أمد/
نشأت في بيئة صالحة ،وترعرعت في دفء أحضان والديها تستمد منهما الحنان وحسن الخلق والأدب الجم وحب التعلم والإيثار من أجل إسعاد الآخرين، والدها عامل البناء البسيط صالح، الذي كثيرا ما كانت تلح عليه زوجته أن يؤمّن نفسه ومستقبله بالعمل لدى مؤسسة حكومية حتى يستطيع مواجهة تقلبات الزمن وصد مفاجآته وما تحملها من مخاوف، ولكن زحمة الحياة ومشاقها تنسيه الأمر ثم يتم تأجيله يوما بعد يوم ، كان كلما يعود إلى بيته تستقبله ابنته كريمة كعادتها أمام باب الباحة الواسعة حيث تبقى تنتظره مع شقيقها يوسف، كانت محبوبة الجميع الأصدقاء والجيران . بلغت كريمة سن الالتحاق بالمدرسة وظلت دماثتها مصدر حب صديقاتها لها كم كان تفوقها الدراسي سببا في ميلهن للتقرب منها والتودد إليها. شحن نجاحها الدراسي رغبتها في دراسة الطب،كان طموحا متنامي في ذاتها في تلك المنطقة النائية التي تقطنها حيث فضّل والدها أن يبقى مع أسرته بعيدا عن تسلط عائلته وتدخلهم المزعج في طريقة حياته وأسلوب معيشته، تاركا خيرات والده ومحلاتهم التجارية يستمتعون بها وحدهم ، كان دوما يردد: ” الهناء ولا الثراء ” ويدعو الله أن يديم عليه نعمة الصحة. اعتادت كريمة أن تجلس القرفصاء قرب المدفأة الحجرية العتيقة المتخمة برماد الحكايات، فيما يتسلل صفير الرياح الليلية من شقوق النوافذ يحلو لها في هذا الجو أن يعبث والدها ب خصلات شعرها ، وهو يعزز رغبتها بدراسة الطب ويمني نفسه أن يطيل الله في عمره إلى هذا الوقت ليرى الجيران يشيرون إليه في رواحه ومجيئه هذا والد الدكتورة كريمة، أمسكت كريمة يد أبيها الخشنة المشققة من أثر مواد البناء وقبلتها قائلة أنها ستريحه من تعب العمل وشقاء السنين ، تأملها طويلا ثم عاتبها على جرأتها أن توقظ ذاكرته الراقدة في أحضان فرحته بها وتشعره بالوجع والاحباط ، هوّنت زوجته الأمر على كريمة واعتبرت حديثه مجرد لغط أو تمتمات خجولة وتنهيدات تعب اليوم تترنح بين ضباب همساته الخرساء، لقد ترعرعت في رحم عمر التعب وهذا لن ينقص من عزيمتها ،غمغمات النعاس تتزاحم إلى جفونه وهو يهرتل في الكلام فذكّرته زوجته بأن عليه أن ينهض باكرا فأمامه يوم عمل طويل وشاق، تنهد كمن يأمل أن يتحرر خارج جسده المتعب وكأن يخشى في الغد أن تحمله خطواته في سفر إلى المجهول، أفكار كثيرة تحاصره وتقبض على قلبه، استغفر ونهض ليتمدد فوق سريره، ظلت كريمة ساهرة في مراجعة دروسها حتى وقت متأخر من الليل، حلمها هو إسعاد والدها وترى حجم أحلامها الكبيرة في دفاترها وأوراقها كصورة ملونة شديدة الوضوح.
