أمد/
لم تنتهِ بعد فصول حرب الإبادة على غزَّة، حتى لو توقفت الحرب وستظل تداعيات الحرب مفتوحة على الكثير من الاحتمالات الصعبة والمعقدة والتي قد تكون خارج السيطرة.
نقرأ حكاية مدن قطاع غزة اليوم، من خلال تقرير لمنظمة العفو الدولية في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي: «ثمة إبادة جماعية في قطاع غزة، ارتكبها الجيش الإسرائيلي، تمثلت في ثلاثة أفعال من الأفعال الخمسة المحظورة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، وهي القتل والتسبب بأضرار بدنية أو نفسية خطيرة وفرض ظروف معيشية تهدف عمداً إلى التدمير الجسدي لمجموعة بشرية محمية، إن إسرائيل ارتكبت هذه الأفعال عمداً، وفق أكثر من مئة تصريح من مسؤولين إسرائيليين».
ومن المؤكد أن مدن غزة ستوضع ضمن التاريخ الإنساني من بين المدن التي دُمِّرت بقسوة بالغة، إلى درجة الإبادة وبدون ضرورة ماسة، مثلها مثل هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.
ونقرأ حكاية غزة أيضاً، لكن في قديم الزمان، حينما بناها الكنعانيون في موقع حصين واستراتيجي، في أقصى مدن جنوب كنعان، وحيث ملتقى القوافل التجارية.
احتلها غزاة كُثر، فراعنة وإغريق ورومان وبيزنطيون وعثمانيون وإنجليز، وآخرهم إسرائيليون.
دمَّرها الإسكندر الأكبر، بعد حصار دام أكثر من خمسة شهور في عام 332 قبل الميلاد وقتل وسبى معظم سكانها، بعد أن حفر جنوده أنفاقاً تحت أسوارها، واقتحموا المدينة.
وحاصرها الرومان، عاماً كاملاً، ثم احتلوها ودمَّروها في عام 96 قبل الميلاد، وأُعيد بناؤها بعد ضمها إلى الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت فيها الديانة النصرانية في القرنين الثالث والرابع الميلاديين واعتنق غالبية سكانها الإسلام بعد أن خضعت للحكم الإسلامي بدءاً من عام 635 ميلادية، وقاوم أهلها الغزاة الفرنجة في عام 1100 ميلادية، قبل أن يحرقها الغزاة ويخربّوها، وقد ساهم طلبة أزهريون غزّيون في التخطيط لقتل الجنرال الفرنسي، قائد الحملة العسكرية الفرنسية على مصر، حينما قدَّم هؤلاء الطلبة المساعدة إلى الشاب السوري (سليمان الحلبي)، وزوَّدوه بخنجر غزِّي، أثناء مروره بغزة، قبل توجهه إلى القاهرة وطعن الجنرال الفرنسي في شهر يونيو/حزيران 1800م وعوقب الشاب السوري وعمره 23 عاماً، بحرق يده اليمنى أولاً، ثم وضعه على الخازوق حتى مات وفقاً لما ذكره المؤرخ الجبرتي.
واستعصت غزة على العثمانيين في عام 1831م، والذين ارتكبوا فيها مجزرة كبيرة وراح ضحيتها الآلاف من سكانها (لتذكير أحمد داوود أوغلو).
* وقاومت غزة القوات البريطانية بشراسة، حينما قررت بريطانيا احتلال فلسطين في عام 1917م، واستمرت مقاومة الغزيين تسعة أشهر، حتى تمكنت بريطانيا من احتلال غزة، مستخدمة كل أنواع الأسلحة، بما فيها الغازات السامة.
وشهدت غزة طوال فترة الاحتلال البريطاني ثورات واحتجاجات ضد سياسات الهيمنة البريطانية وبخاصة دورها في تسهيل هجرة يهود أوروبيين إلى فلسطين.
واستقبلت غزة في عام النكبة 1948، مُهجَّرين ولاجئين فلسطينيين، من أكثر من خمسين مدينة وقرية فلسطينية وقُدّر عدد اللاجئين إليها بنحو مئتي ألف لاجئ، وبخاصة من مدن بئر السبع والنقب والمجدل وأسدود وغيرها.
وفي أزمنة الاحتلال الإسرائيلي لغزة وحصارها الشامل، تحولت مدن القطاع إلى سجن كبير وشنّت إسرائيل على غزة حروباً متتالية، اتسمت بالوحشية، وطالت فضاءات السكان الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبنية التحتية والتعليمية.
من ناحية أخرى، فقد اتسمت خصوصية غزة بِتجذُّر شيم الصبر والجلد ومقاومة الظلم بشجاعة وكان لكل ذلك دورٌ في ولادة سياق اجتماعي مقاوم للاقتلاع والسيطرة، بالتوازي مع خلق منظومة شبه عسكرية للمجتمع عبر العصور واعتماد تقنيات بناء الأنفاق، في ظل طوبوغرافية رملية مساعدة وكسلاح مدني مضاد للحصار بمعناه الشامل وبخاصة في صورة الحصار والعدوان ذات الصبغة التكنولوجية من كاميرات وأقمار صناعية وتقنيات عسكرية حديثة.
* زار غزة، تضامناً معها، في الستينات، جواهرلال نهرو، وأنديرا غاندي، وتشي جيفارا وجان بول سارتر، ومالكوم إكس وغيرهم.
………..
جراح غزة غزيرة وقاسية، حتى صارت استعارة لفلسطين عموماً ولكل معاني القيم الإنساني ذات الصلة بالحرية والعدالة والقانون الدولي الإنساني.
أين ستذهب غزة بعد المحرقة والإبادة؟
«أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟ وأين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟».