أمد/
تعيش منطقة المشرق العربي، بما فيها الدول المحيطة مثل إسرائيل وإيران وتركيا، في حالة من الانحباس داخل متواليات لا تنتهي، من الأفخاخ والمآزق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأزمات تتراكم وتتشابك بمرور الوقت، مما يزيد من تعقيد الوضع ويصعب إيجاد حلول لها. ومع كل أزمة جديدة، يزداد الغموض حول المستقبل، حيث تبدو آفاق الحلول مغلقة أو بعيدة المنال. هذه الحالة من الانحباس، تزيد من حالة القلق والتوتر في المنطقة، وتجعل منها ساحة معقدة للصراعات والمنافسات، التي لا يبدو أنها ستنتهي في القريب العاجل.
ويعيش لبنان وسط هذه الأزمات، فاقداً لمقومات قراره الوطني وسيادته الوطنية، وفي ظل انعدام أية فاعلية لمؤسساته الدستورية، نتيجة غياب رئيس منتخب للجمهورية، وحكومة فاعلة تتمتع بصلاحيات كاملة.
يعيش لبنان وسط هذه الأزمات، فاقداً لمقومات قراره الوطني وسيادته الوطنية
فبعد ١١ شهر من بدايتها تبين بشكل واضح وجلي، أنه كان لا لزوم لمعركة الإسناد ولا فائدة منها لغزة، فقد كان الجنوب يعيش بأمان واستقرار، وتسير الامور فيه، بشكل جيد ومقبول مع قوات “اليونيفيل” الدولية والجيش اللبناني، وكان “حزب الله” موجودا بين الأهالي، و متغلغلا بشكل مستور في القرى والأودية، يحتفظ بجاهزيته العسكرية دون الإعلان عنها او الاعتراف بها، ولم يكن الوضع الجنوبي مأزوما قبل المغامرة غير المحسوبة، التي زج “حزب الله” نفسه بها، وزج معه اهل الجنوب وشعب لبنان، والتي أنتجت كارثة لا نهاية لها.
على العكس تماما، فقد كانت الاتصالات الاميركية والدولية مع لبنان، وحتى الاشهر الثلاثة الاولى من إندلاع الحرب في غزة، كانت هذه الاتصالات تندرج في إطار إنجاز إظهار للحدود البرية، وإزالة الخروقات الإسرائيلية على الحدود الدولية، التي رسمتها واقامتها اتفاقية الهدنة بين لبنان واسرائيل سنة ١٩٤٩.
ولا يشكل النقاش حول جدوى معركة الإسناد لغزة، تقليلا من حجم التضحيات ولا انتقاصا من قيمة أرواح الذين ماتوا، وهو ليس نقاشا في االتاريخ و الماضي، او تنصلا من موجبات التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني، ومن الانحياز لمطالبه في الحرية وإنهاء الاحتلال وتقرير المصير، بل أن النقاش واجب وضروري وملح حول الخيارات والسياسات والمصالح:
ما فائدة حرب الإسناد لغزة وشعب غزة، لا شيء، هل منعت حرب الاسناد اسرائيل من ارتكاب ( كل اي جميع) جرائمها الجواب لا والفائدة صفر…
ما هي مصلحة لبنان بهذه الحرب وما هي تكلفتها على الاقتصاد و الاستقرار والازدهار؟! الجواب كارثية.. والمحصلة خسائر جسيمة تصل الى مليارات الدولارات…
ماهي اثار هذه الحرب على الجنوب وشيعة لبنان؟ الجواب دمار وتهجير وضياع جنى اعمارهم، وخراب قراهم وبيوتهم، وتحميل شيعة لبنان منفردين وزر وتداعيات ومآسي قضية فلسطين، التي يجب ان يتحملها مجمل الدول العربية وأغلبية الدول الاسلامية …
لمصلحة من هذه الحرب وما هي عائداتها؟ والجواب : هي حرب لمصلحة ايران لكي تنتزع مقعد تفاوض مع اميركا، على حساب دماء شباب الشيعة في لبنان، بعد ان اخذت موقف الابتعاد والتنحي وتهربت من اية مواجهة! في الوقت الذي انتهكت اسرائيل سيادتها وهيبتها، مرة في سفارتها في دمشق واخرى بتدميرها الدفاع الجوي، الذي يحمي المنشأة النووية في ناطنز، ومرة ثالثة باغتيال اسماعيل هنية، ضيف رئيس جمهوريتها في عاصمتها طهران، ويضاف الى كل هذه التحديات، مرة رابعة تشير لاحتمال أن تكون اسرائيل ايضا، وراء تحطم طائرة الرئيس الإيراني الراحل ابراهيم رئيسي…
لا توازن رعب بين اسرائيل و”حزب الله”، ولا تكافؤ في القدرة على الرد بنفس الزخم والفاعلية، ولا تعادل في القوة النارية، فكل ضربة خفيفة يضربها “حزب الله”، تواجهه اسرائيل باضعاف الضربات عددا وعنفا ودمارا
فقد أكدت إسرائيل، وعلى لسان رئيس أركانها بالتوجه شمالاً، لتنفذ تدمير بنك أهدافها المحدد، وتضرب بعنف أشد من السابق، عمق جبهة “حزب الله” ومكامن صواريخه، ومستودعات ذخائره وأسلحته وخطوط إمداداته، مستغلة انكشافه المخابراتي الذي حققته عبر حربها التقنية، واستعمال الذكاء الاصطناعي والاستعلام البشري عليه وعلى كل محور إيران.
