أمد/
إن أي عملية إصلاح في أي بلد يجب أن تتسم بالشمول وتعدد الجوانب، وهناك ثلاثة جوانب لهذه العملية وهي، الإصلاح الاقتصادي الذي يهدف إلى إطلاق القوى الإنتاجية بهدف الارتفاع بمعدل النمو وتحسين الخدمات العامة للمواطنين ورفع مُستوى معيشتهم. والإصلاح الاجتماعي، الذي يركز على إطلاق قُدرات الابتكار والإبداع لدى الشعب من خلال التعليم والثقافة والبحث العلمي والتدريب، ويسعى إلى تكريس قيم المواطنة والتسامح والمساواة وعدم التمييز بين الناس. والإصلاح السياسي، الذي يستهدف توسيع دائرة المشاركة العامة والسياسية في إدارة شؤون الدولة والمجتمع واختيار الحكام والرقابة على ممارسة اختصاصاتهم وذلك في جو من الحرية واحترام القانون والدستور، الذي يتطلب أن تسبقه الخطوة الأساسية المتمثلة في عملية الإصلاح في الجهاز القضائي الفلسطيني من ألفه إلى يائه.
وعليه المطلوب من السلطة الفلسطينية القيام بعملية إصلاح شاملة تبدأ بمحاربة الفساد المستشري في مؤسساتها والعمل الجاد على التقشف للحد من المصروفات غير المنطقية بظل البطالة والفقر، وعدم الإيفاء بتسديد الرواتب، حتى أصبح خبر نزول نصف أو ثلثي الراتب خبرًا عاجلًا.
وفي نفس السياق، يمكن اعتبار المرسوم الرئاسي الأخير الصادر في 18كانون الأول/ديسمبر 2023، والقاضي بوقف تمديد الخدمة لموظفي القطاع العام المدني والعسكري بعد بلوغهم سن التقاعد خطوة إصلاحية لكن صغيرة جدَا ومتأخرة كثيرًا، فقد جاءت بعد ندرة المال والمطالبات الدولية للحد من فاتورة الرواتب التي تنمو وتتصاعد رغم عدم التوظيف لفئة الشباب والتمديد لمن يمتلك نفوذ أو واسطة تمنحه الحق في البقاء على رأس المؤسسة، وهذا يتطلب القيام في العديد من الخطوات على هذا الطريق تبدأ في طريقة التوظيف وإغلاق نافذة التوظيف غير المشروع في الوساطات ولأبناء المسؤولين وغيرها من وسائل الاعتداء والاستحواذ على الوظائف العليا والسلك الدبلوماسي وغيرها من الوظائف التي يتم تفصليها على مقاسات محددة وبمعايير ذات مواصفات خاصة إلى أشخاص خاصين وجميعهم قفزوا كما يقال في علم الإدارة في البراشوت.
لا يكفي إيقاف التمديد لوحده، بل يجب مراجعة جميع المراسيم والقرارات الخاصة في الاستثناءات في التعيين من هذه الشريحة التي تتجاوز سن التقاعد، وهي الغالبية في جميع المؤسسات المدنية والعسكرية على حد سواء وعدم فتح المجال لمن يصل لسن التقاعد في مؤسسته للتربع على عرش مؤسسة أخرى تكون محجوزة مسبقًا أو تأسس على مقاسه؛ فذلك يتطلب تطبيق القانون من "أعلى إلى أسفل" ليكون القانون عادلًا وتكون الساحة الوظيفية خالية من الاستثناءات التي أصبحت بالجملة وتفوق التصور؛ أي قانون أو صيغة لا تعمل على تطبيق بنودها تكون عبئًا على الساحة الفلسطينية وتشكل معول هدم وحواجز تقف أمام التطور والبناء، وتصب في إحباط الشعب وبالتحديد فئة الشباب.
