أمد/
إن الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب التي شنتها إسرائيل في أعقابه ينبعان من تصور مسيحاني قاد كلا الشعبين إلى الكارثة . لقد قدمت مصر خطة تقترح مسارا سياسيا لتغيير الواقع، لكن إسرائيل ليست مستعدة للقبول بهذا المسار.
————————————————————————-
عندما شن الجناح العسكري لحركة حماس هجومه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اختار اسماً يحمل دلالة خلاصية ، وهو “طوفان الأقصى”، في إشارة إلى الطوفان المذكور في الكتاب المقدس والذي يظهر أيضاً في القرآن الكريم. في كلا الكتابين، تم وصف الطوفان باعتباره عقابًا يهدف لتخليص العالم من واقع شرير بشكل جذري . اعتبرت قيادة حماس أنه بدون الهجوم فإنها والحركة الوطنية الفلسطينية على وشك التعرض لهزيمة كاملة. فقد استولت إسرائيل على البلاد ، وحولت السلطة الفلسطينية إلى خادم لها، وجعلت منظمة التحرير الفلسطينية عديمة الأهمية . لقد فقد العالم الغربي اهتمامه بالاستقلال الفلسطيني ويمارس ضغطا كبيرا على المملكة العربية السعودية لتوقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل. ومن خلال الهجوم العسكري( والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها خلالها )، نجحت حماس في تقويض هذا الواقع. ولم تكن هناك أي كوابح على الهجوم، لكن لم يكن لدى حماس خطة لتحويل إنجازاتها العسكرية إلى رصيد سياسي.
النتيجة كارثية . إن الخسائر في الأرواح والانفس والمادة في إسرائيل وفلسطين ولبنان غير مسبوقة في تاريخ الحروب في المنطقة. فيما تم مسح الإنجازات السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية على الساحة الدولية. لقد تحول القانون الدولي، الذي كان الفلسطينيون يعتقدون بأنه يستطيع تعديل ميزان القوى الذي يميل لصالح اسرائيل قليلا لصالحهم ، الى مجرد حبر على ورق في أيدي الدول التي عملت بعد الحرب العالمية الثانية على تعزيز مكانته الخاصة والملزمة على الساحة الدولية.
كذلك كانت المقاربة الإسرائيلية أيضا ذات طابع خلاصي مسيحاني . حيث شنت إسرائيل حملة انتقام وحشية في قطاع غزة واغرقته بدماء الأبرياء. إن قطاعات كبيرة من الجمهور اليهودي والمؤسسة الإسرائيلية يؤيدون تدمير الشعب الفلسطيني والوطنية الفلسطينية. نفذت إسرائيل تدميرًا كاملاً لقطاع غزة. لقد تم طرد مجتمعات بأكملها من منازلها، وأصبحت أراضيه معدة للمصادرة من قبل إسرائيل، والتي، استناداً إلى الخبرة السابقة، سوف تقوم بالتأكيد بإنشاء المستوطنات عليها. تحاول اسرائيل من خلال إلحاق كارثة ذات أبعاد مسيحانية بالشعب الفلسطيني، تحقيق “النصر الكامل”، ولكن لخيبة أمل الحكومة الإسرائيلية فإن هذا النصر لم يتحقق. وتتغير أهداف الحرب باستمرار من قبل الحكومة، لكن النصر الكامل يبقى منفصلاً عن الواقع، مثل الفيديو الذي نشره ترامب، والذي يحاكي إنشاء ريفييرا أميركية في غزة.
ومن أجل تحقيق النصر، يجري التخطيط لإنشاء معسكرات اعتقال وفرض نظام عسكري على الفلسطينيين الذين يختارون عدم الهجرة والذين سيتمكنون من البقاء على قيد الحياة في ظل عمليات القتل الإسرائيلية. وبالمناسبة، فإن نفس الموقف المسيحاني هو الذي دفع الحكومة إلى غزو الأراضي السورية وقصف الأهداف العسكرية فيها . وترفض إسرائيل الاعتراف بالتغيير الذي حدث في سوريا. وتريد الميليشيات الدينية القومية التي استولت على السلطة بناء تحالف يضم الأقليات في السلطة وبناء دولة موحدة. ولا ترى إسرائيل في هذا فرصة للتغيير الإيجابي، بل تعتبره تطوراً سلبياً في جوهره.
