أمد/
تناقش هذه المقالة إشكالية أساسية تفرض نفسها بشكل قوي هذه الأيام في الساحة المحلية والإقليمية والدولية بينما تستعر الحرب على القطاع، والمتمثلة في هل تستطيع السلطة الفلسطينية حكم قطاع غزة؟، بظل عدم تمكنها من حكم الضفة الغربية المتواجدة بها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ومازالت إسرائيل تعيق طريق السلطة في الضفة حتى غدت السلطة بلا سلطات، حتى وصل بها الحد لنقل صلاحيات السلطة للمنسق بعد سحب ما تبقى للسلطة من صلاحيات، فأي سلطة سوف تمارسها في القطاع بظل وجود قوتين أساسيتين تقفان أمام السلطة. القوة الأولى، هي التي جردت السلطة من قوتها في القطاع وسيطرت على سلطاتها ومقراتها والمتمثلة في كتائب عز الدين القسام، التي يمكن لها أن تقبل بوجود السلطة لكن بدون تنسيق أمني. وإسرائيل التي تريد سلطة من أجل التنسيق الأمني كما يحصل في الضفة، وهذا لا تقوى عليه السلطة في القطاع. وعلى هذا الأساس يقف هذان المعيقان سدًا منيعًا أمام السلطة؛ وهذا في حال تم تخطي العديد من المعيقات المتداخلة العربية والفلسطينية والدولية وعلى جميع الصعد، إضافة إلى فقدانها للقوة والمال وعدم توفير الدعم الخارجي "المنح" للإيفاء بالتزاماتها المالية والاجتماعية.
بعد أكثر من عقد ونصف من عدم وجود السلطة في القطاع هل سيقبل الشعب في غزة بوجود سلطة يعتبرونها جزءًا من حصارهم على مدار عقد ونصف؟، وعلى المستوى العربي هل تستطيع السلطة فتح معبر رفح بشكل دائم؟، ومع من ستتعامل مصر، هل ستتعامل مع كتائب القسام التي تملك القوة أم مع الحكومة التي تملك الدعم السياسي الأمريكي والإسرائيلي والعربي؟، وكفة من سترجح عند الجمهورية المصرية، من يحفظ لها أمن الحدود وأمن سيناء، ويمنع تزويد التنظيمات التكفيرية في سناء بالعناصر البشرية من القوى السلفية في القطاع الذين يريدون الذهاب لسيناء للانضمام للقوى التكفيرية هناك واستهداف الجيش المصري وزعزعة حكمه في سيناء، أم كفة التعاطي مع السلطة الفلسطينية التي تفتقد لعنصر القوة؟.
وقد صرحت السلطة بإنها ترغب في الاضطلاع بدور في غزة، لكن الكثيرين يشككون في قدرتها على فعل ذلك، حتى لو توافرت مثل هذه الخطة، وفي مقدمة من يشكك في ذلك من أهل البيت القائد المخضرم عضو اللجنة المركزية المفصول من حركة فتح ناصر القدوة الذي يقول "أعتقد أن السلطة الحالية، بشكلها الحالي ومع الرجال الذين يقودونها، غير قادرة على وضع قدم في القطاع، ناهيك بالمهمات الأساسية المطلوبة في هذا الوقت".
أما على المستوى الإسرائيلي، فقد كان الموقف واضحًا من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي عمل على مدار حكمه لأكثر من عقدين على سحب صلاحيات السلطة حتى أوصلها لسلطة بلا سلطات، ولا تحكم خارج أسوار مقراتها شبرًا واحدًا في الضفة التي تصول وتجول بها الدبابات الإسرائيلية والجرافات التي دمرت البنية التحتية في المخيمات والمحافظات حتى وصلت للريف الفلسطيني، ناهيك عن القتل اليومي والتدمير والمصادرة والاعتقال، وحتى إغلاق المؤسسات الحقوقية والمقرات التابعة للمنظمات الصحية، ومصادرة أموال المصارف ومحلات الصرافة والمركبات الخاصة، والتوسع الاستيطاني الجنوني، والاعتداءات المتواصلة والمتصاعدة من قبل المستوطنين على الشعب الفلسطيني. حتى أصبحت الضفة مقطعة الأوصال "جيوب" وكل محافظة أصبحت سجنًا بحد ذاته، والقرى الفلسطينية مغلقة ببوابات على مدخلها، وتمنع تنقل المواطنين في الشوارع الرئيسية، بحيث أصبحت هذه الطرقات حكرًا للمستوطنين، والشعب الفلسطيني صاحب الوطن والحق يسلك الطرق الالتفافية والجبلية التي أصبحت هي الأخرى تخضع للحواجز العسكرية واعتداءات المستوطنين مثل منطقة المربعة على تلال نابلس وغيرها من النقاط التي أصبحت مصيدة لقتل المواطنين. بالإضافة إلى السيطرة على أموال الضرائب من خلال الاقتطاعات المتعددة من أموال الشعب الفلسطيني، فاتفاقية باريس الاقتصادية سنة 1994، منحت الحق لإسرائيل بجبي الأموال وتسليمها للسلطة الفلسطينية، وغيرها من الممارسات التي ألغت أي وجود للسلطة في الضفة.