وبناء على ما سبق، يجب تجسيد الشفافية في التوظيف الذي تحكمه الواسطة والمحسوبية، وتشكيل لجان مراقبة ومحاسبة تنبع من إحياء عمل المجلس التشريعي، وذلك من خلال تجديد الشرعيات الفلسطينية الثلاث المنتهية الصلاحية الرئاسية والبرلمان والبلديات وغيرها من المؤسسات، وكل ذلك يستدعي مباشرة تحديد سقف زمني لعقد جميع الانتخابات العامة؛ دون ذلك ستبقى السلطة التنفيذية هي من تتربع على كل مؤسسات السلطة والمنظمة. وهذا يقودنا إلى مزيد من النقد الداخلي والخارجي وتدهور الأوضاع على جميع الصعد، وفي النهاية نصل لمرحلة عدم القدرة على تحقيق الإصلاح، وتجذر معاول هدم أسس المؤسسات التي تم بناؤها بدماء الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها منظمة التحرير التي يجب إعادة بنائها على أسس الشراكة الوطنية، ويجب في المرحلة الأولى ضم جميع القوى على القاعدة التمثيلية المتمثلة في نسب الانتخابات التشريعية لعام 2006، ويمكن لحماس أن توافق على نسبة معتدلة ومقبولة بالتمثيل تقل أيضًا عن نسبتها التمثيلية للخروج من المأزق الذي تمر به القضية الفلسطينية، وبما أن الانتخابات للمنظمة التي يجب الاتفاق عليها هي الفيصل والحكم في قيادة المنظمة والسلطة التي هي بنت المنظمة وليس العكس كما هو حاصل حاليًا.
وعلى السلطة أيضًا التخلص من اتفاقية باريس الاقتصادية، التي كبلت السلطة، وفوضت إسرائيل بجباية الجمارك والضرائب المختلفة على واردات السلطة، وخاصة الحيوية منها كالمحروقات والكهرباء، فلا تستطيع السلطة التخلي عن أموال المقاصة، فيجب على السلطة القيام بتفعيل دعوى قضائية دولية ضد إسرائيل من أجل منعها من السطو على أموال الفلسطينيين عبر المقاصة، كما أن اتفاق باريس الاقتصادي كان لفترة انتقالية محدودة، انتهت منذ زمن، ولا يجوز أن تبقى إسرائيل مفوضة بجمع أموال الفلسطينيين، والتحكم بها الذي يزداد يوميًا، فهو ليس جديد وغير مقرون في الحكومة الإسرائيلية المتطرفة والمتمثلة في وزير ماليتها المتطرف بتسلئيل سموتريتس الذي يرفض تحويل المقاصة للسلطة الفلسطينية بعد اتخاذ قرار من قبل المجلس الوزاري المصغر للعدو الإسرائيلي باقتطاع الأموال المخصصة لقطاع غزة، فإسرائيل تخصم من أموال الضرائب الأموال المدفوعة للأسرى وعائلاتهم، والأموال المدفوعة لعائلات الشهداء، وهنا يبرز السؤال الرئيس والمتمثل بعد هذه الاقتطاعات هل ستقدم إسرائيل على الخصم في المستقبل من الأموال المخصصة لجنين ونابلس وطولكرم ومخيم عقبة جبر، وهل سيقف الحد عند هذه الخصومات أم سيشجع إسرائيل على الاستمرار في الاقتطاعات والسطو على أموال الشعب الفلسطيني، مع العلم أن هذه الاقتطاعات ليست جديدة بل بدأت منذ سنة 2015 من خلال اقتطاع أموال الأسرى والشهداء وغيرها من الاقتطاعات حتى وصل الحد لتعويض أهالي القتلى الإسرائيليين وتعويض العملاء.
وفي هذا الصدد، يجب على السلطة القيام بمراجعة عملية لمسيرتها في ظل أوسلو، بهدف تحديد موضوعي ناضج لعناصر القوة والضعف في التحالف الصهيوني الأمريكي والقوى التابعة له بعد تكشف موقفهم من الحرب على غزة، وفي التحالف الفلسطيني العربي والقوى الداعمة له، بشكل يمكنها من تحديد أولوياتها في هذا الصراع، والتي تتمثل بوضع خطة واقعية للخلاص من جثة أوسلو المركونة في ثلاجات الموتى، وتشكيل جبهة مقاومة موحدة على قاعدة الشراكة والديمقراطية في اتخاذ القرار، وبناء مجتمع ديمقراطي تعددي وفق نظام يعتمد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واستقلال القضاء وسيادة القانون الوطني وحرية الرأي والتعبير، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية بشكل دوري.
