أمد/
قرأت في حينه كتاب “كفاح كفاح” للأسير كفاح حطاب[*] وأخذت عل نفسي عهداً ألاً أنشر قراءتي حوله إلّا حين تحرّره من الأسر الصهيوني، وها هو يتحرّر في صفقة طوفان الأحرار، رغم غصّة الإبعاد عن الوطن (سيرة، أسير حرب في سجون الاحتلال الصهيوني، 431 صفحة، لوحة الغلاف: صورة شخصية للكابتن طيار كفاح حطاب، تدقيق لغوي: أ. جمعة الرفاعي، أشرف على التنقيح بكر أبو بكر، الإخراج الفني: سناء صباح، صدر عن: الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله).
تناول الكتاب فكرة صاحبه حول مكانة الأسرى الفلسطينيين القانونية بصفتهم أسرى حرية، وأسرى حرب، محميّين وفق الاتفاقيات والقرارات الدولية، واعتمد على البند الثالث من اتفاقية جنيف الرابعة وأعاد ذكره عشرات المرات عبر صفحات الكتاب، وحبّذا لو اقتبسه بالكامل، ولو مرّة واحدة، ويبدو أنّه وقع لديه التباس في البند المشار إليه و/ أو المقصود (يذكر أحيانا اتفاقية جنيف الثالثة وأحيانا الرابعة).
واجه الكاتب سجّانه يوميا من خلال رفضه ارتداء الزي الذي تفرضه إدارة سجون الاحتلال على الأسرى مما أدى لحرمانه من زيارة عائلته بشكل منتظم، وتعرّضه للاعتداء والضرب والتهديد، والمحاكم التأديبيّة، والعقوبات الماليّة المتكرّرة، والعزل داخل زنازين الاحتلال وأقبية سجونه.
صوّر ترحاله بواسطة البوسطة الصمّاء وطقوسها في شتّى أرجاء الوطن عبر سجونه؛ الجلبوع، شطّة، الجلمة، مجيدو، هدريم، مسلخ الرملة، أوهلي كيدار وإيشيل/ بئر السبع، نفحة وريمون، ناهيك عن المعابر سيّئة الصيت.
نوّه الكاتب بتقدير الأسير لكل الأشياء خارج الزنازين من حجر وشجر وعصافير ورؤية النجوم والسماء وبلا سياج علوي (أعادني للقائي بعبد العظيم عبد الحق يوم 19 تموز 2023 حين التقيته في سجن النقب الصحراوي وحدّثني عن جمال التناقضات في الدنيا، وليل النقب والسما المفتوحة، أوّل مرّة منذ 23 عاما “بشوف السما بالليل”! ومنذ وصوله سجن النقب لم ينَمْ في الليل، صدمني وأعادني في حينه للقائي بالأسيرة شروق دويات في سجن الدامون أواخر عام 2021 حين حدّثتني عن فترة العزل في الجلبوع برفقة مُنى، أحلى فترة منذ أسرها حيث تمتّعت بجمال البلاد؛ شافت السماء والجبال والخَضار والعصافير… والغروب دون شبك وقضبان، تمتّعت بالسماء الحقيقي!)، وكذلك الأرض والتراب والحيوانات، واشتهائه لطعم البطيخ، والحرية المشتهاة.
تناول مراسيم زيارة الأهل ومتاعبها وأهميتها للأسير وأهله، وطقوس إخبار الأسير بموت قريب وعزيز.
تناول أهميّة الرسائل بالنسبة للأسير، ودور برامج الراديو التي تعنى بالأسرى، ودور الإعلام “التغطية الإعلامية تحقّق للأسير الكثير ولمطالبه، وقد تنجز له أضعاف أضعاف ما يمكن أن يقوم به وحده من الترويج والايضاح داخل المعتقل وفي مواجهة إدارة المعتقل” (ص. 119)، وأهميّة الإسناد الشعبي.
وكذلك قدرة الأسير على التكيّف، “صنعتُ من الغلاف القصديري للطعام هوائي (أنتين) وتوفقت باستقبال بث الإذاعات” (ص.106)، فالحاجة أم الاختراع.
