أمد/
على مدي ثمانين يوما من المحرقة التي أشعلها الكيان الصهيوني بشراكة كاملة مع الولايات المتحدة والغرب الإمبريالي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر دفع خلالها أهل غزة ثمنا غير مسبوق، وهي سابقة تاريخية أن تتعرض منطقة لفقدان 3.6 في المائة من أهلها في ثمانين يوما بين شهيد ومفقود وجريح، وتدمير بنيتها التحتية؛ مقترنا بحصار وتجويع تنعدم فيه مقومات الحياة في حدها الأدنى، وتحويل مساحة القطاع التي تبلغ 365 كيلو متر مربع إلى ميدان معركة لطائراته ودباباته وبوارجه، لم يترك فيه شبرا آمنا، بأن تعاملت مع السكان المدنيين كأهداف عسكرية، خلافا لقواعد الحرب والقانون الدولي الإنساني في التعامل مع السكان المدنيين أثناء العمليات العسكرية.
وحشية الحرب التي لم تحكمها أي قواعد، في سياق الانتقام من السكان جراء فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أي إنجاز يتعلق بالأهداف التي أعلنها مع بداية رده على عملية طوفان الأقصى فيما سماها السيوف الحديدية؛ جعلت الثمن فلسطينيا باهظا جدا على كل الصعد، حتى أننا نستطيع أن نقول إن قطاع غزة قد جرى تدمير أكثر من 60 في المائة من وحداته السكنية، بل إن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية قالت إن هناك أدلة تثبت أن الضرر الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بغزة يفوق ما حدث في نزاعات أخرى في القرن الحالي، وأن هذه الحرب هي من أكثر الحروب تدميرا.
ومع ذلك فإن قوى المقاومة تواصل تدفيع قوات الاحتلال ثمنا باهظا، حتى أن هناك شكوكا؛ بدأ التعبير عنها لدى العدو من مسؤولين وصحافة حول جدوى هذه الحرب ، وواقعية الأهداف التي تستهدف تحقيقها منها، وفداحة الثمن الذي سيدفع، وهل هناك قدرة على تحمله؟
حالة الجدل داخل الكيان سببها حسابات الكيان وشركائه من القوى الإمبريالية التي تعاملت بخفة ونزق وغضب محمولا على شعور بفرط القوة مع استخفاف بقدرات المقاومة، التي لا يمكن ضمن حساب ميزان القوة التقليدي أن تضاهي قوة جيش العدو الذي يحتل مرتبة متقدمة ضمن أقوى جيوش العالم، ولأن الحرب ليست بين جيشين، وإنما بين جيش وقوى المقاومة التي تدير الحرب وفق قوانينها هي وإمكانياتها، هذا التكتيك الذي يلائم أسلوب حرب المقاومة، أفقد جيش العدو ميزة التفوق الكمي وحتى الكيفي لاختلاف أـساليب المواجهة، التي تسجل فيه المقاومة تفوقا ملموسا على العدو، جعلته يدفع ثمنا لم يسبق أن دفعة في أي من حروبه السابقة ضد الدول العربية أو الشعب الفلسطيني، منذ زرعه في فلسطين عام 1948.
هذا العجز عن تحقيق أي هدف من أهداف العدوان التي تتعلق بوجود حماس وبنيتها العسكرية والسياسية، يبدو حتى الآن صعب المنال، ولا يمكن ربطة بمواقيت محددة، في ظل الكشف عن قصور في قدرات العدو الاستخباراتية؛ إن لم يكن العمى الاستخباراتي الذي كان مفاجأة صاعقة بالنسبة له، جعلته يواصل نزف قواته وعتاده العسكري بشكل جعل بعض مسؤوليه يشكو من الثمن العالي الكلفة الذي يدفعه جيش الاحتلال، وصل حد القول عبر وسائل الإعلام ومن قبل خبراء عسكريين، أن أهداف الحرب لم تكن واقعية.
