أمد/
في بيانات وتصريحات عديدة، أوضحت القيادة السياسية في إسرائيل، أنّها لم تعد ملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقعت عليه، وأنّها ليست متقيّدة ببنود المرحلة الثانية من الصفقة، التي جرى التوصّل إليها بوساطة أمريكية ـ قطرية – مصرية. الولايات المتحدة أيضا لم تحترم الاتفاق، الذي شاركت فيه، وخرجت بمبادرة جديدة، تحمل اسم المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، هي “خطّة ويتكوف”. وبعد إشهارها مباشرة، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى الإعلان عن موافقته عليها داعيا إلى إجراء مفاوضات على أساسها، ومؤكّدا أن الصفقة الأصلية لم تعد قائمة بعد انتهاء مرحلتها الأولى. هذا الاستعجال الإسرائيلي في تبنّي الخطة الأمريكية لا يعود إلى أن نتنياهو كان على علم مسبق بها فحسب، بل بالأحرى لأنه هو صاحبها وهو الذي أرسلها إلى الإدارة الأمريكية بعد إعدادها في مكتبه، وبعدها عادت إليه ليوافق عليها. لقد حدث مثل هذا الأمر في عهد بايدن، لكن في عهد ترامب أصبحت تلك هي آلية العمل الروتينية المتبعة.
لقد تعمّدت إسرائيل عدم إجراء مفاوضات على المرحلة الثانية من صفقة التبادل ووقف إطلاق النار، التي كان من المفروض أن تبدأ منذ شهر. وفور انتهاء المرحلة الأولى، السبت الماضي، أعلنت عن وقف إدخال المساعدات الإنسانية من طعام وخيام ووقود وأدوية ومعدات طبية وغيرها من الحاجيات الأساسية. وأطلق المسؤولون الإسرائيليون تهديدات بقطع التيار الكهربائي، وحجب دخول المياه إلى قطاع غزة خلال أيام، وأردفوا أنّه “لا مكان لوقف إطلاق النار دون إطلاق سراح مختطفين”. لقد جرّبت إسرائيل أسلوب الضغط وفرض العقوبات الجماعية من قبل، ولم تحصل على مبتغاها، وهي تعود إلى الطريقة نفسها وتنتظر نتيجة مغايرة، وهذا مثال ليس للوحشية فحسب، بل للغباء السياسي أيضا. لا يصح تجاهل التصريحات الإسرائيلية بشأن العودة إلى الحرب، لكن يجب التعامل معها بحذر شديد لاختلاط التهديد الحقيقي بالوعيد المنتحل. كلاهما معدّان للضغط على حركة حماس لتقبل بالشروط الإسرائيلية من جهة وللاستهلاك الداخلي بقصد كسب القاعدة الشعبية في الصراع على السلطة، من جهة أخرى. الأمر المؤكّد هو أن نتنياهو لا يريد الوصول إلى محطّة الإعلان عن إنهاء الحرب، ويتبنّى استراتيجية الجبهات السبع المفتوحة، بما فيها جبهتا فلسطين في الضفة وغزة، إضافة إلى جبهات لبنان واليمن والعراق وإيران وسوريا. وحتى في ظل “وقف إطلاق النار” تواصل إسرائيل إطلاق النار من جانب واحد، وهو ما أدّى إلى استشهاد 120 فلسطينيا وجرح حوالي 500 في غزة منذ التوصل إلى صفقة التبادل والهدنة في التاسع عشر من يناير الماضي.
انسداد في المفاوضات
طرحت الإدارة الأمريكية “خطّة ويتكوف” بديلا عن الصفقة التي جرى الاتفاق عليها (بضغط أمريكي) في يناير الماضي. وتنص الخطة على أن في يومها الأوّل يتم إطلاق سراح نصف المحتجزين الإسرائيليين مقابل أسرى فلسطينيين، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من وقف إطلاق النار ومفاوضات لتسوية نهائية يطلق في إطارها سراح بقية المحتجزين. بالنسبة لنتنياهو الهدف الأهم لهذه الخطة هو وأد المرحلة الثانية للصفقة الأصلية، التي كانت ستفضي إلى إنهاء الحرب رسميا.
لقد رفضت حماس، وبحق، هذه الخطّة وأعلنت تمسّكها بتطبيق ما جرى التوقيع عليه بشأن المرحلتين الثانية والثالثة من “صفقة يناير”. في المقابل، احتضنت إسرائيل “خطة ويتكوف” وعبّرت عن استعدادها للتفاوض حولها، وأوصدت باب التفاوض على المرحلتين الثانية والثالثة بعد تنصّلها من التزامها حولهما. هكذا دخلت المفاوضات إلى وضع من الانسداد، وأصبح وقف إطلاق النار في حالة من الهشاشة وعلى حافة الانهيار.
للخروج من حالة الانسداد، طرحت مبادرة لمرحلة انتقالية، تستمر فيها الهدنة المؤقّتة وتتم في إطارها صفقات تبادل صغيرة، وتجري خلالها مفاوضات للمرحلة المقبلة. الطرفان لا يعارضان الفكرة من حيث المبدأ، لأن فيها، من جهة حماس، ضمانا لتمديد وقف إطلاق النار وتحرير أسرى فلسطينيين، وهي تشمل في المقابل، بالنسبة لإسرائيل، إطلاق سراح المزيد من المحتجزين. المعضلة هي طبيعة “المرحلة المقبلة”، وهل هي المرحلة الثانية للصفقة، كما تريد حماس، أم هي “خطة ويتكوف” كما تتعنّت إسرائيل؟ وفي غياب اتفاق إلى أين تفضي “المرحلة الانتقالية، يبدو أن محاولة حلحلة الانسداد توصل إلى باب موصود جديد، لا أكثر.
