أمد/
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان قد مضى على معاناة «الهنود الحمر»، سكان أمريكا الشمالية الأصليين، أكثر من قرن، مملوء بالقتل والنهب والتهجير، والانتهاكات غير الإنسانية من قبل المستوطنين الأوروبيين باعتبار أن «الهنود الحمر» عقبة أمام سيطرة المستوطنين، وهيمنتهم على الأرض وخيراتها التي تتطلب إبادة هذه القبائل الهندية، وحصر ما يتبقى منها في محميات، ومعازل، بعيداً عن قراها وشعابها وتقاليدها وعاداتها وتراثها.
قرأت يوماً قصة تروي حكاية قبيلة هندية تسمى «الغراب» طاردتها عصبة مستوطنين أوروبيين، وهجَّرتها قسراً إلى أرض أخرى مختلفة في صفاتها وطبيعتها وثقافتها وطرز حياتها.
يقول شيخ هذه القبيلة: «ماتت ثقافة شعبي، ومنظومة قيمه، وجاء الرجل الأبيض ليحرمنا من مهن وعادات اعتدنا عليها، واستسلمنا إلى اليأس وفقدنا الرغبة في الحياة».
مورس التطهير العرقي والإبادة في داكوتا الجنوبية وكولورادو وجورجيا وأوهايو وغيرها، ومن نجا من القتل عاش على فتات الموائد وفي البطالة، وشاهدت بعيني قبل عقد من الزمان، في مدينة نائية، أفراداً من أحفاد الهنود الحمر، يرقدون على الأرصفة، وفي أوضاع بؤس وإدمان، توجع القلب الإنساني.
كما قرأت في السنوات الأخيرة خطاباً لزعيم هندي أحمر، والمسمى «سياتل» في الشمال الغربي الباسيفيكي، أرسله إلى الرئيس الأمريكي في عام 1854، ويقول فيه: «إن الرئيس الأبيض الكبير يريد شراء أرضنا وقد سبق للرجل الأبيض أن أجبر آباءنا على الهجرة من أراضينا، والتوغل غرباً، وأصبح الهندي اليوم موضع شفقة ورحمة، بوصفه ضحية «ركب التقدم». إن رماد آبائنا وأجدادنا مقدس، والتربة التي يرقدون تحتها طهورة ومباركة، أما أنتم أيها الرئيس، فقد ابتعدتم عن مراقد أسلافكم غير آسفين على ذلك».
ويضيف الزعيم الهندي الأحمر، والذي كان شيخاً لست قبائل هندية، في رسالته التاريخية، ويقول:
«ما إن يجتاز أمواتكم أبواب قبورهم، ويتوغلوا بعيداً خلف عالم النجوم، حتى يتوقف حبهم لأرض مولدهم، أما أمواتنا فلن يكفّوا أبداً عن استذكار العالم الجميل الذي منحهم الحياة، إنهم لا يزالون يحبون وديانه وخلجانه اللازوردية، وسيحنّون إلى لقاء ذوي القلوب من أحبائهم وأقاربهم.
أود أن أحيطكم علماً بأن قبولنا بالتهجير القسري سيكون مشروطاً بعدم حرماننا من حق القيام بزيارة قبور آبائنا وأطفالنا ومحبِّينا، من غير إزعاج أو مضايقة. إن كل حبة من تراب هذه الأرض مقدسة بتقدير أفراد شعبي، وإن كل جبل وواد وكل سهل، قد شهد أحداثاً سعيدة أو مؤلمة، في زمن مضى، حتى الصخور الصماء، والتي تزداد نقاء وطهارة بفعل الشمس وتنتصب بشموخ، تهتز طرباً لذكرى الأحداث العظام لحياة شعبي، بل حتى ذرات التراب التي تطؤونها بأقدامكم، تتجاوب مع خطوات أقدامهم بصدق ومودة أشد من تجاوبها مع وقع أقدامكم، ذلك لأنها غنية بدماء أسلافنا، وأن مقاتلينا الأبطال الذين رحلوا بعيداً عن هذه الدنيا، والفتيات والأمهات والأطفال، الذين عاشوا على هذه الأرض، وسعدوا لفترة قصيرة فيها، سيواصلون كل مساء استقبال ظلال الأرواح الخالدة عند عودتها إلى أرض الوطن، وعندما يهلك آخر رجل من الهنود الحمر، وتصبح ذكرى قبائلي مجرد أسطورة يتداولها الرجل الأبيض، فإن سواحل الباسيفيكي ستعج بأشباح أبناء قبائلي الموتى، وعندما يظن أحفادكم أيها الرئيس أنهم وحدهم فوق حقول هذه الأرض، وفي متاجرها وفوق شوارعها، أو في ممرات غاباتها الكثيفة الصامتة، لا ينبغي لهم التوهم بأنهم بمفردهم، فلا يوجد مكان على سطح هذه الأرض كُرِّس للعزلة، وعندما يخيم السكون ليلاً في شوارع مدنكم، وتظنون أنها مهجورة، فإنها في الواقع مملوءة بجحافل الرجال العائدين، الذين انتشروا يوماً فوقها، ولا يزالون يحبون هذه الأرض الجميلة.
«سيدي الرئيس، تتعاقب القبائل الواحدة تلو الأخرى، والأمم أمة بعد أمة، مثل أمواج البحر، هذا هو نظام الطبيعة، ولعل موعد انحطاط أمتكم بعيد، ولكنه آت لا محالة».
……..
بعد نحو مئة وسبعين عاماً من رسالة الزعيم الهندي سياتل إلى الرئيس الأمريكي الأبيض، في البيت الأبيض في عام 1854، يعيد «مقاولون» وساسة جدد ومستوطنون غرباء وقوى أصولية إنجيلية انتهاج سياسات التطهير والإبادة و«قانون الغاب» ويلبسونها ثياب «الفرصة العقارية»، وخطاب المطوِّر العقاري المعاصر، مبشّرين شعب غزة الفلسطيني العربي بتهجيره إلى أرض أجمل وأكثر راحة واستقراراً!
رسالة الزعيم الهندي الأحمر عرفت باسم «كلمة رثاء» أو أغنية «البجع»، التي كان البجع ينشدها قبيل موته، أما رسالة القادرين على تركيب الوطن حجراً على حجر، ومن حجر لا من كلام، فهي: «الوطن غير قابل للبيع أو الابتلاع»، وهم «طائر الفينيق الكنعاني»، الذي يقوم من تحت الرماد والركام والأوجاع. طائر هو رمز للسلام والتعايش والمحبة في ثقافة حضارات عظيمة.