أمد/
صورتان مشدودتان بأواصر متينة ودائمة بين الحفيدة والجد، لم يستطع الزمن الذي يدنو من القرن أن يفصل بين روحيْهما، في لحظتين مختلفتين في التوقيت، لكنهما على نفس القدر من الشوق اللاهب.
صورة بالألوان:
تنتمي خديجة عريب إلى منطقة أولاد سعيد بإقليم سطات، وتحديدا بفضاء يسمى لَهْدامي قرب أولاد عبو (الشهيرة بجمعة فوكو). تربت وترعرعت مع والدها وأمها وجدّتها بالدار البيضاء، المدينة التي يعتبرها ساكنة الشاوية فضاءهم الرحب للخروج من ضيق الدائرة. وفي لحظة جفّ فيها الزمن المغربي، وتطلع عمّال وفلاحون إلى الهجرة، كانت هولندا في سبعينيات القرن الماضي نافذة للحلم البديل، حيث هاجر والدها وحيدا واعدا زوجته وابنته باستقدامهما بعد استقراره. وفعلا ستلحق به زوجته وابنته خديجة التي كانت في سن الخامسة عشرة، في فرصة لها للانعتاق من مصير أفق غامض، فاختارت الدراسة لإثبات الذات، وهو ما تحقق لها في جامعة أمستردام بحصولها على أعلى شواهدها في علم الاجتماع. وفي نفس الوقت لم تختر الانطواء والابتعاد، خصوصا بعد وفاة والدها الذي لم يستطع أن ينسى جذوره الساخنة في أرض الشاوية. فعادت الأم إلى المغرب، فيما بقيت خديجة تحفر في أرض الاغتراب عن وجود طبيعي لوجودها وصوتها، منخرطة في العمل الاجتماعي والسياسي والنقابي والحقوقي، مما أكسبها ثقة الرفاق والخصوم في لحظات عصيبة في هولندا، وباقي أوربا. وقد شكل حضورها فرقا في مؤسسات اتحاد النساء المغربيات في هولندا، وفي منظمات الرعاية الاجتماعية في بريدا وأوتريخت، وفي معهد للدراسات الاجتماعية والاقتصادية في جامعة ايراسموس في روتردام، وشغلت منصب نائب رئيس ومستشار سياسي بارز في الرعاية الاجتماعية والصحية في أمستردام، قبل أن يتم انتخابها برلمانية عن حزب العمل الهولندي منذ 1998.ثم رشحت نفسها عام 2012 لرئاسة البرلمان، كما تولت رئاسة البرلمان الهولندي بالوكالة، منذ استقالة رئيسته في دجنبر 2015. وفي 13 يناير 2016 فازت برئاسة الغرفة الثانية في المؤسسة التشريعية الهولندية. فكانت أول امرأة عربية تترأس برلمانا أوروبيا.
عُرفت خديجة عريب بشعبيتها في أوساط الهولنديين والمهاجرين، واهتماماتها الاجتماعية والثقافية، كما عُرفت بقوة شخصيتها وشراستها في الدفاع والمواجهة، ولعل ذلك يعود إلى جيناتها التي تعود إلى سلالتها التي قاومت باستمرار وفي كل الظروف.