تناول الإضرابات عن الطعام، سيرورتها وصيرورتها، وأهميّتها و”المكاسب” من ورائها.
أسرف الكاتب بالتنظير المبتذل حول الانتداب ووعد بلفور المشؤوم، والمشروع الصهيوني وأهدافه، والمد الاستعماري العالمي، وكذلك الأمر بالنسبة لدور المرأة ومكانتها، حيث يجب أن يكون بنيوياً بعيداً عن الشعاراتيّة المقيتة، والذكوريّة الشرقيّة (ص. 179).
استعان الكاتب بجبران خليل جبران وأقحمه، واعتبره شاعراً، لا غير، واقتبس الكثير من أقواله الفلسفيّة وروحانيّاته، وكذلك الأمر بالنسبة للفيلسوف كونفوشيوس، وأينشتين (من أين لك هذا؟).
التكرار سيّد الموقف؛ فجاء في البدء بكلمة الشكر تكراره لأصدقائي راتب حريبات وابنة شقيقته ضحى وثائر حماد “بطل فلسطين”، على حدّ قوله.
وكرّر، مُحبِطاً، “عزيزي القارئ” 47 مرة! في الكتاب مما جعلني أتساءل؛ هل يشكّك في مدى فهم القارئ؟ أم نظرة استعلائية؟ أم هو انعدام ثقة صاحبه؟
وكذلك تعلّمه بكليّة الطيران في يوغوسلافيا، ومشهد بساط الصراصير في أرضية الزنزانة، وأساسيات مشروعه وخطواته وتبعاتها التمرديّة (عدم الوقوف على العدد، عدم ارتداء لباس الشاباص، عدو الخروج لدق الشبابيك التي جاء ذكرها عشرات المرّات).
وكذلك الأمر البرش/ السرير (كان يكفيه البرش أو السرير)، الكنتينة/ المقصف، الراديو/ الترانزستور، إيشل/ بئر السبع، النحشون/ مؤسسة نقل الأسرى، الشاباس-الشاباص/ مصلحة السجون، حافلة النقل/ البوسطة، حافلات/ باصات.
ذكر الكاتب كنية أخته (أم ياسر) عشرات المرات، ولو اكتفى بذكرها مرة واحدة وفي الأُخريات “أختي” لكان وقعها أبلغ بكثير.
الألقاب لا تصنع أصحابها ولا تزيدهم شرفاً “القائد الفذ، المناضل، “المناضل الأديب”، “الأخ القائد الفتحاوي”، “الأخ القائد الفتحاوي والمفكر”، “المناضل والقائد”، وغيرها من الألقاب الرنّانة (أخذتني مجدّدا لنصيحة أستاذ جامعي حين درست في القدس: “اسمع يا ابني، من يملك الشرف لا يبحث عنه”، وكذلك لمقالة كتبها في حينه صديقي الكاتب فراس حج محمد تحت عنوان “لماذا لا نبتعد عن الألقاب، ونحتفي بجماليات أسمائنا؟” وأنهاها: “وأخيراً تذكّروا بأن الألقاب ما هي إلا أوسمة للحمقى!!”).
وجدت في الكتاب الكثير من الأخطاء المعرفيّة (علماً أنّ الكاتب الأسير لا يتحمّل مسؤوليّتها) ممّا جعلني أتساءل: ما هو دور المشرف على التنقيح؟ وما هو دور الناشر؟ هناك بون شاسع بين رئيس مصلحة السجون ورئيس الشاباك (ص. 12)، المغتصب المتسلسل (Serial rapist) هو بِني (وليس بن) سيلع وحوكم عام 2000 (وليس 2005، 2006) (ص. 16،17 وصفحة 122، 125، 126)، “شيروت بتي (وليس بيت) هسوهر (ص.17)، ذرية اسبط التائه؟، المناضل الإيرلندي الذي قضى نحبه وهو مضرب عن الطعام هو بوبي ساندز (وليس ساندرز/ لاعب كرة القدم الأمريكية)، سورغيم وليس سيروحيم، أوهلي كيدار وليس الهوليدار أو الهوليكدار، شاليط وليس شاليت، ليل هسيدِر وليس ليل هسينار، لا توجد أعياد لليهود في شهر 11 (ص. 210)، (70% ص. 212 لا داعي لها)، هفرداة وليس الأفرداة، الشنيور وليس الصنصور، غاب عنه اسم فرانك رومينو (أستاذ القانون في جامعة السوربون الذي أضرب عن الطعام حين تم اعتقاله في سجون الاحتلال لتضامنه مع قضيّة الخان الأحمر ص. 372) وغيرها.