ويلاحظ أن السلطة الفلسطينية شدها تصريحات العديد من السياسيين، مثل المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط وبريت ماكغورك وهو كبير مستشاري الرئيس بايدن، الذي تحدث عن سلطة فلسطينية متجددة، من أجل إدارة غزة والضفة. وفي نفس السياق، تساءل جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي حول من سيحكم غزة؟ "أعتقد أن جهة واحدة يمكنها فعل ذلك، إنها السلطة الفلسطينية"، وعلى نفس المنوال، جيمس كليفرلي وزير الخارجية البريطاني وبشكل أكثر غموضاً، "يتحدث البعض عن الحاجة إلى دعم "فلسطينيين محبين للسلام"، وهي عبارة استخدمها مؤخراً".
وهنا يبرز سؤال وهو، في حال تم عقد الانتخابات الفلسطينية العامة الثالثة وفازت حماس في الانتخابات كيف سينظر لها، وماهي طريقة التعامل مع مثل هذه الحالة التي تعتبر قانونية وشرعية انتخابية ديمقراطية، وهل سيعيد التاريخ نفسه بعدم الاعتراف بها ونعود لدائرة الحصار والمحاصرة لحماس ومؤيديها كما حصل ومازال منذ الانتخابات العامة الثانية عام 2006؟. ولو افترضنا بأن أمريكا وإسرائيل ستمنع مشاركة حماس في الترشح والانتخاب، هل يندرج هذا تحت بوابة الديمقراطية والمشاركة السياسية التي أساسها المشاركة في الانتخابات ومن ثم الحكم؟!، وهل هذا يعني ضمناً إزالة حماس من غزة؟، بما في ذلك منع مؤيديها من الترشح في أي انتخابات مستقبلية، وهل يوجد قوة في العالم تلغي وجود حزب سياسي له وزنه على جميع الصعد بما فيها التأييد الشعبي المنقطع النظير، وهذا ما تؤكده جميع استطلاعات الرأي الأخيرة، وهل تستطيع أي قوة في العالم تجاوز حماس في القطاع؟.
وسرعان ما جاء الإجابة عليه من المستوى العربي من خلال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الذي قال إن حماس هي فكرة، وجادل بأنها متجذرة بعمق في غزة، منذ أن فازت في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، ومن ثم طردت بالقوة حركة فتح، التي تهيمن على السلطة الفلسطينية.
الحقيقة هي أن المزاج السياسي في غزة هو مع المقاومة على الرغم من حرب الإبادة وكارثة الدمار التي حلت في غزة، فالسابع من أكتوبر شكل نشوة نصر لا يمكن مسحها من تاريخ الشعب الفلسطيني وبالتحديد الغزاويين الذين سوف يرتبط تعريف هويتهم بنصر السابع من أكتوبر وهذا سيرافقهم إلى الأبد. كما أن صورة النصر سترتبط بتحرير الأسرى، وفي التضحية الغزية الفريدة من نوعها منذ قرنيين، حيث ضحت بعشرات الآلاف من الشهداء وبالبنية التحتية للقطاع من أجل الأقصى وتحرير الأسرى المؤبدات، على الرغم من أن عدد أسرى غزة في السجون الإسرائيلية ما قبل السابع من أكتوبر بسيط جدًا.
