أمد/
شاركت بمعرض عمان الدولي للكتاب في دورته الثالثة والعشرين، والتقيت بالأديب رشيد النجّاب الذي أهداني نسخة من كتابه “الخَرُّوبة” (رواية قصيرة، 111 صفحة، صورة الغلاف: بطل الرواية رشيد النجّاب (جد المؤلف)، تصميم الغلاف: م. سجود العناوسة، الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون في عمان).
الخَرّوب شجرة أصيلة ممتدّة الظلال ودائمة الخضرة، معمّرة، ومنها يُحضَّر رُبّ ودبس الخروب شراب ويضاف للعصيدة؛ وجاء ذكر الخرُّوبة للمرّة الأولى في صفحة 21، وكانت معلم وإشارة، فلم تكن أسماء للطرقات، واعتاد الناس للإشارة لعلامة واضحة مميّزة تكون نقطة فارقة متعارفاً عليها، تماماً، بلا تشبيه، كالسيّارة الخربانة التي أشار لي شاعر صديق في إحدى مدن الضفّة الغربيّة واصفاً لي مكان سكناه. إنها خروبة قديمة قدم الزمان/ “خرُّوبة النحلة” القديمة التي “استقرَّت بين أغصانها نحلة وجعلت لها فيها مقرًّا” وصارت معلماً مشهوراً ممّا أغاظ الاحتلال واغتالها (ص 56)، تماماً كما اغتال السجّان ريحانة صديقي الأسير محمد مرداوي في سجن النقب الصحراوي، ووردة صديقي المرحوم زهير لبادة الحمراء التي صادرها السجّان وأعدمها. باتت الخروبة مقرّاً ومقاماً، منها تم اقتياد رشيد للجنديّة، “وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم”، صارت صومعة الوالدة ومعبدها وموئلها اليومي، المرصد وخروبة الانتظار، وتعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة في ظلّها.
جاء في الإهداء: “إلى أرواح عانقت الطبيعة الجميلة في جيبيا… جدتي وجدّي…أمي وأبي”، ولفتت انتباهي “جيبْيا” (بلدة آبائه وأجداده، قرية جبليّة فلسطينيّة تقع شمالي رام الله، تحيطها أراضي قرى: كوبر، وبرهام، وأم صفا).
أخذني الكتاب مجدّداً إلى قصيدة “رجل وخشف في الحديقة” التي أهداها شاعرنا محمود درويش إلى سليمان النجّاب (ديوان لا تعتذر عمّا فعلت).
يجمع الكتاب ما بين السيرة الغيريّة وأدب الرحلات، سيرة جدّه ومرحلته. يصوّر رحلة العذاب وطريق الآلام من جيبيا الوادعة إلى بعلبك السوريّة خلال رحلة تجنيد قسريّة في جيش السلطان العثماني.
كتب صديقي الأديب المقدسيّ محمود شقير في التظهير: “حين شرع رشيد عبد الرحمن النجّاب في كتابة سيرة جدّه رشيد لم يجد بُدًّا، بسبب شحّ المعلومات الشخصية لديه عن الجد، من إطلاق العنان لمخيّلته لكي تستحضر المرحلة التي عاش فيها جدّه أواخر أيام الدولة العثمانيّة التي شهدت إقدام الدولة على تجنيد الشباب الفلسطينيين والزج بهم في حروبها العديدة في أصقاع الأرض المختلفة”، حروب لا شبق لهم بها ولا عبق.
يصوّر كاتب “أدب الرحلات” ما صادفه من أمور وأحداث خلال سفرٍ أو رحلةٍ قام بها لأحد البلدان، يتناول معالمها، عاداتها وتقاليدها، أهلها وتاريخها، يسجّل انطباعاته ممّا شاهده هناك، وها هو الكاتب يصوّر رحلة جدّه، سميّه، رشيد النجّاب “حامل الكتاب”، “كان متحفِّزاً للمعرفة، تواقاً لما هو جديد، قادراً على تمييز الغث من السمين، يزنها بمقياس منطقه” (ص. 77)، رحلة مُتخيّلة لم يشارك فيها، بتفاصيل التفاصيل، ولم تغَب عنه شاردة وواردة.
وصف الرحلة بالقطار لأول مرّة، حكي يشابه الكذب (أعادني لمشواري الأول بالقطار، ومشوار أحفادي حين طلبا منّي التعرّف على القطار، ورحلتي الأولى لأوروبا بقطار عابر للدول)، قطار بخاري، وصفه بمقاعده، منها المقاعد الوثيرة المنجَّدة بالقطيفة، والأرضيات المفروشة بالبسط والسجاد، ومساره، من طقطق لسلامو عليكو، أدب رحلات كلاسيكي (ص. 41 فصاعداً)، ولمست هذه الظاهرة حين زارني أصدقاء من خارج البلاد، شاهدتهم يدوّنون كلّ ما يشاهدونه، والأمكنة والأسماء، كلّ صغيرة وكبيرة، ومنهم اكتسبت هذه العادة في مشاويري في السنوات الأخيرة.
