2023-12-20 15:58:55
أمد/
عندما يصبح الحلم كاوبوسًا، يكون الأمل بعيد المنال، ولكن مع العقيدة والإيمان والثبات على أن الحق سوف يعود لأصحابه يومًا من الأيام، تتولد الإرادة على تحقيق المستحيل، كلمات بسيطة ربما تشكل جزءًا من الواقع المرير الذي يعيشه شباب غزة، ممن فرض عليهم الصراع الطويل بين جيش الاحتلال الإسرائيلي المغتصب والشعب الفلسطيني «صاحب الأرض»، فمن الصعب أن يتحمل بشر ما يحدث وسط الصراع الدائر، في غزة بؤرة الأحداث، التي لم تهدأ منذ السابع من أكتوبر، في أصعب مرحلة تمر على القطاع الفلسطيني، منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، في بداية القرن العشرين، عندما زحفت قوافل المهاجرين إلى فلسطين، بعد صدور الوعد المشؤوم، الذي أطلقه وزير خارجية إنجلترا آرثر جيمس بلفور، بتوفير الحماية لهم والمساعدة اللازمة، في 2 نوفمبر عام 1917، بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
منذ ذلك التاريخ، بدأ الصراع بعد ظهور مطامع الاحتلال في الأرض العربية، فولدت أجيالًا عاصرت التاريخ الدموي، الذي امتد لعشرات السنين، ومع تقدم العمر ويصبح الطفل شابًا يرى جنودًا يحملون السلاح ويهددون ويقتلون أقاربه وأحبائه، ويحكي والديه له تاريخ النضال، تترسخ بداخله صورة عميقة للمصير المجهول الذي ينظره، وفجأة تتحول أحلامه والتفكير في المستقبل، إلى كيفية الصمود ومواجهة العدوان الغاشم، وحماية من حوله من بنادق العدو، التي تصوب نحو أبرياء، كتب لهم القدر أن يولدوا وسط أرض النضال والمعارك، التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء، الذين اختاروا الموت بشرف وشجاعة، عن الاستسلام أمام العدو.
وعلى مدار السنوات السابقة، دارات حروب كثيرة بين المقاومة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن حرب غزة الدائرة الآن ليست مثل كل الحروب السابقة، فإن تشهد وقفاً لإطلاق النار بشكل نهائي مثلما حدث في السابق، ولو حدث لكان أقارب الشهداء تمكنوا من دفنهم، بل تأتي صعوبة الأمر وجسامته في عدم القدرة على إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية، فجيش الاحتلال الغاشم يمارس سياسية التجويع والانتقام الجبار بحق المدنيين الفلسطينيين.
تختلف هذه الحرب عن الحروب الأخرى لأنها تأتي في وقت تتداعى فيه خطوط الصدع التي تقسم الشرق الأوسط، فعلى مدى عقدين من الزمن على الأقل، كان الصدع الأكثر خطورة في المشهد الجيوسياسي الممزق في المنطقة هو بين أصدقاء وحلفاء إيران، وأصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة. لقد نشأ جيل كامل من الشباب في غزة لا يعرف سوى الحدود المغلقة، وتداعيات النزاع المؤلمة،
يمثّل هذا الجيل خُمس سكان غزة البالغ عددهم قرابة 2.2 مليون نسمة، ووثقت بعض الصور جلسة ودية جمعت عدة فلسطينيين في غزة على قهوة مصنوعة على نيران الحطب، نتيجة نقص إمدادات الغاز، بسبب الحصار المفروض على القطاع، ويظهر في المشهد مجموعة من الشباب وهم يجلسون بشكل ودي ويتبادلون الأحاديث الطريفة، منهم طبيب ومحام ومصور وناشط، وقد اجتمعوا حول نار يصنعون عليها القهوة.