إن هيكل الفرص السياسية للدور السياسي والكفاحي ونوافذ النصر الغزاوية مفتوحة لحركة حماس، وفي المقابل نافذة الفرص السياسية مغلقة أمام السلطة الفلسطينية، وكل ما سبق ذكره يمنع التعامل الغزاوي مع من وقف طوال فترة الحرب متفرجًا ولم يضرب على الاحتلال حجرًا لنصرة غزة، فلا يمكن أن تفتح له نافذة حكم غزة. وفي المقابل يتسع هيكل الفرص السياسية لحكم غزة لمن سيخرج من تحت أنقاض ركام غزة، ومن نافذة أنفاق غزة يلوح بإشارة النصر، ومن سيستقبل الأسرى القادة المؤبدات، فهذا هو الذي سوف يحدث حتى لو وقف العالم ضده لن يستطيع شطب صورة الأسرى المحررين وهم يرفعون إشارة النصر من نوافذ الحافلات؛ وغير ذلك يمكن فقط من خلال صناديق الاقتراع التي تعتبر هي امتداد حقيقي لقطف ثمار ما تم زرعه، فالشعب الفلسطيني سيختار من قدم وضحى وهزم إسرائيل، فعملية صعود حماس مستمرة وتتوسع مقابل تقلصها وانغلاقها لخصمها السياسي الفلسطيني.
هناك أسباب عديدة لضعف السلطة الفلسطينية، بعضها مفروض ذاتيا، والبعض الآخر موضوعيًا، فالفساد منتشر على نطاق واسع، على الرغم من أن السلطة تقول إنه ليس كبيرًا وأنها تعمل على معالجة الأمر ولعل المرسوم الأخير الصادر في كانون الأول/ديسمبر القاضي بعدم التجديد لمن يصل لسن التقاعد يعتبر خطوة في طريق المعالجة رغم صغر حجمها، وجاء ذلك بعد أن أصيبت السلطة بالشلل المالي بسبب امتناع المانحين بقيادة الولايات المتحدة عن تقديم الدعم المالي للسلطة، وغالبية الدول العربية، باستثناء الجزائر لم توفي بالتزاماتها تجاه الدعم المالي لخزينة السلطة، أما الاتحاد الأوروبي في بعض الأحيان قام بتقديم الدعم للسلطة على الرغم من أنه يغطي الجزء الأكبر من فاتورة رواتب المتقاعدين الشهرية.
ومن أجل تقييم ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستكون قادرة على القيام بهذه المهمة، وأنها قابلة للإصلاح، فإن ثمة حاجة إلى شرح الأسباب التي أوصلتها إلى الحالة الخطيرة التي هي عليها اليوم. وهذا يجب أن يبدأ بالإقرار بأن هؤلاء الذين يدعون اليوم إلى "تجديد" السلطة الفلسطينية، هم أنفسهم من قاوم مثل هذه الخطوة لسنوات عدة.
ويقول مفوض السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أنه مقتنع بوجود بقايا لحركة فتح في غزة يمكن البناء عليها، حيث صرح بأنه "هناك 60 ألف شخص في غزة يتلقون رواتب من السلطة، 30 ألفاً كانوا موظفين في السلطة قبل سيطرة حماس سنة 2007، و30 ألفاً آخرين من المتقاعدين". إلا أن الدبلوماسيين الغربيين في فلسطين ليسوا جاهلين تماماً بشأن الوضع الذي ينتظر الواقع الجديد في القطاع ما بعد الحرب، حيث تطلب الولايات المتحدة أن يكون الدور الأساسي للسلطة بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، على الرغم من تصريح نتنياهو وغيره من القادة الإسرائيليين الذين يرفضون تولي السلطة الدور في القطاع ولا تريد إسرائيل الموافقة على السماح للسلطة بالدخول إلى غزة، وتريد البقاء على حكم غزة أمنيًا خوفًا منها بتكرار السابع من أكتوبر، وضمان عدم عودة قدرات حماس العسكرية، وإرضاء للمستوطنين في غلاف غزة وإقناعهم في العودة للمستوطنات بعد رفضهم العودة لها.
كما لم تتمكن السلطة من إقناع الغرب بأن توسيع المستوطنات الإسرائيلية من شأنه أن يعيق فرصة التوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وفي هذا الصدد يقول أليستر بيرت، وزير شؤون الشرق الأوسط السابق في المملكة المتحدة، "أنه لم يتخذ أي إجراء من قبل المجتمع الدولي فيما يتعلق بالمستوطنات"، ويضيف "لم تكن إسرائيل تخدم السلطة الفلسطينية بشكل جيد، حيث كانت سعيدة للغاية باستمرارها، لكنها لم تكن فعالة بشكل خاص، وقد وافقت قيادة السلطة على ذلك، لذا كان هناك شعور بالركود في المنطقة بأكملها إلى حد كبير".
