حسن لافي
أمد/ ألقى وزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالنت قنبلة سياسية من النوع الثقيل، لا يمكن التقليل من حجمها وأهميتها في المشهد السياسي الإسرائيلي، إذ صرّح غالنت، بشكل مفاجئ، في مؤتمر صحفي بأنه “من دون موافقة كل أجزاء حكومة الطوارئ، لن تقدم المؤسسة العسكرية، بقيادتي، قانون التجنيد. إن التعاون في حمل الأعباء ضروري لتحقيق الانتصار في الحرب، هذه ليست قضية حزبية، ولا قضية قطاعية بل قضية قومية أمنية من الدرجة الأولى. “
بهذا الموقف التاريخي في الحياة السياسية الإسرائيلية ألقى غالنت ثقله السياسي كاملاً على قضية قانون التجنيد، بالرغم من أنه يعلم جيداً بمدى تعقيدات تلك القضية، وأن احتمالية حلّها خلال أسابيع عدة ضعيفة جداً جداً، الأمر الذي أعاد خلط الأوراق في المشهد السياسي الإسرائيلي من جديد، ودفع الجميع إلى التساؤل عن الدوافع التي تقف وراء ذلك الموقف وتأثيراته؟
يدرك غالنت أهمية قضية قانون التجنيد لمؤسسة “الجيش” الإسرائيلي، وخاصة بعد حرب غزة، فقد تم تجنيد أكثر من 360 ألف جندي احتياط بجانب 150 ألف جندي نظامي لتلك الحرب، فضلاً عن الخسائر البشرية والمالية والنفسية لهؤلاء الجنود القادمين من شرائح مجتمعية متعددة داخل الخليط الاجتماعي الإسرائيلي، والذين باتوا ينظرون إلى عدم تجنيد “الحريديم” بأنه عدم مساواة حقيقي وتمييز لصالح “الحريديم” لا يتناسب مع حجم فاتورة الحرب التي دفعوها، ولم يشاركوهم في ذلك.
وهنا، حدث تغيّر جديد من الجدير الإشارة إليه، وهو دخول شرائح جديدة حتى من اليمين الإسرائيلي، وخاصة بين أوساط حزب الليكود؛ للمطالبة بتجنيد “الحريديم” ومشاركتهم في تحمّل عبء الدفاع عن “إسرائيل”.
أضف إلى ذلك، أن حرب غزة فرضت على “الجيش” الإسرائيلي التخلي عن فكرة “جيش صغير وذكي”، والعودة إلى “الجيش الكبير والقوي”، المعتمد على ذراع برية وسلاح مدرعات قوي، أي “جيش” احتياط كبير ومهيأ لخوض الحروب البرية، التي تبيّن أنها لم تشطب من قاموس الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية كما كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعتقد قبل السابع من أكتوبر.
ولذلك، تعالت الأصوات لتغيير الهيكل والعقيدة العسكرية لـ”الجيش” برمّته، وتدلّل على ذلك مسودة تعديل قانون الخدمة العسكرية الإلزامية، والعودة إلى الخدمة الإلزامية لمدة 3 سنوات بدلاً من 32 شهراً للمجندين، وإعلان “الجيش” عن احتياجه إلى 7 آلاف جندي إضافيين إلى مجموع المجندين في الدورة المقبلة للتجنيد الإلزامي، نصفهم سيذهب إلى الوحدات القتالية، في ضوء التحديات الأمنية التي فرضتها الحرب على غزة.
غالنت الذي يتعامل مع نفسه أنه ممثل “الجيش” الإسرائيلي في الحكومة الإسرائيلية، وليس ممثل نتنياهو أمام “الجيش”، يدرك جيداً العلاقة المتوترة بين المؤسسة العسكرية والأمنية ورئيس الوزراء نتنياهو، الذي يحاول جاهداً منذ السابع من أكتوبر تحميل مسؤولية الفشل لـ”الجيش” والأمن في “إسرائيل”، وتبرئة نفسه من تحمّل أي مسؤولية عن ذلك الفشل، الأمر الذي أوضحه سلوك نتنياهو تجاه قادة “الجيش” والمؤسسة الأمنية طوال فترة الحرب، وكان آخرها قضية شرائح شركات الاتصالات الإسرائيلية التي تم تفعيلها من قبل مقاتلي النخبة لدى المقاومة في ليلة السادس من أكتوبر، وقد كانت أحد المؤشرات الاستخبارية على نية المقاومة توجيه عملية “طوفان الأقصى” والتي فشلت المؤسسة العسكرية والأمنية في تحليلها وفهم مضمونها.
هذه المعلومة التي حالت الرقابة العسكرية الإسرائيلية دون نشرها طوال فترة الحرب، نشرتها القناة 14 التابعة لنتنياهو ضاربة بعرض الحائط قرار الرقابة العسكرية، مستخدمة تلك المعلومة لإظهار نتنياهو أنه لم يكن يعلم شيئاً عما دار في ليلة السادس من أكتوبر، وبالتالي الفشل كله يقع على عاتق “الجيش” والأمن الإسرائيليين، الأمر الذي أثار غضب كل من “الجيش” و”الشاباك”، خاصة بعد تصريح مكتب نتنياهو بأن الأخير لم يسمع عن تلك القضية قبل نشرها من القناة 14 مطلقاً.