تتناول الرواية عمليّة تجنيد السلطات العثمانيّة للشباب عامّة ولجدّه رشيد النجّاب خاصّة، أبان الحرب العالميّة الأولى، وما واكبها حتّى عودته إلى قريته، وعلاقة الناس بالحاكم العثماني الجائر، وكان التجنيد إلى غزة، أو مصر، أو البلقان، أو دمشق.
حاول الشباب التهرّب من تلك الخدمة ولكن جنود السلطان كانوا بالمرصاد “استفسر عن ثلاثة آخرين، فتبيَّن أن اثنين منهم قد توفيّا مريضين بالحمى، وأن الثالث غادر القرية قبل سنوات ولا أحد يدري عن مصيره شيئاً”.
صوّر الكاتب عمليّة التجنيد وما يرافقها من قلق العائلة؛ والرحلة الشاقة والمضنية بالقطار من جيبيا في الريف الفلسطيني إلى بعلبك، وكذلك اليوم الأوّل في العسكريّة (ص. 81)، استحقاق غير عادل، لدولة لم تتذكَّر رعاياها عندما استحقَّ تعليمهم، ولا أمّنت لهم رعاية صحية، ولا ظروفاً معيشية كريمة، ولكنها تذكّرت أن لها رعايا عند جني الضرائب، وعند الحاجة إلى شباب تزجُّ بهم في أتون الحرب، حرب غريبة في بلاد غريبة، ليس لهم فيها ناقة ولا جمل”، منوّهاً إلى أنّ أبناء الطبقات المرفهّة المنعمة قد دفعوا البدلات المالية وربما الرشاوى لافتداء أبنائهم من الخدمة العسكريّة… ومن ثم العودة بعد طول معاناة.
دوّن بحرفيّة تلك الأمكنة التي مرّ بها رشيد؛ بداية في قريته جيبيا، بير زيت، كوبر، برهام، أم صفاة، خربة “صِيّا”، كفر أشوع، جفنا، عين سينيا، عطارة، عجول، عبوين، عارورة، دير السودان، القدس، بيت صفافا، بتير، دير الشيخ، دير أبان، وادي الصرار/ نهر روبين، الرملة واللد، يافا، العباسية، سلمة، طولكرم، أبو قش، طولكرم/ طول كرم، برقة، نابلس، جنين، سيلة الظهر، العفولة، حيفا، طبريا، بيسان/ عاصمة الفراعنة الفلسطينية، رام الله، سمخ (لم يرُق للصهاينة تركها، مسحوها عن الوجود، وشرّدوا أهاليها، وأقاموا مستوطنة بديلة باسم محرّف “تسيماح”) ، دمشق، درعا، بعلبك (مدينة الشمس، وجمالها المدهش، وهياكل أبنيتها الشامخة، ومعالمها الأثرية، ) ، سهل البقاع، دمشق (وسوق الحميدية، وسوق الصاغة، وسوق البزورية، وسوق مستلزمات الأعراس، وسوق مستلزمات الخيول، وقلعة دمشق)، والعودة إليها سالماً.
كما دوّن لنا تلك المعالم التي مرّ بها رشيد في رحلته؛ “الهْرُبّة”، مقام بايزيد البسطامي، السقيفة، أحراش النبي صالح، وادي ياسين، طريق نابلس القدس، مفرق “دورا القرع”، محطة القطارات المركزية/ القدس، أسوار القدس وأبوابها، وحاراتها (البقعا، البقعا الفوقا، القطمون)، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، كنائس القدس، كنيسة القيامة، مقام الشيخ عبد المحسن، مقام الأربعين، عين “النبّول”، محطة “المسعوديّة”، مرج بني عامر (وصفه رائع)، غور الأردن، جبل “صيا”، عروض أبو زميرو، مقام الشيخ “أحمد الدين البرهاني”، باب الخليل وبال العامود، جسر المجامع، وادي اليرموك، محطات القطار الحِمَّة، وزيزون، وتل الشهاب، والمزيريب، محطة الحجاز، نهر بردى، جبل قاسيون، معسكر “صيدنايا” (وليس صدنايا).
كما وصوّر لنا النباتات والأشجار؛ الخروب، الكينا، الفلفل البري، الباذنجان البتّيري، العنب والصبر، البطيخ، التين، والزيتون. والمأكولات؛ الكوسا والبندورة، الزبيب والقطين، خبز الطابون، البيض وزيت الزيتون، والجبن الأبيض والعسل. ولم ينسَ الشنانير، والحمامة البريّة.
استعان الكاتب باللغة المحكيّة ممّا أضفى على الرواية أصالة، واستعمل الأمثلة الشعبيّة الفلسطينيّة؛
ابنِك رغيف في باطية، اللي بوقع من السما بتتلقَّاه الأرض، إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني،
الصباح رباح، بيت البنات خراب، مثل خبز الشعير مأكول مذموم، من سَرى باع واشترى، يسمع دبيب النمل، اللي خلّف ما مات.
راقت لي السخرية العفوية “اتفضل خذه وسلمه، للموت، “ما هو انت لا حبلت، ولا ولدت، ولا مصّصت، ولا بتعرف شو يعني الولد لأمه”، والطيابة القرويّة “قوم يمه نام، الصباح رباح، وملحقين ع الخُرّاف”، “تدَمشَقَ”، و”تَبَغدَد”.