لكن هذا التقدير لفداحة ثمن الحرب، لا يعني أن العدو اقترب من التسليم بعجزه عن تحقيق أهدف تلك المحرقة، لأن ذلك يعني التسليم بهزيمته أمام حركة مقاومة، وهو أمر من الصعب تصور إقدام المستوي السياسي اليميني الفاشي الذي يقود المشهد في الكيان عليه. لأن النتائج تتعدي كونها اعتراف بالهزيمة في حرب مع فصائل فلسطينية، إلى دور الكيان الوظيفي ليس أمريكيا وأوروبيا؛ ولدى المتهافتين العرب والمسلمين، وإنما بالحفاظ على وجود الكيان في ذاته.
ولأنه ليس من المتوقع أن يقدم الكيان على الانسحاب من قطاع غزة ووقف القصف والتدمير المنهجي للقطاع بشرا وشجرا وحجرا ، ورفع الحصار، فإن على حماس التي تصنفها الدول الأوروبية من يسير في فلكها كقوة إرهابية، أن تدرك أن الوحدة الوطنية هي السلاح الأهم الآن لموجهة استهدافها، ومغادرة مربع المشروع الفصائلي إلى المشروع الوطني الشامل سياسيا وكفاحيا، فيما تكشف معطيات الحرب من جانبها خاصة ما يتعلق بمفهوم السيطرة سواء بالأنفاق أو القدرات العسكرية الأخرى؛ أن حماس لم تكن في أي وقت سابق على استعداد للوحدة مع كل مشاريع الوحدة التي جرى الاتفاق عليها، لأنه من السذاجة التقدير أن حماس التي كانت تعد غزة لبلورة مشروعها الخاص بها تنظيميا وسياسيا وكفاحيا كانت ستمكن طرفا ثانيا )فتح) كسلطة، متهمة بالتنسيق الأمني إن لم يكن ما هو أكثر من ذلك، كي تكون جزءا من مفهوم السيطرة في غزة، ولذلك كانت تماطل كي تنجز مشروعها مع القوى القريبة منها، لأهداف تتعلق بمستقبلها السياسي على المستوي الوطني وربما لتعيد تجربة اسىتحواذ فتح على منظمة التحرير التي جرت عام 1968؛ وإن كان الزمن هو غير ذاك الزمن. فلسطينيا وإقليميا ودوليا, مما يجعل خيار الوحدة هو كلمة السر لتجاوز ما يدبر لحماس وغيرها من قوى المقاومة، ومن ثم فإن حفظ أهل غزة، وأيضا حماس وكل القوى الفلسطينية هو في التوجه نحو وحدة وطنية على أساس رؤية وطنية جامعة شاملة تستخلص العبر والدروس وترتقي لمستوى تضحيات غزة والضفة، انطلاقا من أنه ليس من حق فصيل أن تعلو خياراته الأيديولوجية وحياة أفراده على مصالح وحياة مجموع سكان قطاع غزة.
ولأن الكرة بشكل أساسي في مرمى حماس والوقت من دم، كونها هي من سيطرت على قطاع غزة بالقوة عام 2007، فإنها معنية بتصويت وضع قطاع غزة الشاذ، ليس بالطبع على قاعدة مشروع الخلافة الذي طرحه فتحي حماد عضو مكتب حماس السياسي ووزير داخليتها الأسبق، أو الالتحاق ببرنامج أوسلو وفق ما عرضه حسين الشيخ عضو مركزية فتح ومسؤول التنسيق الأمني، ولكن وفق معايير وطنية تستخلص الدروس عبر مراجعة شاملة للواقع الفلسطيني منذ أوسلو حتى الآن ، للتأسيس لما بعد المحرقة واستثمار الزخم الشعبي العالمي الذي انتصر لمعاناة أهل غزة وحقهم في دولة تجمع الضفة والقطاع مجددا. وهذا فيما نظن هو التحدي الذي يواجه الجميع وأولهم حماس.