محمد المحسن
أمد/ حين تتحوّل الكلمات..إلى لوحة فنية بأنامل شاعر كبير بحجم هذا الوطن..
قراءة سريعة في اللوحة الإبداعية للشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي (شهقة العشق..والغياب )
إنّ الخاطرة الشعرية توغل شفيف فى مسارات الذات الخبيئة،أو هي مونولوج رائق يماثل التتابع النغمي في درجاته الرهيفة العلا،فإن للغة أهميتها القصوى في ملء كل هذه المسارات والدروب بألوان الانتباه الناعم الذي يحدثه الشعر التأملي الجاد.
وعندما يكون موضوع الخاطرة من الخطورة بحيث ترتجف النفس لمجرد قراءة عنوان النص (شهقة العشق..والغياب)،فلابد أن يساير المتن هذا الاهتزاز الوجداني ويعضده تأكيدًا ودعمًا لإحداث الأثر الكلي من جماليات الدهشة والتلقي الفائق.
تأملت هذه اللوحة المطرزة بالإبداع كثيـرا،وفي كل مرة كانت تشدني اليها أكثر وتدفعني الحيرة للتأمل في مضمونها ومساحات الصمت والتجريد فيها.
ولكن..
قد تحمل اللوحة معان كثيرة،وكل واحد منا قد يرى شيئا مختلفا عن الآخر-هذا ما يعطي الفن سموا وقوة في الحضور-
وكما يقال في علم النفس،إن تأويلاتنا للمعاني هي مجرد انعكاس لافكارنا واسقاط لما يشغل بالنا على الاشياء من حولنا..
لغة الكاتب القدير/ والشاعر الفذ د-طاهر مشي في هذه -اللوحة الإبداعية العذبة-التي هي أشبه بالخاطرة أو “القصيدة”(شهقة العشق..والغياب) والتي جاءت-كما أشرت-في شكل خاطرة تنزف عشقا،لغة فنية وإبداعية ودالة،وهي ما نستطيع ان نطلق عليه السهل الممتنع أو السهل الى حد الصعوبة،حيث البساطة في الأسلوب،وعمق في المشاعر الداخلية التي تتأرجح حينا بين الغياب تارة،وبين العشق-تارة أخرى،تحلق قامات هلامية بين عالمين: الواقع وما يحمله من وَجد واشتياق للحبيبة تارة،والتحليق في مدارات الحلم والهيام،تارة أخرى،مستخدما البعد النفسي والرمزية بألفاظ. قليلة وجمل مختصرة ولم نلمح عبر لوحته المذهلة هذه،أي لغة مباشرة أو مسطحة سواء على مستوى المفردة او التركيب مما يؤكد قدرة الكاتب على امتلاكه لأدوات الكتابة في مختلف تجلياتها الخلاقة بحرفية ومهارة تضيف الى رصيده الإبداعي ميزة خاصة ونكهة ابداعية فريدة.
وكما تقوم نزعة التشخيص،ولغة الصور بدورها البنائي في تأكيد الأساس النفسي لكتابات الشاعر والكاتب التونسي الكبير د-طاهر مشي،،فإن الاعتماد على تداعي الصور والمشاعر والأفكار يأخذ مداه الواسع،بدرجة جعلت من-خاطرته-(شهقة العشق..والغياب) سلسلة تداعيات ومشاعر متقاطعة،أما الالتماعات الذهنية والشعورية في-هذه اللوحة الإبداعية-فإنها منتشرة بكثرة.غير أننا نشير إلى نوع من التداعي،وطريقة خاصة في استخدامه،تميزت به هذه “اللوحة الفنية”،ويمكن أن نطلق عليه: “التداعي اللغوي”، فالكلمة تأتي متخمة بالإشتياق،بعدها فاصل، لتبدأ محنة الشوق من جديد،تتصدرها تلك الكلمة ذاتها،مثقلة بمعناها العشقي،أو مكتسبة لمعنى مختلف.
إنها حالات من الجنون الفني،الجنون العاقل-إن صح اجتماع النقيضين-الذي دبره الكاتب /الشاعر-عن عمد وإصرار ولكأني به يريد استدعاء الحبيبة إلى مربع الشوق والإشتياق-ولا أقول اللوم والعتاب-بسبب البعد وما خلفه من ذكريات تحزّ شغاف القلب،هذا نوع من الجنون الخاص أو المحدود باللحظة،أو الموقف،يعرفه النقد الأدبي-في بعض أوجهه -بمصطلح “الرومانسية”،لقد اختارالكاتب/الشاعر د-طاهر مشي -حبيبة عادية في مواقف غير عادية،وهذا أقدم شروط فن القصة القصيرة جدا منذ تشيكوف وموباسان،غير أنه لا يستوفي نسيج -لوحته-الإبداعية بأن يرى الحياة وهي تعمل،فيعيش معها متعة الحب،الشوق والحنين، وإنما يتجاوز هذه الجوانب المحكومة بقوانين الواقع،والقدرة الإنسانية،ليضعَ تحت المجهر الانفعالات الوجدانية،وردود الأفعال المتوترة،والمشاعر الصاخبة أو المذعورة،لتثمرَ في النهاية عملا حادا،متجاوزا.فاختزال الشخصية الإنسانية في شعور واحد،والبلوغ بهذا الشعور مستوى التضحية بأي شيء،والاستهانة بكل ما عداه،هو ضرب من المرض النفسي،وهو-من الوجهة الفنية-أحد مسالك الرومانسية للغوص في باطن الشخصية،وتمييز الذات الفردية،وتأكيد المشاركة الوجدانية من جانب المتلقي،بتضخيم الانفعالات،وتراجع هيمنة التفكير وقوانين “ضبط النفس” وأعرافها على الشخصية-العاشقة-،التي تبدو متألمة ومكتواة في ذات الآن بنيران الحب في حلته النبيلة.
واسمحوا لي أن أدعوكم إلى قراءة -هذه اللوحة الإبداعية-المفعمة بعطر الحب والإشتياق إلى-حبيبة-حاضرة بالغياب..!!
شهقة العشق..والغياب
وتغيرت ملامحك
كم من ندوب رسمتها الأيام
وكم زاد اشتياقي لتفاصيلك المبهمة
علني أجدني مرسوما بين حناياها
اعذريني سيدتي
قد تعثرت خطاي
وتهت طويلا
فقدت ذاكرة الربيع
وما عاد عطر الياسمين
يخضب أنفاسي
تغير كل شيء
فقط نبضي متمسك بالبقاء
يضج الضلوع مذ عهدتك
وبين الحلم واليقين
أجدني متسولا
أستجدي طيفك أن يعود
وأنهر سنوات الضياع
حيث فارقني الحلم
والبعض من ذاكرتي تصدع
فما أقسى الأيام
تمر مسرعتا
دون عودة
وتلك الأمواج تغرقني
تسحبني بعيدا
لأسافر بدونك
(د-طاهر مشي)
لقد تفنن الكاتب والشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي في إيجاد الهدف وفي تحريك الإسلوب على مستويات مختلفة مفعمة بعطره الشعري الفواح .
وللقارئ -لهذه اللوحة الفنية-أختم وأقول: أحيانًا لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح،يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلًا على نافذة إدراكك دون أن تغادر! وهذا مافعله د-طاهر مشي..ببراعة واقتدار.
وتمنياتنا له بالتوفيق والسداد بالقادم من أعمال.