وبناءً على ما سبق، انتهى الأمر بأن أصبح الفلسطينيون ينظرون إلى السلطة الفلسطينية على نحو متزايد باعتبارها مقاولاً أمنيًا لإسرائيل، وقدرت منظمة محامون من أجل العدالة، وهي مجموعة توثق مثل هذه الحالات المتعلقة بالعدالة التعسفية، أنه في سنة 2022 وحدها، اعتقلت السلطة الفلسطينية أكثر من 500 فلسطيني لارتكابهم أعمال مقاومة ضد إسرائيل، إلا أن السلطة تقول بأن البديل هو اندلاع انتفاضة ثالثة وانهيار السلطة، مما أثر كل هذا بشكل كبير على شعبية السلطة. وتظهر استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أنه قبل السابع من أكتوبر، اعتبر 80% من الفلسطينيين أن السلطة فاسدة، واعتبرها 62% عائقاً وليس رصيداً، ولا تتمتع أي من مؤسساتها الرئيسية بشرعية شعبية، وكل ذلك يصب في إضعاف السلطة، وهو ما يصب في مصلحة المقاومة ويؤكد طريق الشباب في الضفة ويزيد نافذة الفرص أمام المقاومة لمواجهة المستوطنين وقوات الجيش الإسرائيلي. على الرغم من تراجع التأييد الشعبي للسلطة وعدم الثقة بقدرتها على حكم الضفة، إلا أن الولايات المتحدة، تسعى إلى جعل السلطة مركزاً للسياسة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الحرب في الضفة والقطاع، من أجل التقليل من قدرة حماس المستقبلية.
وفي هذا الإطار، يريد جو بايدن أن يحكم الرئيس محمود عباس غزة والذي يعتبره بايدن بطل السياسة الفلسطينية، فعباس البالغ من العمر 89 عامًا وهو في عامه التاسع عشر من ولايته الرئاسية، فهذا يعني أن كل الشرعيات الفلسطينية منتهية الصلاحية وجميعها تنتظر إجراء الانتخابات، ويكمن الحل الوحيد أمام السياسة الفلسطينية والعالم بجميع مشاربه السياسية أن يدعم اتفاق فلسطيني -فلسطيني أساسه منظمة التحرير لتشكيل إطار قيادي موحد، يضم حركتي حماس والجهاد الإسلامي؛ وبدون شروط الرئيس عباس بالموافقة على قرارات الشرعية الدولية وتطبيقها بالكامل، التي لم تلتزم بها إسرائيل منذ أكثر من سبعة عقود على احتلال فلسطين، وثلاثة عقود على أوسلو الذي قتلته إسرائيل، والشرط الآخر الذي يطلبه عباس وهو بتبني "المقاومة الشعبية السلمية"، وهذا الشرط يجرد الشعب الفلسطيني من عناصر قوته ولا يمكن لحركة تحرر تحت الاحتلال أن تقبل به، فحق مقاومة الاحتلال مشروع دوليًا بكل الوسائل بما فيها الكفاح المسلح، غير ذلك يزيد من قوة وغطرسة الاحتلال الذي ضم الضفة من خلال الاستيطان، فالاحتلال لم ولن يلتزم بأي اتفاق أو قانون دولي لماذا نحن نقيد أنفسنا بشروط واتفاقيات مجربة لأكثر من ثلاثة عقود من الفشل. لذلك يجب تشكيل الإطار القيادي لإدارة الشأن الفلسطيني لحين إجراء الانتخابات العامة خلال عام واحد من تشكيل هذا الإطار، فالشعب الفلسطيني وبناء على تجربته السياسية والوطنية الطويلة والشاقة والفريدة لا يمكن له أن يقبل بمن يحكمه من خارج صناديق الاقتراع وسيلفظ أي قائد يأتي على ظهر دبابة أمريكية أو إسرائيلية وحتى لو كانت عربية، فالشعب الفلسطيني رفض ذلك في السابق، فكيف له أن يقبل بذلك بعد السابع من أكتوبر الذي شكل نصرًا، وما رافقه من حرب إبادة مستمرة على القطاع.