وكذلك الأمر بالنسبة للسخرية السوداء “ثلاثة خيالة وخمسة من المشاة لتجنيد شاب واحد! هل هي سخرية القدر من السلطنة الممتدة على ثلاث قارات؟! أم هي هذه القرية الصغيرة أم هي قوة رشيد”! همس القائد في سريرته: “الحق أقول كم هو قوي هذا الشاب!” (ص. 19) ممّا أخذني إلى ما سمعته من أسرى وأسيرات كثر وصفوا لي مشهديّة ساعة الاعتقال؛ أخبرتني سهام أبو عياش حين التقيتها في سجن الدامون يوم 21 شباط 2024 عن الاعتقال المفاجئ؛ (الساعة ثنتين نصّ الليل، ليلة 24.12، المطر غزير، أكثر من 30 آليّة عسكريّة مدجّجة وأكثر من 40 جنديا اقتحموا البيت مثل الجراد، صادروا اللابتوب والجوّالات وكيس كتب كيمياء).
ذكر الكاتب بعض العادات؛ استقبال الفاردة على أطراف البلد، استقبال الغريب، “اشترط القائد أن يأكل مَن أحضروا الطعام، والمختار، قبل الجميع للتأكد من غياب نيّة التسميم”، “يتولّى أمر الدابة وربطها في مكان مناسب وتزويدها بالعلف والماء” و”العونة” ونخوة القرويّين في ذاك الزمن الجميل.
استعمال الكاتب للهوامش جاء موفقاً؛ فراري، الجودلة/ الجنبية، هيش، الماسية، “شلتونة”، اتفاقية سايكس بيكو، ولكن غاب عنه الزير (وعاء/ جرّة فخّار لشرب الماء، أحسن من أجدع ثلاجة)
والأشولة (أرغفة صغيرة من خبز الشعير) والباطية.
صوّر الكاتب الريف الفلسطينيّ؛ السقيفة، معرش العنب، الحاكورة (زوجين من الأغنام، بضع دجاجات وديك، حمار العائلة، الكلب)، عريشة تتدلّى من سقفها وجوانبها قطوف العنب الأبيض والأسود، و”عنب جيبيا غير، وهذا الصبر ما في مِثلة في المنطقة، كلها وصحتين وعافية” – ما في حدا بقول عن زيته عِكِر.
للكاتب نظرة ثاقبة، يصوّر بكاء الرجال بالكلمات؛ “دمعة الأب شديدة الألم في نفس البنت، وهي أشد ألماً في نفس الأب إن أدرك أن البنت لاحظتها”، وألم الغربة القسرية.
يرسم صورة جدّه رشيد قياديّاً بالفطرة؛ “كان كثيرون يطمئنون لوجود رشيد بينهم في هذه الجولات بناءً على ما خبروه منه من مواقف اتسمت بالحكمة، وحسن إدارة المواقف، والقدرة على تخليص المتورِّطين في مواقف صعبة، وربما تكون محرجة أحياناً” (ص. 90)، وتناقل النضال بين الأجيال حين تساءل: “هل علم ولده سليمان بهذه التجربة وهو يكابد ما استجد من فنون التعذيب خلال النصف الثاني من القرن العشرين سيما في السجون الإسرائيلية؟” (ص. 88)، وأخذني مجدّداً للقائي بالصديق أحمد عارضة في سجن الجلبوع يوم 7 آب 2023 وكان نور محور اللقاء ونجمه، وصدمني أحمد حين واجهني بالحقيقة المرّة (صدقاً، لم أفكّر بها من قبل) أنّ المصاب الجلل في نفس الدائرة، ذات العائلات تواجه الاعتقال والأسر والجروح والإعاقات وهدم المنازل… والشهادة.
راق لي استحضاره صوت فيروز في كلمات الشاعر ميشيل طراد وأغنية “بكوخنا يا ابني”: “وقفوا ع شباكك يدقّو العصافير بجوانِحُن… يا جوانحن المتشرنة” عقوبة “الصرارة” وأثرها على تعلّم رشيد على التحدّي ليحقّق نبوءة “من يراهن على عزم رشيد ليس بخاسر”.
للمتنبّي عتب على الكاتب؛ فهناك خطأ بعجز بيت الشعر (ص. 30)، والصحيح:
“الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوّل وهي المحلّ الثاني”
راق لي استقبال مصلحة لابنها: “رشيد! … هذا رشيد! ألف الحمد لله على سلامتك يمّه يا حبيبي” (ص 107).
ما أجمل صوت زغرودة العودة المشتهاة!
أخذتني النهاية لما سمعته في الفترة الأخيرة من أسرى تحرّروا في صفقة طوفان الأحرار؛ “أما ما بعد ذلك يا أمي فبداية عهد جديد” (ص. 111)
ويبقى السؤال عالقاً: هل “الخرُّوبة” رواية تاريخيّة أم أنّها سيرة غيريّة لجدّ الكاتب؟