وبناءً على ذلك، أصدر “الجيش” و”الشاباك” تصريحاً مشتركاً يوضحان فيه القضية وتهويل القناة 14، وأنه تمت خلال جلسات الكابينت الإسرائيلي طوال الحرب مناقشة القضية مرات عديدة وبحضور نتنياهو شخصياً، ناهيك بقناعة “الجيش” أن نتنياهو يريد حرباً بلا نهاية، لأن هذا يمكّنه من النجاة، وهذه هي المشكلة الكبرى، كما صرّح مسؤول كبير. لذلك، يشكل غالنت في قضية قانون التجنيد مع “الجيش” الإسرائيلي جبهة ضد نتنياهو.
وإذا أضيف إلى تلك الجبهة الوزير بني غانتس، رئيس حزب المعسكر الرسمي، الذي منحه غالنت حق النقض (الفيتو) على قانون التجنيد الجديد، فغالنت يدرك جيداً أن غانتس وشريكه في الحزب غادي آيزنكوت لن يوافقا على قانون تجنيد يتوافق مع آمال “الحريديم” وشروطهم عند دخولهم الائتلاف الحكومي مع نتنياهو، وبالتالي احتمالية إسقاط الحكومة خلال الأسابيع القليلة المقبلة كبيرة جداً، الأمر الذي فهمه “الحريديم” إذ نقل موقع “كيكار
هاشبات” الإخباري الحريدي عن “مصدر رفيع للغاية داخل الأحزاب الحريدية”، قوله: “تبدو تصريحات غالنت بمنزلة خطوة مخططة لإسقاط الحكومة”، إذ ينتهي مفعول قرار الحكومة بعدم فرض التجنيد الإجباري على “الحريديم” في 31 من شهر آذار/ مارس الجاري، وفي حال عدم سن الكنيست قانون تجنيد جديداً على “الجيش” الإسرائيلي أن يبدأ بتجنيد “الحريديم” في الأول من نيسان/ أبريل القادم، كما قالت المستشارة القضائية للحكومة، غيلي بهراف ميارا، أمام المحكمة العليا، الأمر الذي سيدفع “الحريديم” إلى إسقاط الحكومة.
قضية تجنيد “الحريديم” والمساواة في تحمّل الأعباء الأمنية بين الشرائح المجتمعية الإسرائيلية كافة، قضية مركزية باتت تمس غالبية الشارع الإسرائيلي وتنال دعمه، الأمر الذي يجنب إسقاط الحكومة من قبل تحالف غانتس وغالنت في وقت الحرب، الانتقادات الشعبية التي قد تفقد غانتس تقدمه في استطلاعات الرأي، بل ستحظى تلك الخطوة بدعم شعبي قوي من قبل معارضي نتنياهو
من جهة، وتفهم أنصار اليمين الإسرائيلي الذين يخدمون في “الجيش” لها من جهة أخرى. وفي الوقت ذاته، يدرك نتنياهو في حال إقالة غالنت من منصب وزير الدفاع أنه سيواجه بغضب جماهيري يفوق ما حدث عندما أقاله في المرة السابقة بعشرات المرات. في ظل تلك الأوضاع، بات نتنياهو مقتنعاً أن هناك خطة منظمة لإسقاط حكومته وتهديد مستقبله السياسي برمته، ويدلل على ذلك سفر غانتس إلى الولايات المتحدة الأميركية بناء على طلب من الأميركيين، ولقاؤه نائبة الرئيس الأميركي كاميلا هاريس، ومستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سيلفان، في هذه الأوضاع من دون تنسيق مع نتنياهو، ما فسّر بأنه محاولة أميركية لإسقاط حكومته وخلق بديل منه، كون العلاقات بينه وبين إدارة الرئيس جو بايدن وصلت إلى مستويات منحدرة جداً بل إلى تصادم فعلي حول الكثير من القضايا الاستراتيجية المشتركة.
وبالتالي، باتت الجبهة الثلاثية السياسية الداخلية مدعومة أميركياً، والأخطر أن الضغط الشعبي الإسرائيلي للمطالبة بالذهاب إلى انتخابات مبكرة، بدأت ملامحه تتشكل بقوة من خلال التظاهرات الأسبوعية المطالبة بالذهاب إلى انتخابات وإسقاط حكومة نتنياهو فوراً، وحتى في ظل الحرب الدائرة، خاصة أن فكرة إجراء انتخابات في ظل الحرب باتت ممكنة، بالرغم من تصريح نتنياهو بأن “الانتخابات العامة معناها إيقاف الحرب…. وهزيمة لإسرائيل”، فإن إجراء انتخابات السلطات المحلية الإسرائيلية في الأيام السابقة، من دون إشكاليات تذكر، مهّدت للرأي العام الإسرائيلي إمكانية إجراء انتخابات عامة خلال الحرب، وخاصة مع حجم وخطورة القضايا الاستراتيجية المطروحة للنقاش السياسي في “إسرائيل” بعد الحرب على غزة، وقد عبّرت عن ذلك “دانا فايس”، المحللة السياسية في القناة N12 بقولها “لا مجال، من أجل مناقشة اليوم التالي في غزة وفي إسرائيل كلها، إلا أن نمر عبر صندوق الانتخابات”، بمعنى آخر إسقاط حكومة نتنياهو.