أمد/
في قلب أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، حيث تُناقش الأفكار العظيمة في الساحات العامة وتُبنى الإمبراطوريات بالكلمات، عاشت امرأة استثنائية اسمها أسبازيا، لم تكن أثينيةً بالولادة، بل وُلدت في ميليتوس، إحدى مدن آسيا الصغرى، لكنها أصبحت أيقونةً للفكر والفلسفة في مدينةٍ كانت تُهمش صوت المرأة.
الوصول إلى أثينا: تحدّي التقاليد
عندما قدمت أسبازيا إلى أثينا مع زوجها الثري بيريكليس القائد السياسي الأشهر، لم تكن مجرد رفيقة له. كانت مُعلِّمةً ومُفكِّرةً تجذب إليها ألمع العقول، من بينهم “سقراط” الشاب، الذي كان يزور منزلها بانتظام ليشارك في حواراتها الفلسفية. في مجتمعٍ كان يحظر على النساء المشاركة في الحياة العامة، تحوّل منزلها إلى “صالون ثقافي” سري، حيث اجتمع فلاسفةٌ مثل أناكساغوراس، وأفلاطون لاحقا، وفنانون مثل فيدياس.
أسبازيا وسقراط: حوار الحكمة
تقول الروايات التاريخية، خاصةً في كتابات “بلوتارخ” وحوارات أفلاطون مثل “مينيكسينوس”، إن سقراط اعترف بتأثره بأسبازيا، واصفا إياها بأنها “معلّمته في فن الخطابة وفلسفة الحب”. في أحد الحوارات المتخيَّلة، يسألها سقراط بفضوله المعهود:
— “كيف لامرأةٍ أن تفهم العدالة أكثر من رجال أثينا؟”
تردّ أسبازيا بابتسامة هادئة:
— “لأنني أرى العالم من خارجه، يا سقراط. كغريبةٍ هنا، أرى تحيّزاتكم بوضوح، بينما أنتم تغرقون فيها”.
التحديات والانتقادات
واجهت أسبازيا هجوما شرسا من خصوم بيريكليس، الذين اتهموها بالتدخل في شؤون الدولة، وحتى بإشعال حرب البيلوبونيز! الكوميدي “أريستوفانيس” سخر منها في مسرحياته، ووصفها البعض بـ”الهيتيرا” (الرفيقة المُتعلمة)، محاولين تقليص مكانتها الفكرية. لكن سقراط دافع عنها، قائلا: “لو كان الرجال يفهمون حكمتها كما أفعل، لخجلوا من جهلهم”.
إرث خفيٌّ لكنه عميق
لم تُدوّن كتابات أسبازيا نفسها لكن بصماتها ظهرت في أفكار تلاميذها. يُقال إنها علّمت سقراط “فن السؤال” الذي اشتهر به، كما ألهمته رؤيتها حول المساواة بين الجنسين، والتي تحدث عنها في جمهورية أفلاطون لاحقا، حتى خطابات بيريكليس الشهيرة، مثل خطبة الجنازة التي مجّدت الديمقراطية الأثينية، يُشاع أن أسبازيا هي من صاغتها.
رغم أن التاريخ الرسمي أهمل ذكرها غالبا، بقيت أسبازيا رمزا للمرأة التي تحدّت قيود عصرها. لم تكن مجرد “رفيقة بيريكليس”، بل فيلسوفةً رأت في الحوار أداةً للتغيير، وزرعت بذور التساؤل التي نقلها سقراط إلى الأجيال التالية.
كما كتبت الكاتبة الحديثة “مادلين هنري” : “لو كانت أسبازيا رجلا لذُكرت إلى جانب سقراط وأرسطو، لكنها كانت امرأة… فاكتفى التاريخ بنسبها إلى ظل رجل”.