هشاشة الهدنة
الوضع القائم حاليا هو أن هناك استمرارا لوقف إطلاق النار في غزّة بلا اتفاق يضبطه ويُلزَم به الطرفان. بالنسبة لإسرائيل “صفقة يناير” تعتبر ملغية وبالتالي غير ملزمة. ووفق ما نشره الإعلام الإسرائيلي نقلا عن نتنياهو فإن “سياسة إسرائيل هي أنّه لا مكان لوقف إطلاق النار دون تحرير محتجزين.. والمفاوضات تكون تحت النار أو تحت مظلة تسوية متفق عليها”. ويبدو جليا أنه كلما مرت الإيام دون التوصل إلى تفاهمات، ولو مرحلية، فإن الهدنة تزداد هشاشة وقد تنكسر وتنهار. طبعا، حماس لن تخرق وقف إطلاق النار، فهي تسعى لوقف الحرب ولهدنة مستدامة. أمّا إسرائيل فهي لا تزال متمسّكة بخيار تجديد الحرب وتقترب إليه أكثر فأكثر. الأرجح في ميزان التوقّعات، أن إسرائيل ستعود إلى الحرب عاجلا أم آجلا، والعوامل المؤثّرة على القرار الإسرائيلي متعدّدة:
أوّلا، قضية المحتجزين دخلت إلى مرحلتها الأخيرة والحاسمة، إذا بقي 25 محتجزا إسرائيليا حيا، وأضافت عائلاتهم ادعاءً جديدا وهو أن تركهم في الأسر هو “تمييز” ضدهم. ويزداد الضغط لأن من تبقّى في الاحتجاز هم جنود، وللعسكريين مكانة خاصة في المجتمع الإسرائيلي، ومن الصعب على المؤسستين السياسية والعسكرية ترك جنود أسرى في الأسر. في المقابل فإن “الثمن” سيكون هذه المرة أعلى مما كان سابقا، لأنهم جنود بالذات. ويشمل هذا “الثمن” هدنة مستدامة وإطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين ذوي محكوميات عالية، وبينهم قيادات بارزة. نتنياهو لا يريد صفقة شاملة لتحرير جميع المحتجزين وهدنة مستدامة، ويسعى حاليا إلى هدنة مؤقتة لإطلاق سراح المزيد من الأسرى الإسرائيليين، مع إبقاء الباب مفتوحا للعودة للحرب.
ثانيا، تكرار الالتزام بتحقيق “النصر” والقضاء على القدرات الإدارية والعسكرية لحركة حماس، إذ يعود نتنياهو ووزراؤه للتشديد على أن إسرائيل لن توقف الحرب حتى تحقق أهدافها، وهي بطبيعتها أهداف غير قابلة للتحقيق بالوسائل “السلمية”. هذا الالتزام يؤثّر مباشرة على بقاء نتنياهو في الحكم وعلى مكانته في تاريخ الدولة الصهيونية، وهو يصاغ بطريقة تجعل من عدم الإيفاء به “هزيمة نكراء”.
ثالثا، تبديل القيادة العسكرية واستلام الجنرال إيال زامير رئاسة الأركان، يقلل من إمكانية تجديد الحرب خلال الأيام القريبة (لأنه بحاجة لبعض الوقت في مهمته الجديدة)، لكنّه قد يزيدها لاحقا. نتنياهو يمدح زامير قائلا، بأن “لديه توجه هجومي”، ويعلّق اليمين الإسرائيلي الآمال بأن “حرب زامير ستكون مختلفة عن كل ما شهدناه”. وإذا أضفنا إلى ذلك أن نتنياهو لم يثق برئيس الأركان السابق الجنرال هرتسي هليفي، ويراهن على قدرات زامير، فهو قد يندفع إلى تجديد الحرب تبعا لذلك.
رابعا، الموقف الأمريكي هو إلى الآن صدى للموقف الإسرائيلي، وهو داعم لحرب إسرائيل ولأهدافها. وهناك تنسيق كامل وعلاقات حميمية بين طاقم نتنياهو وإدارة ترامب. التغيير الممكن في موقف الإدارة الأمريكية مرتبط باقتناعها بإمكانية التوصل إلى تطبيع، فعندها سيلقي ترامب بكل ثقله للوصول إليه، ويدفع إلى هدنة مستدامة في غزة وإلى خطوات أخرى تنسجم ومتطلبات التطبيع.
لقد انتهت القمة العربية بقرارات مهمة في رفض التهجير، وفي خطة إعادة إعمار غزة، لكن الأكثر إلحاحا هذه الأيام هو منع تجدد الحرب والوصول إلى هدنة مستدامة وانسحاب إسرائيل الكامل من غزة. ولا معنى للارتياح لقرارات القمة، إذا لم يرافقه استنفار لمنع تجدد الحرب، ورفض التهجير يجب أن يرافقه عمل جدّي لمنع الإبادة.
عن القدس العربي