أمد/
ثمة ملاحظاتٌ مهمةٌ وأساسيةٌ ومركزيةٌ ينبغي التوقف عندها وأخذها بعين الاعتبار عند قراءة اتّفاق وقف إطلاق النار المؤقت في قطاع غزّة الذي تم التوصل إليه منتصف يناير/كانون الثاني الجاري، ودخل حيز التنفيذ الأحد الماضي 19/1/2025، يعتبر الاتّفاق خطوةً على طريق الوصول إلى وقف نارٍ مستدامٍ، ومن ثمّ نهاية الحرب، والانسحاب الإسرائيلي التام من قطاع غزّة، بموازاة تحديد معالم اليوم التالي للحرب.
بدايةً، يستند الاتّفاق استنادًا أساسًا إلى وثيقة الرئيس الأمريكي المنصرف جو بايدن التي أعلنها نهاية مايو/أيّار الماضي، والمستندة إلى اقتراح إسرائيلي، خريطة طريق، وضعه مجلس الحرب، بجنرالاته الثلاثة بيني غانتس وغادي أيزنكوت ويوآف غالانت، وحظي بموافقة ودعم قادة المؤسسات الأمنية الثلاث، الجيش والموساد والشاباك، وتبناه ووافق عليه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كما وضعت أسسه قبل ذلك في ما يعرف باتّفاق إطار باريس، مطلع العام الماضي 2023، والمستند بدوره إلى توافق استخباراتي إسرائيلي أميركي، بين مديري الموساد ديفيد برنيع والسي آي إيه وليام بيرنز.
أقر بايدن صراحةً عند إعلانه المشروع أنه اقتراحٌ أو خريطة طريق إسرائيليةٌ، حسب تعبيره الحرفي، وقد تعمد قول ذلك من أجل قطع الطريق على معارضة نتنياهو، بمنطق كيف يعقل أن يعارض اقتراح وضعه مجلس الحرب الذي يرأسه شخصيًا.
لكن؛ تجسدت معارضة نتنياهو في ما بعد عبر ما يسمى وثيقة الدم، نهاية شهر يوليو/تموز الماضي، التي تضمنت التمسك بالبقاء في محور نتساريم، وتفتيش النازحين العائدين إلى الشمال، تحدثت الخريطة عن عودة مدنيين من دون سلاحٍ، ورفض الانسحاب من محور صلاح الدين (فيلادلفي)، مع زرع قنبلة أيضًا في قصة معبر رفح، ورفض إدارة السلطة الفلسطينية له بالعلم الفلسطيني والزيّ الرسمي، والإصرار على زيادة عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء المفرج عنهم بالمرحلة الأولى.
تجاوزت الوثيقة أصلًا مطلب حماس بالتعهد المسبق بوقف الحرب، والانسحاب الإسرائيلي التام والفوري من قطاع غزّة، ووافقت عليها الحركة مضطرةً، بعد ضغوطٍ، على اعتبار أن إزالة عقبة الأسرى ستؤدي عمليًا إلى وقف الحرب، والانسحاب التام، خاصّةً مع مساعي الوسطاء، بالتوازي مع تحديد سيناريو ومعالم اليوم التالي للحرب، التي أبدت فيها الحركة استعدادها الظاهري للتنازل عن السلطة، لكن مع الاحتفاظ بالسلاح والسيطرة الأمنية وفق النموذج اللبناني في مرحلة ما بعد حرب يوليو/تموز 2006.
غير أن نتنياهو، ولأسبابٍ مختلفةٍ سياسيةٍ وحزبيةٍ وشخصيةٍ، حاول تفخيخ خريطة الطريق الإسرائيلية، إذ كان ما يهمه فعلًا محور بتسلئيل سموتريتش – إيتمار بن غفير، لا فيلادلفي حسب تعبير زعيم المعارضة يئير ليبد، وتخوفه، أي نتنياهو، من سقوط الحكومة فعلًا في حالة مغادرة أحدهما، كما حصل لاحقًا فعلًا مع بن غفير بعد توسيع الائتلاف الحاكم، عبر انضمام جدعون ساعر إليه، ما حال دون سقوط الحكومة.
