أسامة خليفة
أمد/ الحدث الفلسطيني حدث متجدد في مجرى النضال والمقاومة المتواصلة على مدى أكثر من قرن من الزمان، نما هذا الحدث عبر السنوات الطويلة فوق جذور راسخة ثابتة من المبادئ والقيم الإنسانية المرتبطة بالأهداف الوطنية، حدث أبقى القضية الفلسطينية حاضرة دوماً في وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، تتصدر العناوين، وتتقدم على سائر الأخبار، نضال شعب فلسطين، والتفاف الشعوب العربية حوله، واعتبار القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية، منحها أهمية كبرى على المستوى الإقليمي والعالمي، ومنها انبثقت الأهمية الإعلامية القائمة على طبيعة القضية الوطنية لشعب حي وحق لا يموت، شعب ثائر يطلب الحرية والاستقلال، ويخوض صراعاً لا يتوقف ولا يهدأ، من أجل قضية تعتبر من أعدل القضايا في تاريخ البشرية، وأخر قضايا التحرر للخلاص من استعمار ذو طبيعة استيطانية إحلالية تقوم على العدوان، ونفي وجود شعب هو صاحب الأرض.
من الجهة الأخرى الحدث الفلسطيني اللاهب ليس منفصلاً عن استعجال المستعمِر إجراءاته الاستيطانية قبل أن تستفيق شعوب العالم على أساطيره وأكاذيبه، تسابق حكوماته اليمينية المتطرفة الزمن تحقيقاً لأطماعها التوسعية لا سيما في مدينة القدس التي أعلنها مجلس الوزراء العربي عاصمةً دائمة للإعلام العربي، لتبقى قضية القدس كجزء حيوي وهام من القضية الرئيسية ماثلة أمام عيون الجميع لا تغفل عنها وسائل الإعلام لحظة واحدة كقضية شعب له حقوق أقرها المجتمع الدولي.
كلما اشتد الصراع وتصاعد، وبدأت جولات القتال، ركز الإعلام جهوده لتغطية الحدث تغطية شاملة ومستمرة أولاً بأول، وتسابقت المحطات بتقديم الخبر العاجل بالقلم العريض، ولجأت إلى النقل المباشر من أرض الحدث عبر الصوت والصورة، ومراسلون ومصورون ومساعدوهم، منتشرون في مناطق التوتر، يدعون المهنية والمصداقية، في النقل الحصري، بغض النظر عن تبعيتهم السياسية والتمويلية.
معركة «طوفان الأقصى» حدث أبرز الكثير من افتراءات الإعلام المعادي الإسرائيلي والأمريكي، ومضى وراءه الاعلام الغربي، في تلفيق الأكاذيب، والقيام بحرب نفسية لإضعاف الروح المعنوية للمقاومين، ولاتهام المقاومة بأعمال إرهابية لم تقم بها، وتشويه سمعتها، والتشكيك بإنسانيتها، وبالتالي التحريض على القضاء عليها، لقد اصطف أغلب الإعلام الغربي لاسيما الأمريكي منه وانحاز للرواية الإسرائيلية، دون التحقق من دقة المعلومات في التقرير وتمحيص الحقائق، ورددوا الرواية الإسرائيلية، جاعلين من أنفسهم شاهدي زور على رواية أحداث لفقها الإعلام الإسرائيلي، دُفع المال بسخاء عن تقارير إعلامية للحديث عن جرائم قتل جماعي، ارتكبت بحق إسرائيليين مدنيين (حفل ريعيم) لإظهار حركات المقاومة في فلسطين في مظهر المهاجم والمُعتدي، في الوقت ذاته لم يركز الإعلام الغربي على ما مارسه الجيش الإسرائيلي من القتل والإبادة الجماعية وخرق حقوق الإنسان، كانت التغطية الإعلامية الغربية تركز الانتباه على حركة حماس باعتبار أنها منظمة إرهابية، وتروج أن لإسرائيل حق الدفاع عن النفس.
في زمن تكنولوجيا الاتصالات صار من الصعب ترويج الخبر الكاذب إذ سرعان ما يُكتشف التزوير وعدم المصداقية، فيحكم الجمهور على تلك السياسة الإعلامية للقنوات التلفزيونية الأوروبية والأميركية أنها استخفاف بالعقول، ولو تم توظيف المهنية العالية في تحرير الخبر، ليخدم الرواية الرسمية التي تبرر الهجوم العسكري الإسرائيلي على الأهداف المدنية.
مكّن تطور تكنولوجيا الاتصالات الجميع من تقديم روايتهم مدعومة بأدلة وبيانات وصور من أرض الواقع لا يشوبها الشك، باستخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ولم يعد الإعلام ونشر الأخبار مقتصراً على المحطات الفضائية ووكالات الإعلام، يمكّن هذا ويخدمه ديمقراطية تدفق المعلومات، واستخدام الصورة التي لا تحتاج إلى تعليق ولا لإضافة الكلمات، فالصور أكثر مصداقية من الكلمة، والصور تتوفر عبر كاميرات الطرقات أو جوالات المتواجدين في المكان، كثرت الفيديوهات الملتقطة في الحرب على غزة، من وكالات إعلام محترف، ومن كاميرات الأفراد، مشهد الفظائع والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية الممنهجة في قطاع غزة، نجم عنها شهداء مدنيون، معظمهم أطفال ونساء، لا يزال عدد كبير من الضحايا تحت الأنقاض، والعديد من جثث الشهداء في الطرقات لا تستطيع فرق الدفاع المدني الوصول إليهم.