وعلى نفس المنوال، على السلطة إيصال إسرائيل لقناعة بأن تنفيذها لأي من هذه القوانين سيؤدي إلى ردة فعل من الجانب الفلسطيني تمس قضايا مشتركة كثيرة، تعرف إسرائيل أنها ستتأثر إذا قامت السلطة بمراجعتها. كما أن على السلطة اللجوء إلى كل الهيئات والمنظمات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية لكي تبت في الجرائم البشعة والكارثية التي ترتكبها إسرائيل يومياً بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية.
وكل ذلك يتحمل مسؤوليته منظمة التحرير التي منحت بتوقيعها على اتفاق أوسلو ومن بعده اتفاق باريس الاقتصادي إسرائيل الصلاحيات الكاملة للتحكم في كل القضايا الأساسية السياسية والسيادية والأمنية في الاتفاق الأول، والتحكم في القضايا الاقتصادية في الاتفاق الثاني حتى وصل الأمر لتحكم إسرائيل بكل مجريات الحياة الفلسطينية ولم يبق للسلطة أي صلاحيات حيث أصبحت بلا سلطات.
وهنا يمكن القول، أن منظمة التحرير تدفع ثمنًا كبيرًا جدًا بعدم قيامها بتطبيق القرارات التي تم اتخاذها في المجلسين الوطني والمركزي والمتمثلة بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل؛ فإسرائيل تقدم المال من أجل عدم انهيار السلطة الفلسطينية واندلاع انتفاضة ثالثة، وهذه هي توصية الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي تقف ضد محاصرة السلطة ماليًا، من أجل عدم وصول الأوضاع لطريق مسدود وانهيار السلطة الذي سيحدث فراغ ويجبر الاحتلال على تحمل مسؤوليته عن المناطق التي يحتلها بناء على قواعد القانون الدولي.
أن القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس محمود عباس لا يمكن لها أن تقدم على قطع العلاقات مع إسرائيل، وذلك يعود لقناعته بأن وجود السلطة مقرون بعدم اندلاع انتفاضة ثالثة، فالرئيس لا يؤمن بغير طريق المفاوضات. إضافة إلى أن السلطة لا تستطيع أن تقدم شيئًا للشعب الفلسطيني باستثناء المال، هذه هي الوظيفة المتبقية للسلطة وفي حال فقدت السلطة المال ستفقد السيطرة، وبعد الضغط على السلطة من خلال هذه النافذة المالية باقتطاع أموال الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل ممثلة في حكومتها المتطرفة. فعلى السلطة قلب الطاولة على رأس إسرائيل، التي لا تعير السلطة أي اهتمام وبل تريد أن تخلق الفوضى في الساحة الفلسطينية وكل ذلك يقود إلى ثورة عامة في الضفة التي تريدها إسرائيل داخلية وليس ضدها ولكن سينقلب السحر على الساحر.