تجب الإشارة أيضًا إلى أنّ الاتّفاق بمراحله الثلاث، ربّما يصبح مرحلتين، استلهم روح اتّفاق لبنان الأخير، بمعنى وقف إطلاق النار المؤقت، ولكن مع تفاوض على المستدام بالمرحلة الثانية، التي تتضمن تبادل الأسرى القادة من الجانبين، وتحديد سيناريو ومعالم اليوم التالي للحرب، والانسحاب التام من قطاع غزّة، مع إصرارٍ إسرائيلي مدعومٍ من الضامن الأميركي على عدم بقاء حركة حماس في السلطة، ونزع سلاحها وتسليمه، وتفكيك قدراتها العسكرية، وفق النموذج اللبناني الحالي أيضًا مع القرار 1701 المعزز، لكن مع خلاف حول الطريق والجهة التي تقوم بذلك، والبحث عن سلطةٍ فلسطينيةٍ متجددةٍ، ويونيفيل موسع، وفق النموذج اللبناني أيضًا.
بناء على ما سبق، يصبح التساؤل منطقيًا عما تغيّر كي يزيل نتنياهو تحفظاته على الاتّفاق حتّى مع تحقيق معظم مطالبه التي طرحها في وثيقة الدم؟
تتمثّل أسباب تغيّر موقف نتنياهو في انضمام الليكودي السابق زعيم حزب أمل جديد جدعون ساعر إلى الحكومة، ما حال دون سقوطها رغم انسحاب بن غفير منها وهو ما يمكن اعتباره أهم تطور سياسي في الدولة العبرية منذ بدابة الحرب، كما قال عن حق الوزير السابق حاييم رامون، أحد أهم الخبراء الاستراتيجيين الآن في الدولة العبرية.
إلى ذلك، هناك شعور بالثقة لدى نتنياهو بعد استنفاذ الخيار العسكري بغزة، التي تحولت إلى جبهة قتال ثانوية دون أفق واضح، وتأكيد حقيقة إن أهداف الحرب الأخرى تتحقق بوسائل سياسية تحديدًا في ما يتعلق باستعادة كل الأسرى وإزاحة حماس من السلطة.
يأتي شعور نتنياهو بالثقة أيضًا من تدمير قدرات حزب الله، واغتيال معظم قادته السياسيين والعسكريين، وتوجيه ضرباتٍ قاسيةٍ إلى إيران، وسقوط نظام بشار الأسد، حتّى لو لم يكن ذلك بحضورٍ إسرائيليٍ مباشرٍ.
في الأسباب أيضًا، نستطيع الإشارة أيضًا إلى انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة، وعودته المظفرة إلى البيت الأبيض، وضغوطه ورغبته بطي ملف الأسرى، وتوقف الحرب، قبل تسلمه السلطة، خصوصًا مع علمه ويقينه، أي ترامب، باستنفاذ الخيار العسكري في قطاع غزّة، كما أنّ اتّفاق وقف إطلاق النار المطروح هنا، أو وثيقة بايدن، هو اقتراحٌ إسرائيليٌ أساسًا.
هذا كلّه، إضافةً إلى تعديلاتٍ مهمّةٍ بالاتّفاق لصالح نتنياهو، أهمّها عدم التعهد نهائيًا بوقف الحرب، واستعادة أكبر عددٍ ممكن من الأسرى الأحياء بالمرحلة الأولى 33 من أصل خمسين، أي أكثر من الثلثين تقريبًا، ممن ما زالوا على قيد الحياة، مع رفض الانسحاب الفوري من محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وفعل ذلك جزئيًا في ممر نتساريم، والأهمّ أنّهما، المحور والممر، كانا بمثابة قنابل دخانية للاحتفاظ وشرعنة المنطقة العازلة المحيطة بالقطاع، التي تبتلع سدس مساحته، 60 كيلومترًا مربعًا، بما في ذلك سلة غذائه، من بيت لاهيا شمالًا إلى خانيونس ورفح جنوبًا.