صورة بالأبيض والأسود
فجوات ضيقة وأخرى واسعة يصطدم بها كل من يريد البحث في التاريخ المحلي والعائلي، قبل قرن ونصف القرن، خصوصا حينما يتعلق الأمر بعوائل البادية في القرن التاسع عشر وما عرفه هذا القرن من تحوّلات وانتقالات متعددة للأفراد والعائلات من مكان لآخر، سواء إثر جفاف أو صراع أو رغبة في اكتشاف مصير جديد… وهذا هو المدخل، رغم ما يشوبه من احتمال رومانسي، للقول بأن عائلة عريب هي من سلالة قدمَ أجدادها من جهة الساقية الحمراء بالجنوب المغربي، في ستينيات القرن التاسع عشر إلى الشاوية، والتي كانت مجالات خصبا وبه عائلات كثيرة ومهمة من العروسيين المستقرين، ممن يرحبون بقدوم أهالي الصحراء الذين عمّروا سطات ونواحيها، بما في ذلك أولاد سعيد، كما انتقل البعض منهم إلى دكالة وعبدة، لأسباب تجارية وأخرى مجهولة ، ثم عادوا. حيث يتم تأكيد هذا بوجود علاقات وطيدة ومستمرة بين عبدة والشياظمة وركراكة والنواحي،منذ القرن السادس عشر الميلادي، بقدوم صلحاء وفقهاء واستقرارهم ، وكذلك العلاقات الروحية السنوية بين الغنيميين بالهدامي، وبين القبب بحد احْرارة بعبدة، سنويا خلال سابع المولد النبوي، كما هو الشأن أيضا بين المعاشات وحَدْ ادْرى بالصويرة ناحية الشياظمة في ما يسمى بالركب المعاشي.
ما يعزز فرضية الأصول الصحراوية، لقب عريب ، كما أن “معلمة المغرب”، تتحدث عن وجود قبيلة باسم عريب(اعْريب) الحسانية، وتقع بمنطقة الساقية الحمراء، ولهم أدوار مشهودة في الجهاد ضد الاستعمار، بالمال والرجال والعتاد.
الرواية الشفوية (كما روى لنا السيد علي عريب، من دوار البراهمة، وهو حفيد القائد لحسن بن العربي) تحكي عن مجيء ثلاثة أخوة من أبناء العربي، أو لَعريبي نسبة إلى لقب القادمين من الصحراء، وهم: محمد ولحسن وميرة، إلى لهْدامي بأولاد سعيد، مستقريين بالغنيميين والقصيبة والبراهمة، قادمين من بلاد عبدة، حد لبخاتي دوار الخنيشات، دون أن يستطيع أحد الجواب عن كيف ولماذا جاؤوا إلى هذا المكان بالضبط. الاحتمال الممكن من احتمالات أخرى هو وجودهم سابقا بالهدامي ثم انتقالهم إلى عبدة، ثم عودتهم بعد ذلك.
في العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر، سيبرز نجم محمد بن العربي والذي سيصبح اسمه الحاج محمد عريب باعتباره قائدا شعبيا، إلى جانب رجال آخرين من “الشجعان”، في كل الشاوية خلال تلك المرحلة، وفي أولاد سعيد من موالين الحفرة، وأولاد عريف ، وأولاد عبو، والهدامي، وكدانة… أسماء ساهموا في انتفاضة 1903، ضد غشم وظلم القياد، وفي سنة 1907، ضد الدخول الفرنسي للدار البيضاء، فاستشهد الكثير منهم في حروب قادها الأحمر بنمنصور وبدعم من الشيخ البوعزاوي.
خمسة من القادة الكبار بأولاد سعيد من المجاهدين ضد الدخول الفرنسي وقادة الانتفاض الشعبي(السيبة): بلمعطي الجميلي ومحمد الكرواوي الكرش والحاج محمد عريب، وكذلك الحاج عبد القادر بن بوشعيب ومحمد بلحوزية ومحمد ولد عبد الله، الذين استشهدوا في يوم واحد برصاص الفرنسيين.(المختار الغازي، إشارات من تاريخ سطات، ص253. وكذلك الجزء 2 من قبائل الشاوية ص204 وما بعدها، ترجمة نور الدين فردي).
الحاج محمد عريب واحد من زعماء الانتفاضة في ثورة شعبية هدّمت أسوار القصبة العياشية، في لحظة مفككة مخزنها ضعيف وعاجز أمام ضغوط الفرنسيين الذين كانوا يتقدمون بخطوات سريعة لاغتصاب الأرض وخيراتها واستعباد ساكنتها.