وكتب أحد الشباب: «نتجمع ولو لخمس دقائق حتى نستطيع أن نظل ثابتين، تأتي أيام لا ننام، ولا نأكل لأيام، ولكن يجب أن نبقى على رأس عملنا، وسنبقى دائما بإذن الله رافعي الرأس مهما حصل، وعلى رأس عملنا أولا بأول»، بينما قال شابًا آخر «قهوة الصباح الروتين الأساسي والصباحي لأهل غزة.. إحنا أهل مزاج وما بنقدر نعدي اليوم بدون قهوة.. آخر غاز كنا محتفظين فيه للقهوة خلص اليوم، والفحم طبعا مشغول للخبز وتسخين المية، ما نشرب قهوة يعني؟! أبدًا ما يصير وجدنا الحل»، وعقب الانتهاء من القهوة سكبها في الفنجان، وقال «لا حيرة مع اليأس ولا يأس مع الحيرة.. الحمد لله.. صباح الخير يا غزة»، وفي لحظة صمود أخرى، تعكس التحد والإصرار على استكمال مشوار التعليم والدراسة، شاهدنا بعض الصبية يبحثون عن كتبهم بين ركام المنازل المدمرة في رفح جنوبي قطاع غزة إثر القصف الوحشي من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
ووثقت بعض الصور مشاهد لشاب يتوضأ بمياه الأمطار في أحد مراكز إيواء النازحين جنوب قطاع غزة، قائلا «أتوضأ بمياه المطر وأشرب منها أيضا.. الحمد لله على كل حال.. حسبنا الله ونعم الوكيل»، تلك المشاهد والروايات تؤكد العقيدة والصمود الراسخ داخل شباب غزة، ويؤكد أن الصعوبات والتحديات، مهما تعاظمت تزيد من الإصرار على الكفاح، من أجل الوصول إلى الهدف المنشود، وهو بالطبع القضاء على الاحتلال وتحرير واستعادة الأرض، ورغم الضغوط غير المسبوقة والأزمات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، في تدبير كوب مياه نظيف يروي العطش أو قطعة خبز تسد جوع من لازال على قيد الحياة وفي عمره بقية، ينتظر دوره في الشهادة
ورغم حملة الإبادة الجماعية التي يواصلها الاحتلال الإسرائيلي بعدوانه المتواصل على القطاع منذ أكثر من 70 يومًا، فإن العديد من سكان غزة يفضلون الموت في أرضهم، بدلا من العيش في المنفى إلى أجل غير مسمى، وهو المصير الذي حل بأجيال من الفلسطينيين في أماكن أخرى، وهو ما تأكد بعد قيام قرابة 75% من سكان مخيم «جباليا» بالبقاء ورفض النزوح إلى الجنوب، مما يعقّد الهجوم الذي يشنه جيش الاحتلال بريًا وجويًا، حيث تعد منطقة شمالي القطاع من الأراضي المكتظة بالسكان بشكل كبير قياسا بمساحتها الضيقة.
هذا الواقع صنعه الاحتلال الذي هجّر آباء وأجداد من وطنهم، ثم حاصرهم في أقصى جنوب الوطن في البقعة المقاومة غزة، وأوغل في دمائهم، وانتزع أرواحهم، وقتل آمالهم، ودفن أحلامهم، ثم جيء لهم بسلطةٍ نصفها الغني تحت الاحتلال، ونصفها الفقير تحت الحصار، زادت واقعهم بؤسًا وحالهم تعسًا فتفاقمت المشكلة الاقتصادية في قطاع غزة منذ الانقسام، كنتيجة تراكمية بدأت منذ النكبة وساهمت فيها عوامل الاحتلال والحصار، والحروب المتكررة، وعقوبات السلطة، وضيق المكان، ومحدودية الموارد، وعدم الاستقرار، وسوء الإدارة.