قدمت المقاومة نفسها للعالم عبر الصور والفيديوهات التي توثق بطولاتها في الميدان، نشرها تمتع بدقة ما يصرح به، ويعلن عنه، قدمت صورة كاملة لما يجري من صراع فوق الأرض وتحتها، في توثيق متقن وحقيقي ومكتمل، في العمليات الدفاعية والهجومية والكمائن التي تظهر الآخر في المشهد ترصده وتتربص به الكاميرات والبنادق، على عكس الصور والفيديوهات الملفقة لوزارة الحرب الإسرائيلية التي تظهر جنودها يقاتلون الأبنية والجدران.
كان على الإعلام الغربي لو أراد الحيادية والابتعاد عن الانحياز للطرف المعتدي، أن يستضف من روج الأكاذيب في ندوة حوارية تعرض الرأي والرأي الآخر، ليتم مناقشة التطورات وما يكمن وراءها، وتقديم الرواية ونقيضها ليتبين للرأي العام أين الخطأ، وأين الصواب، أين الصدق وأين التلفيق، أين الإجرام والإرهاب وأين النضال الوطني التحرري المشروع.
يتساءل إعلاميون وناشطون إن كان الإعلام الغربي يجرؤ اليوم على استضافة من روّج لأكاذيبه، فيستضيفه في برامجه ليسأله عن أكذوبة الاغتصاب أو قطع الرؤوس أو على كذب اعتقال الجيش الصهيوني لمسلحين كما فعلت فوكس نيوز، ليتبين للعالم كله أن المعتقلين الذين تتدعي إسرائيل أسرهم كعناصر من حماس هم أشخاص مدنيون عزل، لا علاقة لهم بالعمل المسلح، ومع هذا واصلت القناة وغيرها سياسة التضليل والكذب والافتراء، لكن هل يجرؤ هذا الإعلام الغربي على الاعتذار عن الافتراء على مشفى الشفاء التي شكلت ذريعة للهجوم البربري الصهيوني على غزة، تماماً كما شكلت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل ذريعة للعدوان الأمريكي والغربي على العراق من قبل.
هل نشهد بعد هذا إعلاماً غربياً نزيهاً مستفيداً من دروس الحرب على غزة؟. أم أن حاله سيصلح مستقبلاً نتيجة ثمن باهظ سيدفعه من شعبيته في كل مكان، لا تقتصر تراجع شعبيته على الجمهور العربي والإسلامي بل يشمل الجمهور الغربي أيضاً، وقد بدأت تظهر معالم الرفض والتكذيب للرواية المنحازة للعدوان الاسرائيلي من قبل الملايين الواعين الذين خرجوا في شوارع واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وسيدني مطالبين بوقف العدوان، ومنددين بالعنصرية الصهيونية وحملات الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، ورافضين السياسات الداعمة لإسرائيل.
في الحرب على غزة تخلى وزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن عن مصداقيته وأكد وجود مركز قيادة وأنفاق تحت مجمع الشفاء الطبي، وعبر عن انحيازه وتفاخره بصهيونيته، وأكد الدعم الأميركي المستمر لما سمّاه « حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها»، كذلك فعل الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتحدث عن قطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء الإسرائيليات، ورددها من بعدهما الإعلام الغربي، وثبت كذبها.
لم يعد الرأي العام العالمي يخدعه الترويج الأمريكي الاسرائيلي للحرب أنها حرب ضد الإرهاب، بات الرأي العام يطالب بوضع حد للعدوان الإسرائيلي وقتل المدنيين الفلسطينيين، الرئيس الأمريكي بنفسه لم يستطع إخفاء هذا التغير في المزاج الشعبي حين قال إن إسرائيل بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي، نتيجة «قصفها العشوائي» لقطاع غزة، الذي أودى بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين، إلا أن في هذا أيضاً تضليل إعلامي من رجل سياسة تتابعه وسائل الإعلام وتنقل تصريحاته كما هي، ولا يتم لفت النظر إلى مصداقية مقولة «القصف العشوائي» بأنها كاذبة، لقد استُهدفت البنية التحتية في غزة عمداً وقُصفت المدارس ومراكز الايواء والمشافي والمساجد من قبل الطائرات والمدفعية والزوارق البحرية بقذائف وصفت أنها ذكية، فلماذا استغباء الناس وقد باتوا يرفضون الاستخفاف بعقولهم.
ورغم هذه النتائج السلبية المؤثرة على وسائل الإعلام، والتي تدركها وتخشاها، يصر بعضها على الجري وراء المصالح الاستعمارية، ويستمر في التستر على إسرائيل في قتل جيشها لمواطنيها في حفل ريعيم يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، مستنداً على أوهام التعتيم الإعلامي من خلال إجراءات واهية مثل قطع الاتصالات في غزة للتعمية عما يجري من جرائم بحق الإنسانية، بعد ذلك يبدو أن الإعلام الغربي سيكون ثاني مهزوم في معركة طوفان الأقصى فاقداً للمصداقية والمهنية والاحترافية، تتجلى أمامه هزيمة الجيش المتوغل في أرض غزة فاقداً قدرته على تحقيق نصر ما، يقدمه لجمهوره المتعطش للدم الفلسطيني.