وكان عريب، رئيس الجوّاقة، رجلا قصير القامة، شرسا في الحق وأحد أهم من قاد الفلاحين في انتفاضة شعبية شكلت في خيال أهل الشاوية صورا عالية لشجعانها وحكايات بطولاتهم، لذلك حينما تولى المولى عبد الحفيظ الحكم(1908)، اقترح الشيخ محمد بن الطيب البوعزاوي، بما لديه من ثقل في الجهاد وقُربه من السلطان، اقترح الحاج محمد عريب، قائدا على لهدامي. وحينما زمّم الفرنسيون عقد الحماية أزاحوا عريب لأنهم لا يثقون فيه أوفي الولاء لهم.
وإذا كانت الرواية الشفوية تصمت، بعد ذلك، عما جرى للحاج محمد بعدما خلف ثلاثة أبناء (محمد والجيلالي وقاقا)، أو مصير أخته الوحيدة ميرة، فإن عائلة عريب سيتم ذكرها مع الأخ الأصغر للحاج محمد، الثائر، وهو لحسن عريب الذي أصبح قائدا على لهدامي تحت اسم القائد لحسن بن العربي (1929) واشتهر بحكمته وكثرة أبنائه من زيجات كثيرة، ومن بين أبنائه مصطفى، والد خديجة عريب. وبعد وفاة القائد لحسن (1946) سيتولى ابنه بنعياد القيادة عنه لحوالي عشر سنوات.
حينما تكتب المرأة عن الألوان
لم تتنكر خديجة عريب لدمها الساخن ولجذورها الراسخة في الرمل والتراب، لذلك حينما كتبت كتابها الأول “الكسكس يوم الأحد: تاريخ عائلي”، كانت تفكر في فهم الأثر العائلي دون أن تصرّح به. ولعل النقد ومباحث تحليل الخطاب لم ينشغلا كثيرا بالبحث عن علامات مميزة وفارقة في الكتابة النسائية، وربما سعت بعض الأبحاث إلى البحث في التمثلات وصورة النوع والأنا والآخر، بالنسبة للمرأة الكاتبة، للحديث عن بعض الخصوصيات. وأعتقد أن هناك فعلا سمات دقيقة في ما تكتبه النساء خصوصا حينما تكون الكتابة حميمية عن تشكل صورة الأنا من خلال المحيط القريب، أو العائلة، أو أحد أفرادها. وهو ما نجحت فيه لطيفة بنجلون العروي عن حياة والدها عبد القادر بنجلونABDELKADER BENJELLOUN(2019)، وكذلك كتاب فاطمة أمحزون، حفيدة بطل الأطلس موحا أوحمو الزياني Moha ou Hammou Zayani Amahzoune(2019)، وها هي خديجة عريب في كتابها عن السيرة العائلية،
Couscous op zondag een familiegeschiedenis(2009).
تقدم تجربة فريدة، بدورها، لكونها باحثة في علم الاجتماع ومهاجرة وفاعلة سياسية ونقابية وحقوقية في هولندا، ارتأت في لحظة معينة النظر إلى ذاتها من خلال هويتها، لأنها تدرك أنها تحمل أثر التاريخ والمجتمع والعائلة في روحها “المتمردة” والمصارعة، فكتبت كتابا يحمل من غلافه أربع دلالات كبرى:
– الأولى، عبر استحضار البعد الثقافي في العنوان (الكسكس يوم الأحد) بوصفه أكلة مغربية متجذرة تحولت إلى طقس يرمز إلى اجتماع العائلة وصلة الرحم والإطعام.
– الثاني، في ما يتضمنه العنوان من غربة المهاجرين الذين ألفوا تناول الكسكس مع العائلة يوم الجمعة، لكنهم في بلاد المهجر لا يسعفهم نظام العمل، فاستبدلوا الجمعة بالأحد، يوم العطلة.
– الثالث، في العنوان الفرعي الذي يختار تجنيسا جديدا (تاريخ عائلي) متجاوزا النرجسية التي تتحكم في الكتابة عن الذات، ولعل هذا التجنيس لا ينفصل عن الوعي بالكتابة لدى خديجة التي تدرك أن العائلة هي منجم كبير، تعلن افتخارها بالانتماء إليه.
-الدلالة الرابعة، صورة غلاف الكتاب، وهي أشمل وأقوى الدلالات، حيث الأم والأب والجدة والطفلة خديجة.. وجميعهم باللباس المغربي.
صورة الطفلة التي لم تسافر بعد، وستهاجر في الخامسة عشرة من عمرها وتحيا حياة لم تستسلم لغربتها واغترابها وإنما حققت ذاتها انطلاقا من هويتها ” المصارعة”، دون أن تتخلى عن جنسيتها المغربية ، أو عن تاريخها الشخصي الخاص والعام التي تحمله في قيمها وسلوكها وطقوسها اليومية.
سيرة الذاكرة
أولاد سعيد، بكل جغرافياتها الممتدة، بنسائها ورجالها في مجالات كثيرة.. تاريخ غير مكتوب، تحفظه الوثائق الغميسة وذاكرة الفلاحين وباقي أبنائها المهتمين، كما في الأغاني والحكايات الحية، (شأن أغنية “الزاوية”(1965) لفاطمة الزحافة ، عن الغنيميين وزاوية سيدي عبد الخالق). ودور البحث والكتابة هو الكشف عن هذا التاريخ وكتابة فصوله لتكون شرفة أخرى تثري تاريخنا الجماعي.
تروي خديجة عريب ما تقبض عليه ذاكرتها من تاريخ عائلي قريب يتذكر الأب والأم والجدة، وطفولتها في أحد الأحياء العمالية بالدار البيضاء، وهم القادمون من بادية الشاوية على أطراف الدار البيضاء. وجدَ والدها نفسه بعد الاستقلال عاجزا عن العيش كما يريد في رفاهية في إرث منقطع. ثم هاجر ،وبعد سنوات تبعته زوجته وابنته للعيش في حي عمالي للمهاجرين المغاربة من الأمازيغ. وهناك تبدأ الروح المتمردة لخديجة في العمل والدراسة والاهتمام بالمهاجرات في كل الأوضاع الممكنة مما يحدث لهن في هولندا أو في البلد الأصلي. وجدت نفسها تتحوّل إلى محاربة للتطرف والعنصرية والظلم، وكثيرا ما تعرضت لمواقف صعبة بهولندا، وكذلك وهي تروي ما جرى لها أثناء زيارة عائلية لها بالمغرب، رفقة أبنائها، من تضييق واستجواب حول نشاطها في هولندا. وستفهم أن التفاعل الذي يصدر عنها تجاه المهاجرين وعائلتها ، وجدته أثناء محنتها، حينما تقول:”قدّمت نساء الحي دعما سخيا لي خلال هذه الفترة. كُنّ جميعًا أميّات، لكنهن قويّات جدًا. وكانت جدتي الأقوى منهم جميعا. لم تشك بي أبدًا للحظة. كما أنها لم تسألني أبدًا عن سبب قيامي بأشياء معينة. بالنسبة لها كان الأمر بديهيًا.. كان علي أن أفعل ما أعتقد أنه صحيح. بهذه الطريقة فقط يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا. لقد تعاطفت معي ووقفت خلفي مباشرة”.
كتاب طريف يمكن اعتباره مدخلا لسيرة عائلية تعود بها الكاتبة إلى الجد الحكيم والآخر الثائر… وما جرى من تفاصيل مدهشة ظلت نائمة واستفاقت أخيرا في روح خديجة، كاتبة وفاعلة تؤمن بالحاضر بالمستقبل.