تفاقم المشكلة الاقتصادية في قطاع غزة ضحيتها الأكثر تضررًا هم أجيال الشباب الصاعدة، وخصوصًا خريجي الجامعات المتدفقين إلى سوق العمل سنويًا بعشرات الآلاف من دون فرصة عمل إلا القليل منهم، ففقدوا مع الوقت الأمل ببناء مستقبلهم داخل وطنهم في غزة التي تختصر فلسطين، فاضطروا إلى البحث عن أمل منشود خارج وطنهم بديلاً من أمل مفقود داخله، فكانت الهجرة هي الخلاص من واقعهم المأساوي، توفير فرص الحياة الكريمة للشباب الفلسطيني داخل وطنهم فلسطين يعني إيجاد فرص عمل لهم يستطيعون من خلالها بناء أسرة وإعالتها، وهذا يتطلب مشروعًا وطنيًا كبيرًا وشاملاً يعتمد على استراتيجية وطنية لتشغيل الشباب واستثمار طاقاتهم، لكن ما يحدث في غزة الآن من تدمير للأخضر واليابس، يعصف بأحلاب الشباب، ولكن تبقى عزيمتهم وصمودهم على السلاح الذي لا يستطيع الاحتلال هزيمته أو تدميره.
تحقيق طموحات الشباب وسط الحرب والدمار، أمر يحتاج إلى تحقيق الوحدة الوطنية على أرضية مشروع الصمود والمقاومة والتحرير، لأن تحرير فلسطين والعودة إليها هو الخلاص الحقيقي للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وكل فلسطين وخارجها، وإلى حين انتزاع وتحقيق النصر والتحرير، لابد من صمود الشباب في وطنهم، لأنهم أداة النصر والتحرير، ووقوده وأداته الشباب والمهاجرون من فلسطين أو الصامدون فيها، فالمهاجرون من الشباب في مخيمات اللجوء ودول الشتات خارج فلسطين هم الذين أنشأوا منظمة التحرير الفلسطينية لتقود الحركة الوطنية الفلسطينية والنضال الوطني الفلسطيني في النصف الثاني من القرن العشرين، والصامدون من الشباب داخل فلسطين، وخصوصًا قطاع غزة هم الذين أسسوا حركتي الجهاد الإسلامي والمقاومة الإسلامية لتصبح طليعة المقاومة الوطنية الفلسطينية في النصف الثاني من عقد الثمانينيات في القرن العشرين وحتى الآن.
والشباب في فلسطين هم الذين وقعت عليهم، ولا تزال، مسؤولية المقاومة الأساسي، فقاتلوا وأُسروا واستشهدوا في حرب التحرير الشعبية المتواصلة، وحفروا الأنفاق، وقادوا المعارك، ونفذوا العمليات الفدائية، وصنعوا الصواريخ، وقصفوا مستوطنات الكيان الصهيوني من قطاع غزة، وهم الذين فجروا المدرعات، وتصدوا للاجتياحات، ونفذوا عمليات المقاومة المُسلحة ضد جيش الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية، وهم الذين نحتاج إلى صمودهم في فلسطين ليكونوا مُحركًا لعجلة الإنتاج والإبداع في كل مجالات الحياة في معركة الصمود والمقاومة قبل التحرير والعودة، وفي معركة البناء والتقدم بعد التحرير والعودة، وحتى ذلك الوقت، سيبقى جدل الهجرة والصمود موجودًا.
تحمل الحرب الجارية على قطاع غزة، العديد من التحديات الجسمية، التي تتطلب جهود مضنية وإرادة وعزيمة فولاذية، يتحلى بها شباب غزة الصامد في وجه العدوان الغاشم، فمن المستحيل حتى هذه اللحظة، أن يتنبأ أحد بنهاية الحرب الضروس، التي دمرت أبنية عتيقة وأرواح لم تقترف ذنب، ولكنها لم تقتل الأمل، فشباب غزة أمامه صعوبات ومخاطر غير مسبوقة، ولكن التاريخ أثبت أن الشباب قادر على تغيير الواقع، فرغم المعاناة يولد الأمل داخل نفوس لا تنتظر العون من أحد غير المولى عزوجل، حاملين لواء الإصرار والشجاعة على تحرير الأرض، وإنقاذ الوطن من قبضة العدو المُحتل.. فستحيا فلسطين بعزيمة وصلابة شبابها.