أمد/
بينما يخرج قادة حركة حماس وسياسيوها وإعلاميوها، ينشدون آيات النصر والظفر المؤزر عبر منصاتهم الإعلامية، تدك آلة الحرب الإسرائيلية وتفتك بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة بوحشية مفرطة، وكأيّ نظام دكتاتوري منغلق على نفسه ومصالحه السياسية تستمر حماس في تسويق معركتها ضد الاحتلال الإسرائيلي دون استنباط الواقع المرير الذي يشهده الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
جوع، عطش، قلة أدوية، وحرمان من النوم وعدم راحة، ألم وموت، أوبئة، ضحايا، اعتقال، قتل وجثث في الشوارع وتحت الركام، بيوت خلت من حيطانها وسقوفها وسكانها، انتقام وحشي.. واحتلال أرعن يُمعن بذلك وأكثر.
هذه هي المعادلة.. بعد أكثر من سبعين يوما على بدء الحرب الغاشمة على الشعب الفلسطيني الذي دفع الثمن وحده؛ من استشهاد ما يقارب عشرين ألفا، وإصابة أعداد – لم تحص بعد – من أبنائه، فضلا عمّا يقارب الثمانية آلاف مفقود، وأسرى يعتقلون بالمئات دون معرفة مصيرهم من قبل قوات الجيش التي أصبحت تتمركز في أجزاء واسعة من القطاع بعد أن دمرت ما يقدّر من ثلث حجم البنية التحتية والبيوت، لإعادة احتلاله والتموضع العسكري داخله، يخرج قادة حماس ليتبجحوا، كما تبجحت من قبلهم نماذج الدكتاتورية العربية والعالمية، فلا يأتون بجديد.
هو ذات النهج والمسار، وذات الغطرسة المنساقة من سطحية فكر الجماعة الواحدة والحزب الواحد والنظام الواحد، المتوهمة بشعبية طاغية وتأييد لا يقبل الهزيمة، فيكون شعب بأكمله ومستقبل قضية برمتها مرتهن بمصيرهم تحت شعار: “إما نحن أو لا أحد”. فيكون القمع والاستبداد سلوكهم السياسي المُغلف بنظرية المؤامرة الأسطوانة التي تُعزف دائما على وسائل إعلامهم، تبريرا لواقع الشعوب التي كانت ولا تزال ضحيتهم الأولى والأخيرة.
المعضلة التي تستحق الدراسة والبحث بشكل معمق ليست الدكتاتورية العربية والتي أخذت نموذج الدولة البوليسية القمعية، بل دكتاتورية حركات وفصائل سياسية مسلحة أصبحت دولا داخل الدول؛ كحركة حماس في قطاع غزة التي هي انعكاس تام ومطابق لباقي أدوات “المحور الإيراني” في المنطقة؛ وحزب الله في لبنان، والحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، والميليشيات الإيرانية في سوريا. إذ يصرون على الاستمرار في سياساتهم في خطف دولهم وشعوبهم من خلال شعارات جوفاء بالية ومستهلكة بعناوين الموت لأميركا وإسرائيل، ولم نر سوى شعوب عربية، ومن ضمنها الشعب الفلسطيني، هي من قتلت تحت وطأة الجوع والحرمان والفقر والحرب بسبب سياساتهم وشعاراتهم.
سابقا نماذج الدكتاتورية العربية التي أنهكت دولها وشعوبها بحجة القضية الفلسطينية ومقارعة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة كانت أنظمة حكم؛ كعراق صدام، وليبيا القذافي، وسوريا الأسد، وسودان البشير، ويمن عبدالله صالح. فقد حوصر الشعب العراقي وأنهك بسبب حروب وسياسات نظام صدام الذي كان يتغنى بشعبيته الجارفة بين شعوب دول المنطقة، وقد عانى الشعب الليبي من الجهل والفقر بسبب سياسات القذافي الذي لم تغنه شعبيته وطموحاته في قارة أفريقيا، وقد انقسم السودان وشعبه بصراعات البشير ونظامه الذي كان يستند على تأييد ومصالح متبادلة مع جماعة الإخوان المسلمين.
اليوم، هناك واقع جديد في الشرق الأوسط. أصبحت الدكتاتورية تأخذ طابع الفصائل والحركات. مجددا، دكتاتوريات اليوم في الشرق الأوسط أخذت نماذج جديدة، تقوم على فكر ذي اتجاهات وتوجهات سياسية مدجنة إيرانيا، وعلى استعداء الغرب وتوصيفه بما يتناسب مع مصالحها ويخدم بقاءها متحكمة بقوة السلاح بالقرار السياسي داخل بلدانها، تَواقة بأوهام الشرعية والشعبية الجماهيرية، ومعتمدة على أرجوزات ومرتزقة سياسيين وإعلاميين يسوقون لها معاركها العرمرمية تارة، ونصرها المزعوم فوق جثث شعوبها المقموعة تارة أخرى.
تماما كما يعطل حزب الله الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، ويتدخل الحشد الشعبي في سياسات العراق، ويتحكم الحوثي في مصير اليمن، وتعيث فسادا ميليشيات إيران في سوريا، تزج حركة حماس بالشعب الفلسطيني كما زُج بشعوب دول عربية في نيران معارك من أجل حركة أو جماعة أو أجندات إقليمية، دون أفق سياسي واقعي يخرجها من أتون الحرب العقيمة ودهاليزها.
حماس ما هي إلا النموذج الدكتاتوري المكرر والرديف لباقي أدوات محور إيران، التي ترى ببقائها في المعادلة السياسية الإقليمية أولوية تفوق أيّ حل سياسي يتجاوزها لوقف الحرب، وتماما كما ترى منظومة اليمين الإسرائيلي المتطرف بأن استمرار الحرب مصلحة لها في البقاء بسدة الحكم في تل أبيب لزيادة فرص تحسين صورة شعبيتها المتهالكة، ترى حماس بأن احتمالية انتهاء حالة الحرب الدائرة قد يفقدها موقعها في معادلات الصراع الإقليمي.
نحن بصدد جملة معطيات أهمها؛ أن انتهاء الحرب يعني القضاء على حكم حماس في قطاع غزة، لذلك أصبحت حماس معنية بإدارة الحرب وفقا لتقديراتها، التي تهدف إلى إطالة زمن الحرب الدائرة ليصب ذلك في صالحها، ولإظهار عجز قدرات الجيش الإسرائيلي عن القضاء عليها.
فحماس الأمس ليست كحماس اليوم، التي خسرت من قدراتها العسكرية وعناصرها القيادية والتنظيمية، فضلا عن أزمات ما بعد الحرب التي ستنفجر في وجه الحركة وسلطتها إن بقيت حماس تعاند باستبداد أمام الشعب الفلسطيني في غزة بأنها السلطة الحاكمة، وهو ما يضعها أمام حقيقة محاسبة حركة حماس شعبيا وجماهيريا، فكما انتهت الأنظمة الدكتاتورية في بعض دول الشرق الأوسط ستنتهي دكتاتورية هذه الفصائل والجماعات، لتبقى الشعوب هي من تقرر مصيرها ومن يحكمها.