“حزب الله” يتلقى الضربات، ويبدو أنه بفعل نجاح إسرائيل في ضرباتها الاستباقية، لم يعد يستطيع التعامل برد الفعل بذات الأذى والإيلام
ويظهر جليا ان “حزب الله” يتلقى الضربات، ويبدو أنه بفعل نجاح إسرائيل في ضرباتها الاستباقية، لم يعد يستطيع التعامل برد الفعل بذات الأذى والإيلام؛ فهو غير قادر على استعمال صواريخه الثقيلة ليضرب عمق إسرائيل!
أولا، بسبب سياسي، لأن هذا السلاح محكوم بسقف التهدئة الايراني. وثانيا بسبب عملياتي، من ان تحريك منصاتها وتجهيزها واتخاذ وضعية الإطلاق والتصويب، يستغرق عدة دقائق باستطاعة إسرائيل رصدها وضربها في أرضها قبل إطلاقها، وعمليات الرصد والتتبع الإسرائيلية ناشطة ودائمة الرقابة، وقد حدث هذا الأمر في حرب تموز ٢٠٠٦، حيث لم يتمكن “حزب الله” من اطلاق اي صاروخ من صواريخ زلزال البعيدة المدى.
منذ ٨ أكتوبر، نجحت اسرائيل بقنص قيادات محور الممانعة _ ٢٨٠ شخصية_ واصطياد قادة ورؤوس مؤثرة، ونسفت مقرات “حزب الله’ ومخازن أسلحته ومستودعات صواريخه وخطوط إمداده.. وقد ساهم ذلك في إنهاك وتشتيت واستنزاف المخزون الحربي للحزب، وتقليص قدراته الصاروخية تدريجيا، وهو امر من الصعب تعويضه بظل الرصد والتتبع والاستهداف الدائم، الذي تمارسه إسرائيل.
يكفي ان يمتنع “حزب الله” عن الاشتباك مع اسرائيل، ليتم وقف النار في الجنوب
على المستوى السياسي، كان “حزب الله” من بادر الى فتح جبهة المساندة في اكتوبر ٢٠٢٣، وكانت اسرائيل في موقع من يرد على هجومات “حزب الله” وعملياته، وكان يكفي ان يمتنع “حزب الله” عن الاشتباك مع اسرائيل، ليتم وقف النار في الجنوب، وتوالت الاتصالات الدولية لترتيب الهدوء على الجبهة الجنوبية، لكن “حزب الله” رفض كل السيناريوهات التي عرضها الوسطاء، واصر على ان وقف حربه في شمال اسرائيل، مشروط بوقف حرب غزة!
لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تم دفع الحكومة اللبنانية عبر رئيسها ووزير الخارجية فيها، الى تبني الربط بين غزة وجنوب لبنان.
إسرائيل نقلت لنا رسالة عبر وسطاء، مفادها أنها غير مهتمة بوقف إطلاق النار في لبنان
اليوم يكشف وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الاعمال عبدالله بو حبيب في مقابلة مع قناة “الجزيرة”، أن “إسرائيل نقلت لنا رسالة عبر وسطاء، مفادها أنها غير مهتمة بوقف إطلاق النار في لبنان، حتى بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة”.
لم تعد الحرب في جنوب لبنان حربا رديفة فرعية لغزة، ينتهي الفرع بانتهاء الاصل، بل اصبحت مواجهة مستقلة باهدافها وغاياتها ومرامي اسرائيل منها.
يستطيع “حزب الله” ان ينسب لنفسه، انتصارات غير مرئية وانجازات غير واقعية، تسترضي السذج من مؤيديه، وترفع من معنويات قسم من أنصاره ومقاتليه، وان يتمسك بسقف عال من المطالب والاهداف، التي يصر على تحقيقها، لكن كل ذلك لن يمنع او يخفف من خطورة المأزق الذي دخله وادخل لبنان فيه، والذي يمكن ان يتفاقم ويزداد خطورة وخسائرا ودمارا.
ولعل افضل ما يساعد لبنان تجاه التحديات التي يواجهها، وقبل فوات الاوان، هو ان يهب احد ما لبنان سُلماً، يستعمله للنزول عن شجرة الحماقة الباسقة، ومواقف التصعيد العالية.
موقع جنوبية