وكذلك خلط الأمور وتبدّل الأمكنة (بئر السبع وهدريم ص. 121، مستشفى الجلمة ص. 315، على سبيل المثال) والأزمنة (4/17 وليس 17/11/2017 ص. 357).
وتساءلت: لماذا حذف “بسم الله الرحمن الرحيم” في مراسلاته مع رئيس حكومة الاحتلال ورئيس مصلحة السجون؟ (ص. 12) بينما أبقى عليها حين خاطب جماهير الشعب الفلسطيني؟
استعان الكاتب بأسلوب الحوار، ولا داعي لذكر اسمه (كفاح) في كلّ حوار، فهو بغنى عن التعريف.
لجأ الكاتب للعاميّة في بعض الحوارات، لكنه أضافها بالفصحى بين أقواس، أو بالعكس، وهو بغنى عن ذلك، بل أضعفت النص (ص. 306-308، ص. 402-403 على سبيل المثال، لا الحصر).
راق لي تواضع الكاتب؛ “أستطيع أن أدّعي وبكل تواضع أنه لا يرافقني أحد البتة في الحركة الأسيرة وذلك لثراء وكثرة تجاربي معهم” (ص. 71)، “كنت أعدُّ من المتعلمين وكذلك من المثقفين. بل كنت أتبجح أحياناً بأن السجن لم يزودني أو يرفدني بأية إضافة إلى ما كنت عليه قبل السجن!”. (ص. 100)، “فكما هناك حالة بين الأسرى اسمها مروان هناك حالة اسمها كابتن أبو قصي” (ص. 235)، “أنني أتيت بما لم يأت به ابن سينا أو أديسون أو آينشتين أو أحمد زويل أو العلامة علي نايفة” (ص. 387).
ملاحظات لا بدّ منها؛
لا بدّ من همسة في أذن الكاتب؛ من لقاءاتي مع الأسرى في السنوات الأخيرة تبيّن لي أن أسرانا يمثّلون الكلّ الفلسطيني، بكلّ ألوانه وأطيافه، بعيداً عن الفئوية البغيضة.
توجّب عليه توضيح بعض الرموز؛ م. م (مسئول قسم)، م. ع (موجّه عام)، وبعض الهوامش غير دقيقة، كتعريفه للمعبار، على سبيل المثال، لا الحصر.
وأخيراً؛ خلال قراءتي للكتاب التقيت بأصدقاء جمعتني بهم السنوات الأخيرة في مشروعي التواصلي مع أسرى خلف القضبان؛ كريم يونس، ماهر يونس، صالح أبو مخ، أحمد جابر، راتب حريبات، ياسر أبو بكر، مروان البرغوثي، أحمد سعدات، ناصر عويس، ناصر أبو سرور، رائد الشافعي، أيمن الشرباتي/ المواطن (لا يكف عن ديدنه بحرق العلم الإسرائيلي في أي سجن يكون فيه)، أحمد أبو خضر، باسم خندقجي، ناصر أبو حميد، إياد رضوان/ طبنجة، ناصر الشاويش، قتيبة مسلم، خليل أبو عرام وغيرهم وكم أتوق لصورة فوج تجمعني بهم على شرفة الحريّة الحيفاويّة.
قلتها مراراً؛ لكلّ أسير حكاية وقصّة، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيقها، كلّ أسير وحكايته، وها هو كفاح يسطّر بعضاً ممّا دوّنه من فنّ السيرة في السجون ليضع لبنة إضافية في فسيفساء لم يكتمل.
[*] كفاح محمد عبد الرحمن حطاب أعتقل 4 حزيران 2003، حكم بالمؤبد مرتين، تحرّر بصفقة طوفان الأحرار يوم 27 شباط 2025