بالاضافة الى السيناريو المرعب الذي خلقته اسرائيل في غزة وتخشاه في نفس الوقت ، يمكن اضافة الانقلاب القضائي والعديد من الاحداث المصاحبة له . لقد انطلقت التغييرات القضائية قبل فترة طويلة من الحرب، لكن هجوم السابع من أكتوبر أدى إلى جموح الخيال الخلاصي المسيحاني . إن شعور المعسكرين، الحكومة التي تشجع الانقلاب القضائي والمعارضة التي تتظاهر ضده، كان باننا على وشك نهاية التاريخ . لقد أدت نهاية التاريخ الإسرائيلية بالفعل إلى تهجير أكثر من 80 ألف مواطن من البلاد. وكما كتبت هنا، فإن الصراع هو بين تحالف التفوق والاستعلاء اليهودي والنخبة السابقة من العسكريتاريا الصهيونية، وهو صراع خلق واقع من الحرب ألاهلية الباردة يمكن أن تتحول إلى حرب ساخنة. وقد كانت هذه الحرب بادية بشكل واضح واحيانا بشكل عنيف في المحكمة العليا خلال جلسة نقاش إقالة رئيس جهاز الشاباك.
منذ بدايته ، لم يربط نضال النخبة العسكريتارية الصهيونية ضد تغيير القوانين والانظمة التي قادتها الحكومة بين ضرورة تغيير النظام والقانون الإسرائيلي ووجود نظام واحد بين نهر الأردن والبحر. وتتجاهل العسكرة الصهيونية دورها الحاسم في خلق مثل هذا النظام، و ترسيخ التفوق اليهودي في ظل السيطرة الكاملة على السكان والأراضي الفلسطينية. وقد تقلصت الفجوة غير الكبيرة اصلا بين المعسكرين فيما يتصل بالفلسطينيين بشكل كبير جدا خلال الحرب. تشارك النخبة العسكرية الصهيونية في القتال وتشارك في ارتكاب الجرائم والظلم. ويطالب انصارها بإطلاق سراح الاسرى قبل القضاء على حماس، لكنهم لا يقدمون مساراً سياسياً مختلفاً جوهرياً عن مسار تحالف التفوق اليهودي. لقد قدم معهد ابحاث الامن القومي الاسرائيلي وهو معقل النخبة الصهيونية العسكرتارية وثيقة جديدة ومتناقضة ترفض حل الدولتين لصالح مستقبل غير محدد، وتقترح فعليا إنشاء نظام واحد يكرس السيادة اليهودية بين نهر الأردن والبحر، والذي يمنح الفلسطينيين في إطاره حكماً ذاتياً محدوداً.
وتواجه الحكومة الإسرائيلية، وإلى حد كبير المجتمع الإسرائيلي، صعوبة بالغة في التحرر من هذا التصور الخلاصي المسيحاني المروع . إنهم لا يريدون وقف الحرب ويواصلون البحث عن النصر الكامل على الوطنية الفلسطينية، قبل او بعد صفقة تبادل الاسرى . إنهم يرعون وهم “الهجرة الطوعية”، والتصفية الفيزيائية والسياسية لحماس والحركة الوطنية الفلسطينية، وتصفية مطالب اللاجئين في حرب عام 1948 من خلال هدم مخيمات اللاجئين وحظر الأونروا، وضم مناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة حيث تعمل إسرائيل على تقليص عدد السكان الفلسطينيين هناك . في المقابل، تعود قيادة حماس إلى المسار السياسي بمساعدة عدد من الدول العربية. وفي مؤتمر القمة الأخير، قدمت مصر خطة تجمع بين إعادة إعمار قطاع غزة وإعادة بناء المؤسسات السياسية الفلسطينية فور انتهاء الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة.
إن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الجناح العسكري لحركة حماس، وخسائره، واستياء الرأي العام الفلسطيني الواسع منه، دفعت قادة الحركة إلى الاستنتاج بأنه يتعين عليهم الانتقال إلى المقاعد الخلفية وعدم التفكير بقيادة الشعب في نضاله من أجل التحرر الوطني وإقامة دولة مستقلة. وتقدم الخطة المصرية مسارا سياسيا لتغيير الواقع المسيحاني الذي وضعت إسرائيل والفلسطينيين انفسهم فيه. ولكن من المؤسف أن إسرائيل ليست مستعدة للسير في هذا الطريق. بل على العكس من ذلك، فهي تعمل على ترسيخ مواقفها والتمسك بها .
البرفيسور /مناحيم كلاين : الموقع الالكتروني محادثة محلية (سيحاه مكوميت)
هذا الموقع يتبع لما يطلقون على انفسهم اليسار الرديكالي
ترجمة مصطفى ابراهيم