لم يمهلها القدر طويلا، لقد انتقل والدها إلى رحمة الله بشكل مفاجئ نتيجة جهد زائد، شعرت وقتها بسهام الوحدة تخترقها وجداول الروح حفت وصحت من غفوتها الناعسة،كانت طبول مبهمة تدق في أذنيها كأنها تنذر إيقاعاتها بزلزال مدمر لا يبقى ولا يذر كلما صادفت عمها الذي لم يكن أبوها يحبه لأسباب هي كانت تجهلها، تشعر أن حياتها ستأخذ منحى آخر وأنها بصدد بداية رحلتها الحقيقية في الحياة رفقة والدتها وشقيقها ولن تتراجع عن إتمام دراستها العليا برغم امتعاض عائلة والدها الذين طالما سخروا من فقر والدها، واجهت عمها الذي تراه لأول مرة ، يبدو أنه يعاني من إعاقة خفيفة في ساقة لذا يتكأ في سيره على عصا غليظة كانت عيناه تبث شررا وهو يصيح في وجه أمها أنه من الآن فصاعدا لا بقاء وحدهن في هذا البيت، نادت حينها كريمة والدها ” أين أنت أيها الرجل الساكن في طيات زهوري الذي يفوح بك شذاها عطرا نادرا ويملأ أركان دنياي، أين أنت أسمعك ضحكة طفل نقية ينشق لها معك أفقي سعادة،في حياتك كنت أرى صفاء السماء وأمسك بالأمل الهارب رغم الصعاب، يغمرني الحياء حتى تأخذ بصري هيبتك ، كنت لنا الغيث وأنا الأرض العطشى ، فحدائقي الغنّاء أصبحت مقفرة بعدك ،سيدون الزمن أن ساعة رحيلك رحيلي “ناجت أبيها وهي تعتقد أنها تملك قدرة إعادته إلى الحياة في قلبها بعد أن اختار الموت فيها حبا.صراع مرير بين الصبر والجزع، واليأس والأمل ، العبارات تنهمر دموعا لتزيح قسطا من الحسرة عن فؤاد مكلوم ونفس مثخنة بالجراح. السيارةتطوي المسافات سريعا و دون توقف إلى ما لا تتمناه،، تشعر أن وجودها أصبح وهميا وانها تحلق نحو أجواء يصعب فيها التمني، على جانبي الطريق يبكي المطر الراحل ، فتدرك أن لوحات الطبيعة ليست صامتة بل تمنح لها الحياة والهوية بتفاصيلها ورموزها.وصلوا إلى بيت العائلة الكبير وقبضة تشتد في قلبها تجرها إلى أن لو كان بمقدورها أن تعود أدراجها إلى المكان الذي ودعته بالدموع بعدما ألفته وتحتفظ فيه بأسعد الذكريات، كلها أمل أن تعود يوما إليه، جلست على أقرب كرسي وبقيت صامتة تتأمل حولها،تعاقبت عليها وجوه لا تعرفهم ولا يبدو أنها ستألفهم من نظراتهم الحادة، أدركت حينها لماذا فضّل والدها الابتعاد عنهم .
مرت الأيام عليها في عسر وضيق وعلى مضض، الكل يأمر وينهي، يحلل ويحرم كما يشاء، وعبثا حاولت والدتها تهدئتها حتى لا تبقى دائما تتساءل عن ما الذي أجبرهم على المجيء إلى هذا المكان ،تساءلت وهي تعلم أنه جبروتهم ، لقد ملّت لعب دور الخادمات وتلقي الانتقادات الجارحة التي لا تنتهي وكأنهم القوم الكافرون، ترجتها أمها أن تلزم الصمت على الأقل حتى تجتاز امتحانات البكالوريا وتنتقل إلى الجامعة ويكبر شقيقها وبعدها سيكون لكل حدث حديث وبالتأكيد سيكون هناك حلا لمشكلتهم . بدأ الموسم الدراسي، وجاءها عمها حيث كانت وجلس كعادته ووضع الساق فوق الساق وقطّب جبينه وحدثها ببرودة مراوغا في أمر كانت قد رفضته مرارا فهي لا تحب من يملي عليها الأوامر فلقد رباها أبوها على الحرية والصدق وتحمل مسؤولية قراراتها، استدارت إلى عمها وثبتت نحوه نظرات القلق مستفهمة في خجل عن ما يريد بالضبط ، صارحها بفظاظة أنه أخبر والدتها أن عليها أن ترتدي الحجاب ، خفّف من وقع كلامه بابتسامة عريضة ساخرة وهو يداعب لحيته المخضبة بالحناء ويدفع ساقه المكشوفة في الهواء، تشدد في طلبه، وتمسكت هي بأن الأمر يخصها ولا دخل لأحد فيه ، احتد عليها بعصبية مشددا على أن الكل هنا يتبع أوامره وينقاد له، قالها وهو يتقدم نحوها بخطوات اهتزت لها الجدران وكانه يقرأ من أحد دفاتر مسوداته اللعينة التي خطها وألفها خلال سنين قضاها بين الكتب الصفراءيحاول مرة أخرى ولعلها الأخيرة كي تعدل عن رأيها زاعما أنهم في مجتمع رهين العادات والتقاليد .. وأصول الدين ، ولكن كريمة بقيت على عنادها فرفع يده وضربها ضربة أسقطتها أرضا، أسرعت إليها زوجته وزادتها ضربا صارخة أن هذا ما يليق بهذه الفاسقة ، وأن مكانها هو البيت وستزوجها لشقيقها الذي كان قد عاد لتوه من أفغانستان ، فهو من سيعيدها إلى جادة الصواب ،أصرت كريمة على موقفها وصاحت بأعلى صوتها أنها لن تتراجع عن رأيها، اشتد الحنق بالرجل وزوجته وأخذا يركلانها بكل قسوة في بطنها ورأسها ، وكلما تمسكت بموقفها زاد غضبهم الأعمى واشتد تنكيلهم بها وتوالت الشتائم الشخصية والتهديدات المروعة فعلا صراخها من شدة ألمها أكثر وتقسم أنها تتقي الله ولا تغضبه في أي أمر، هرعت أمها نحوها فورسماع صراخها فقبضت على زوجة العم وأبعدتها عنها وصاحت عليها عدم التدخل وأن عليها أن تتأدب فوالد كريمة أحسن تربيتها، بقيت كريمة أرضا صامتة مطبقة بقوة على شفتيها مصممة على موقفها وزوجة عمها المنتصبة أمامها كالوحش تستشيط غضبا منها وترمقهاغيظا ثم تعبر فوق رأسها وتنظر ساخرة إلى بقع الدماء المتناثرة ، عبرت فوقها مزمجرة بهدير صوتها القبيح المتوتر وقد كادت كريمة أن تموت بين يديها،ابتعد عمها عنها أيضا ولكن نظراته الحادة ظلت معلقة بها ، لقد عجز عن فرض رأيه عليها ، يعلم أنها كانت عند والدها المدللة وأنه كان يحبها ويتقبل دائما آراءها بروح سمحة ، بقي برهة صامتا يدفع زفيره الحاربقوة وشفتاه ترتجفان حنقا عليها وكأنه يخفي نوايا ماكرة في نفسه، ابتسم ابتسامة خبيثة ساخرة ثم صاح في والدتها وهو في ذروة الغطرسة ملوحا بيده ومهددا إن لم تتراجع عن رأيها سيوقفها عند حدها ، سيمنعهاعن مواصلة الدراسة وستبقى خادمة للجميع في هذا البيت .
