أمد/
في خلوة، غير مرتبة مسبقاً، جرت في صيف العام المنصرم، في مدينة عربية، جرى الحديث الحواري بين عدد من المفكرين حول فكرة «الوحدة العربية» ومصيرها بعد أن توارى وخبا حتى مجرد التفكير فيها.
كانت التجارب الاتحادية مفتوحة للحوار، بدءاً من مفاهيم طرحها الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»، ومروراً بتجارب التوحيد في جزيرة العرب وليبيا واليمن، ومباحثات القادة العرب في منتصف الأربعينات، التي أثمرت «جامعة الدول العربية»، وصولاً إلى فشل تجربة الوحدة المصرية – السورية، وحصاد قمم عربية في إطار النظام الإقليمي العربي، وكيف كانت تنتهي مفاعيلها تحت وطأة النزاعات العربية العربية، إضافة إلى فشل تجربة مجلس التعاون المغاربي، والنجاح النسبي لتجربة مجلس التعاون الخليجي.
* المحصلة في حوار تلك الخلوة الفكرية أن الفكر العربي في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تراجعت لديه مسألة الوحدة العربية، وما عاد يعطيها الاهتمام الذي تستحقه، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة، كما تراجع الاهتمام الرسمي العربي بهذه المسألة لمصالح أطر فضفاضة، ومحاور مرنة ومتغيرة، لا تتجاوز الأفق التضامني كسقف للعمل العربي المشترك.
وفي ظل هذا التراجع، وله أسبابه وظروفه، رصد المشاركون في الخلوة الحوارية حدوث تطور هائل في خطاب الوحدويين العرب، ومن أبرز معالمه، حدوث مصالحة مع الدولة الوطنية القُطرية، والدعوة إلى ترسيخ دعائمها واستقرارها، والمحافظة على كيانها.
وغاب تماماً خطاب «الدولة الوحدوية الاندماجية المركزية»، وحضر خطاب يقبل الوحدات الجهوية التي تأخذ شكل التجمعات الفرعية، والاتحادات الاقتصادية والدفاعية.
ومن بين التطورات الأخرى في مضمون الفكر العربي، استبعاد الوسائل غير الديمقراطية في تحقيق الاتحادات، والحاجة الضرورية لخيار التوافق الشعبي، باعتبار أن هذه الاتحادات هي في مصلحة الناس، وباتجاه تحسين شروط معيشتهم، وتوفير حقوقهم المدنية والاجتماعية، وكفالتها.
كانت الوحدة العربية هي كل قضية الوحدويين العرب، ولم تكن، وإلى حد كبير، تشغلهم مسائل العدل الاجتماعي ولا حتى الديمقراطية.
اليوم، المشهد الفكري مختلف، ويعرف الوحدويون المعضلات الموضوعية التي أعاقت تحقيق الوحدة العربية، والتي من بينها التباين في درجة التطور بين الأقطار العربية، ومعضلة التدخل الإقليمي والدولي في الشأن العربي، وعدم التوازن قي القوة بين الشركاء المفترضين، وتهميش أو هشاشة مؤسسة النظام العربي الرسمي (الجامعة العربية)، وعوامل أخرى.
اليوم، الدولة الوطنية هي القاعدة، والتسليم بها هو الأساس، والعمل على تقوية نسيجها المدني والاجتماعي، وبما يحول دون تفتيتها وفشلها، هو مصلحة قومية حيوية.
عصارات أخرى تمخضت عنها خلوة الحوار، من بينها: لا أحد يحتكر مفردات الأمة العربية وموروثاتها الثقافية والقيمية، لا الديمقراطية حكر لليبراليين، ولا الميراث الديني حكر للإسلامويين، ولا التكامل أو الاتحاد حكر للوحدويين. إن كل هذه الرموز والقيم والآمال ملكية جماعية عربية، وليست صكاً مكتوباً لتيار فكري دون آخر.
* نعم، هي تحولات فكرية عاصفة، لها ما بعدها. يعيد المواطن العربي البسيط اكتشاف الدولة الوطنية، وضرورتها، وتشغله قضايا السلم الأهلي والنسيج المجتمعي والتنمية الحقيقية الشاملة والمستدامة ويقلق لظواهر التنافس، والعزف المنفرد لبعض الدول العربية، في ظل «فراغات» السياسة والعمل الجماعي النافع، في أزمنة سعار «الشعبويات» وتفجر الحروب والنزاعات، وغياب الحكمة في بيئة العلاقات الدولية..
في ختام تلك الخلوة، رويت للمشاركين قصة شاب تونسي كان يجلس يومياً أمام مكاتب جامعة الدول العربية، حينما انتقلت إلى تونس في ثمانينات القرن الماضي، إثر تداعيات «كامب ديفيد». وكان الشاب يحمل «بوقاً»، وسأله صديق: ماذا تعمل بهذا البوق؟ فأجاب: «هذا هو عملي الجديد»، أنتظر صدور قرار الوحدة العربية، لأعلنه بهذا البوق على العالم كله، وأتقاضى على هذا العمل خمسين دولاراً شهرياً، فقال له الصديق: «إنه مرتب زهيد جداً، فكيف ترضى به؟
قال الشاب الظريف: «نعم إنه زهيد، لكن هذه الوظيفة مضمونة إلى الأبد».