نحو البراغماتية، مع قليل من «الأيديولوجية» وستعمل على فتح نوافذ كثيرة في عالم اليوم.
خامساً: تبقى قراءة إضافية تتعلق «بالكيانية الفلسطينية» وبمجموعة النظام الإقليمي العربي، الرسمي والمؤسسي، والسؤال المركزي هو، هل سيغير (طوفان الأقصى) وتداعياته، مسار العمل الفلسطيني، ويرمم الانقسام الكارثي فيه، وهل سيُغرق اتفاق أوسلو، بعد أن نسفته إسرائيل عملياً وعلى الأرض، طوال العقود الثلاثة الماضية، وهل سيحدث انعطافة مغايرة مثمرة، تعيد القضية الفلسطينية إلى جذرها الأساس؟، أم أن المآلات كالحة، وشلالات الدم ستتواصل؟.
من ناحية أخرى، لا يبدو حتى الآن، أن مجموعة النظام الإقليمي العربي، بصدد تطوير استراتيجية جديدة، عملية وفعالة، للتعامل مع تطورات القضية عربياً، ودولياً، وفي ضوء المتغيرات الجارفة في الإقليم والعالم؟
الجميع في عين العاصفة.. في زمن يتراقص فيه العالم، على شفا حرب نووية تكتيكية محدودة، وتحكمه بوصلة أخلاقية ملتوية، وتديره رؤوس حامية لا مكان فيها للحكمة وللسلام العادل.