كانت كريمة متفوقة في دراستها دون غيرها في العائلة من بنات وأولاد عمها الذين أخفقوا في مواصلة التعليم منذ المراحل الدراسية الأولى، وهذا كان سببا رئيسيا لمعاداة زوجة عمها لها ولمحاولة منعها من مواصلة التعليم غيرة منها، إنها في نظر زوجة عمها الفتاة الأكثر علما وخلقا وجمالا التي تجذب بشدة أنظار الشباب الراغب في الزواج وهي تصرف انتباههم نحو بناتها وإبقائها تحت سيطرتهم في دارهم، كانت والدة كريمة على علم بهذا النية منذ أن أجبروها على مغادرة بيتهم ولكنها تعلمت من زوجها الراحل كيفية تسييس الأمور والصبر عليها ،تعلمت أن في الحياة ما يستحق وقفة تأمل لترشيد التدبير ، أما عمها فكان شديد الحذر من أن يعي شقيق كريمة يوما حقه في ميراث أبيه الذي كان والدهم قد عفّ عنه لتجنب الخصومة مع أخيه فآثر الابتعاد عن البلدة كلها،فأراد العم قهرهم وإذلالهم حتى لا يطيقون مواجهته ولا يجرؤون أمامه على المطالبة بأي حق لهم ،لقد قام بتوزيع ما ورثه وما اغتصبه من ميراث أخيه سراعلى أبنائه وبناته، وأصبح أمرا مقضيا لدى كل سكان البلدة.
هكذا فقدت كريمة عائلتها نعمة الطمأنينة والراحة وطعم السعادة ، أصبحت بذاتها جسرا إلى العذاب بعدما غادرتها الابتسامة التي كانت تعلو طويلا وجوههم ، وبعد أن كانت تشحذ همتها لتواصل طريقها ، لقد تعلمت من أبيها أن الحياة مد وجزر ، وأن المؤمن حقا هو الوحيد الذي يدرك معنى القناعة التامة والرضى بما رزقه الله، الإنسان بطبعه ميّال للأفضل ولم لا مادامت الظروف تسمح بذلك، الإنسان مأمور بالسعي والعمل تلك حقيقة ثابتة من أجل الخير في الحياة الدنيا ، تنهدت كريمة تنهيدة عميقة تناجي روح والدها من هؤلاء الهمج . استمر الخلاف مع عمها بسبب هذه القضية ، وذات يوم تحول تطور فيه الخلاف إلى ملاسنات وتعنيف بينهما ثم تحول وصار شجارا شديدا،انصرفت كريمة من الغرفة دون مبرر وبغير إذنه مبررة تصرفها بأنها في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي وليس مطلوبا كلما توجهت للدراسة أن تستشير أحدا ، لم يكن والدها هكذا ، صاح فيها عمها أن والدها شيء مضى ، وهنا شيء آخر ، لم تكترث كريمة لقوله ، وأسرعت إلى غرفتها تريد الاحتماء بأمها ، لم تجدها ، تبعها وانهال عليها ضربا ، وفي غمرة غضبه الهستيري سحب منديل رأس أمها وخنقها به كانت تستغيث بأمها الغائبة عنها،وفي تلك اللحظة ولما تأكد من موتها على يديه قام ورفعها ليعلقها في نافدة الغرفة حتى يوهم الجميع بأنها انتحرت ، كان أخوها في الأثناء في حديقة المنزل قد تتبع مشهد تعليقها من الخارج ، أسرع إلى الغرفة ووجدها مشنوقة ، مزق منديل الرأس محاولا انقاذها لكن روحها الطاهرة كانت قد فارقت الجسد ، نقلتها والدتها إلى المستشفى حيث أكد الطبيب الشرعي الوفاة غير الطبيعية وأظهر كشف الفحص الطبي أثر الخنق وعلامات المقاومة الشرسة، فتم تحويل القضية للتحقيق القضائي لبحث خلفيات وملابساتها .