فالسابع من أكتوبر2023، خلق واقعًا فلسطينيًا وإسرائيليًا وإقليميًا ودوليًا تجاوز كل التوقعات والاتفاقيات سابقة الذكر؛ فعلى المستوى الفلسطيني أثبتت المقاومة أنه يمكنها تحقيق أهدافها من خلال عناصر القوة والردع للاحتلال، وتستطيع هزيمة الاحتلال، وأن الشعب الفلسطيني ليس قدره أن يعيش تحت الاحتلال وبساطير جنوده، بل استطاعت المقاومة الدعس على رقاب جيش الاحتلال الذي أصبح جيش يقهر ويتقهقر من المعركة بعد أكثر من شهرين من المعركة ولعل فرقة جولاني أكبر دليل على ذلك، وعلى المستوى العربي الرسمي فكان الموقف لا يمت للوطنية والعروبة والإنسانية بصلة، وعلى المستوى الشعبي باستثناء اليمن الشقيق لم يصل لمستوى الكارثة التي حلت بالقضية الفلسطينية وإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتدمير القطاع. وعلى المستوى الإسرائيلي أصبحت إسرائيل تستجدي الدعم الدولي وبالتحديد الإمبريالي المتمثل في أمريكا التي وقفت أمامها في المعركة ودعمتها من الألف إلى الياء في حرب الإبادة على القطاع على جميع المستويات العسكرية والسياسية والمالية والإعلامية والقانونية من خلال الفيتو الأمريكي المتواصل لوقف الحرب على القطاع، ولولا هذا الدعم الظالم لأصبحت إسرائيل بلا قوة ولم تستطع حماية ظهرها. وعلى المستوى الدولي انكشف الموقف الدولي الرسمي المنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان بموقفه الداعم للاحتلال. ولكن على المستوى الشعبي كان الموقف مؤيد وداعم للقضية الفلسطينية، وتم إعادة القضية الفلسطينية على الطاولة الدولية بعد غياب طوعي وقصري لثلاثة عقود من المفاوضات العديمة.
فعلى المستوى الإسرائيلي، فقد أعربت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن معارضتها محاصرة السلطة ماليًا وإضعافها لأنها متخوفة من انهيارها الذي سيؤسس لمرحلة صدام دامي (انتفاضة)، وعليه يمكن التقاء مصالح كل من السلطة وإسرائيل عبر ابتكار حل للخروج من المأزق الحالي، فإسرائيل جنت الكثير مقابل عدم تطبيق قرارات المركزي بسحب الاعتراف بإسرائيل، ولم تخسر شيئًا من المال فهو مال الشعب الفلسطيني الذي تجنيه إسرائيل من الضرائب.
وهنا لا بد من خطوات يجب على القيادة الفلسطينية التي يجب أن تمثل الكل الفلسطيني بما فيها حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية القيام بها لمواجهة الأدوات الإسرائيلية الهادفة لتفكيك السياسة الفلسطينية الوطنية وإلحاق القضية الفلسطينية بهيئة الإدارة المدنية الإسرائيلية ومع المنسق مباشرة، فالخطوة الأولى، الانسحاب من اتفاقية باريس الاقتصادية التي منحت إسرائيل الصلاحيات الكاملة للسيطرة على الاقتصاد الفلسطيني وجعلت السلطة محتاجة لإسرائيل بكل التفاصيل الاقتصادية من استيراد وتصدير وذلك من خلال جباية إسرائيل لأموال الضرائب والسيطرة الكاملة على الحدود والمعابر. وتتمثل الخطوة الثانية، في المستوى السياسي المتعلق في اتفاق أوسلو؛ مطلوب من القيادة الفلسطينية الموحدة أن تعلن بوضوح ورسميًا بأن المنظمة أصبحت بحل من جميع الاتفاقيات مع إسرائيل التي تنصلت منها الأخيرة، في الوقت الذي تتمسك فيه بالشق الملزم للفلسطينيين في ظل عدم التزامها بأي شرط يلزمها بتنفيذ ما جاء بهذه الاتفاقيات التي أصبحت ميتة بعد ثلاثة عقود على توقيعها ولم تلتزم إسرائيل بأي من بنودها، وتصل الخطوة الثالثة لحد مقاطعة إسرائيل على المستوى الاقتصادي وتنفيذ ذلك وحرق كل بطاقات الشخصيات المهمة التي تصدرها إسرائيل لمسؤولي السلطة الفلسطينية وصولًا للعصيان المدني، وتحميل الاحتلال مسؤوليته عن احتلاله المتواصل منذ أكثر من سبعة عقود، بل أصبح احتلال مربح ومتربع على خيرات وأموال الوطن، وكأن وزير ماليتهم المتطرف سموتريتش يمن على الشعب الفلسطيني بأموال الشعب المظلوم "فالظلم قوة مؤقتة".