قبل ذلك وبعده، يقين نتنياهو من تدمير غزّة، وجعلها غير قابلةٍ للحياة، ومنعها من تهديد إسرائيل جديًا، وإشغالها بنفسها سنواتٍ وربّما عقودًا، عبر تحقيق الأهداف الإسرائيلية غير المعلنة للحرب، كونها إجراميةً غير شرعيةٍ، أو قانونيةٍ أساسًا، والمتمثّلة في إيقاع نكبةٍ جديدةٍ في قطاع غزّة، وإبادة أهلها جماعيًا.
أما في ما يخص الأسباب التي دعت حركة حماس إلى الموافقة على الاتّفاق الحالي، والتنازل عن شرطي التعهد المسبق بوقف الحرب، والانسحاب التام، فتتمثّل بالعملية العسكرية الإسرائيلية شمال القطاع، والتهديد بانتقالها إلى مدينة غزّة نفسها، وهزيمة حزب الله في لبنان، وقبوله رسميًا بفصل وحدة الساحات، حتّى لو كان تفعيلها إعلاميًا وهامشيًا فقط، إضافةً إلى اغتيال قائد الحركة يحيى السنوار، وتهديد ترامب بخطواتٍ عقابيةٍ ضدّ الحركة وقادتها، تشمل اعتقالهم، وحتّى إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لاغتيالهم حيث هم.
عمومًا؛ فرضت روح اتّفاق لبنان نفسها على غزّة، مع تأجيل قصة السلطة الحاكمة في غزّة، والقوات الدولية، النسخة المحلية من يونيفيل، وفي المحصلة، بتنا أمام وقف إطلاق نارٍ مؤقتٍ، سيتفاوضون على مصيره ومآلاته النهائية بالمرحلتين الثانية والثالثة.
قدمت حركة حماس تنازلاتٍ واسعةً، تشمل مرحلية التنفيذ، والتفاوض، وإطلاق عددٍ كبيرٍ من الأسرى الإسرائيليين في المرحلة الأولى، على أمل حصد المقابل في تحديد معالم اليوم التالي للحرب، وقبول بقائها في السلطة، رغم حديث ترامب الصريح أنّ غزّة لن تكون ملاذًا للمسلحين، في حين ذهب مستشاره للأمن القومي مايك والتز أبعد من ذلك، قاطعًا بأنّ حماس لن تحكم غزّة مع نقطةٍ على السطر، حسب تعبيره الحرفي، إذ لا مجال لبقاء الحركة في السلطة بعد الاتّفاق، كما قال جو بايدن، مع تقديم ضماناتٍ مشتركةٍ من الضامن الأميركي، السلف والخلف، أي بايدن وترامب، لنتنياهو باستئناف الحرب، في حال عدم تحقيق أهدافه، ومن دون اعتبار ذلك خرقًا للاتّفاق.
في الأخير، لا يمكن الحديث عن انتصارٍ لحركة حماس، حتّى مع البقاء بالسلطة على أنقاض غزّة، وبوجود إبادةٍ جماعيةٍ موصوفةٍ ومثبتةٍ بالدلائل والبراهين، التي قدمتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، كما نلمس محاولةً ضمنيةً من حماس للعودة إلى مساء 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ لا حديث عن المسجد الأقصى، والتهويد، والاستيطان في الضفّة الغربية، وإنهاء الانقسام، والعملية السياسية، والأفق السياسي الجدي، الذي لا رجعة عنه نحو الدولة الفلسطينية، مع تبادل أسرى والإفراج عن 737 من الأسرى القدامى، و1167 من المدنيين الذين اعتقلوا في غزّة بعد الحرب، ويبلغ عددهم قرابة 3000 معتقلٍ، منهم 290 من أصحاب المحكوميات الطويلة والمؤبدات، ستُبعد الغالبية العظمى منهم إلى خارج فلسطين، مع الانتباه إلى تضاعف عدد الأسرى والمعتقلين بعد الحرب. إضافةً إلى الثمن الكبير بأعداد الشهداء والجرحى، ربع مليون تقريبًا، ونزوح مليونين داخليًا، وتدمير من 70% إلى 80% من قطاع غزّة، كما ستستغرق إعادة الإعمار سنواتٍ وعقودًا، وربّما حتّى قرونًا، حسب الأمم المتّحدة، إذ جاءت بنفس الوتيرة قبل الحرب، أيّ إذا استمرت حماس في التشبث بالسلطة.
عن العربي الجديد