أمد/
فيما يلملم الفلسطينيون جراحهم بألم واحتساب.. يدفنون أعز الناس عليهم أو بعض أشلائهم بدون بيوت عزاء يبحثون عن قوت مستحيل لأطفالهم بعد حصار استمر 3 أشهر فيما انتقلوا الى الخيام في رحلة موت لم تسبق.. يتحدّون قرارات العدو فيصمدون قرب أنقاض بيوتهم يواجهون بقليل إمكانياتهم أخطر هجمة يتعرض لها بشر عبر التاريخ البشري.. ويقدم الفلسطينيون معدل تضحيات يوميا بالقياس لعدد سكان قطاع غزة هو الأكبر في كل ثورات العالم وانتفاضاته وذلك في حصار إقليمي خانق فيما تتدفق على العدو كل الدعم السياسي والأمني الدولي وشتى سائل البطش والذخائر ويسيّر بعض العرب له شاحنات الخضار والفواكه في اتجاه تل ابيب.. رغم هذا كله يجب ان لا نسكن لحلقات الألم اليأس التي يعلمون على فرضها على أرواحنا بل علينا ان نرى آلامهم المتجددة والتي لا رجاء لهم معها من الله.
رؤية كلية:
لقد كانت عاصفة طوفان الأقصى كافية تماما لبعثرتهم ومن ثم انكفائهم على أنفسهم بما فيها من أنانيات وشرور وأسئلة وجودية وطبيعة عدوانية وحرصا على حياة.. ينكفئون اتهاما ولوما ونقدا لا يبقي حجرا على حجر ولا فكرة مع فكرة.. فالهزيمة يتيمة -هكذا يقولون- ولذلك فلا أحد ولا شيء ولا فكرة في الكيان الصهيوني في منأى عن التجاذب والتنافر مذهولين أمام ما حصل في 7 أكتوبر الذي كشف حقيقة قوتهم واستعدادهم لمواجهة فعلية مع أصحاب الأرض وحقيقة شرعية وجودهم من عدمها في المنطقة ..يتم هذا في حمى تحميل المسؤولية لكل المسئولين لاسيما الأجهزة الأمنية والعسكرية التي ينفق عليها مليارات الدولارات..
المساءلة والتلاوم القاسي الانشطاري في الكيان الصهيوني هي موجة أخرى من تداعيات الطوفان التي تخرجهم من دائرة اليقين الى بدايات المغادرة ولقد انطلقوا بالفعل لتشكيل لجان للبحث عن أسباب ما حصل وكأنهم بأثر رجعي يقولون لأصدقائهم في المنطقة: لقد كنتم مخطئين عندما عولتم على تحالفكم معنا لحماية أنظمتكم وبقاء أسركم في الحكم، ويقولون لأصدقائهم الممولين الكبار لم نكن في مستوى الحفاظ على وجودنا ووظيفتنا في المنطقة.. ولن تفعل هذه الدراسات والاستقصاءات والتحقيقات أكثر من تعميق الأزمة لديهم وتكريس الهزيمة في أرواحهم لتكون كارثة مستمرة في مخيالهم تدفعهم بقوة في اتجاه المغادرة.
ولا يبدو هروب بعض قادتهم المجانين المتطرفين بغلو الى الحديث عن تهجير الفلسطينيين وتخفيف كثافة سكان غزة الا رد فعل نفسي عميق خطير يلح عليهم بان المغادرة هي الحل لهم فيسبقون الأفكار بعكسها متلبسين بمخاوف عميقة تصدر بعكسها بصيغة ان على الفلسطينيين الرحيل وهم يتفاجأون من صمود الفلسطينيين تحت القصف والموت يهتفون لفلسطين وإنهم لن يرحلوا.. فيما يفرّ مليون صهيوني من أرض فلسطين ويخلي أكثر من نصف مليون مساكنهم القريبة من غزة وشمال فلسطين و يضطر اكثر من 3 ملايين الى اللجوء للملاجئ كلما دوت صفارات الإنذار.. في هذا المشهد يدرك قادة العصابات الصهيونية ان المغادرة والرحيل هي الباب الممكن و المشرع الوحيد أمام ملايين الغزاة المستعمرين في فلسطين.. هذا ليس كلاما تحليليا تفيض به قناعاتنا انما هو تصريحات مدوية لكبار الساسة والمفكرين اليهود وبعضهم صهاينة وكذلك هو رأي عام بدأ يتبلور لدى الكثيرين في أماكن حليفة وصديقة للمشروع الصهيوني.. بل انه تصريحات معلنة لقادة الحملة العسكرية الصهيونية حيث أعلن بعضها صراحة " اذا لم ننتصر على غزة فان وجودنا في المنطقة سيصبح مستحيلا"
لن تنفعهم مئات الطائرات المحملة بالذخائر ولا عشرات السفن التي شحنت لهم المعدات ولا أسراب الطائرات من شتى الدول الغربية ولا الجنود مزدوجي الجنسية.. كل ذلك لم يقلل من حجم اثار العاصفة التي هزت اركان الكيان الصهيوني النفسية والوجودية..
انقلابات عالمية:
سنبدأ نعد لهم عدا.. كل يوم انشقاقات وتمزقات في الروح الصهيونية والكيان الصهيوني وتراجع كبير في المشروع الصهيوني .. هنا تكون لعبة الدومينو التي تصيب الصهيونية العالمية في مقتل بعد ان استطاع دم اطفال فلسطين اختراق الاعلام الغربي المسيس والمشغل من قبل رؤوس المال العالمية التي ترعى الكيان الصهيوني.. اخترق الدم الفلسطيني الحصار الاعلامي واصبحت فلسطين راية كل الاحرار في العالم وبالذات في الولايات المتحدة الامريكية..
ان الانقلابات لن تقف في داخل الكيان الصهيوني الذي سيلفظ الى الابد اليمين المغالي تطرفا انما أيضا سيتمدد في عواصم العالم لاسيما امريكا واوربا وهنا لابد من التأكيد أن تأثير الشارع الامريكي له الاثر الاكثر فاعلية من اي شارع عربي اسلامي.. فهناك في امريكا يكتشف الناس السر العميق في العملية كلها .. حيث يتم الزج بالدولة الامريكية لولوج معارك لاناقة لها فيها ولاجمل انما فقط لحماية العنصريين قتلة الاطفال ولتنفيذ مخططات قوة راس المال الممثلة للحكومة السرية.. فيما يكتشف المواطن الامريكي المكبل بالضرائب المتعددة والمتجددة انه يدفع هذه الاموال محروما من مجانية التطبيب والضمان فيما يتلقاها عناصر الكيان المنعمين بالتامين الصخي والضمان الاجتماعي فادرك المواطن العادي في امريكا انه يتم استعباده لمشاريع تستنزف حياته من اجل عصابة تتحكم بالقرارات في العالم تدفع بالدول الى الاستدانة المرهقة للدول لتكبيلها واجبارها على تنفيذ رغبات الكبار العالميين حربا او استنزافا المهم توفير اجواء لتحريك منتجاتهم الحربية وجلب الاموال من وراء ذلك..
هناك في امريكا التجاوب الوحيد الاستراتيجي الذي يرتقي الى مستوى صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته ولقد كانت الاستجابة في الصميم لانها وقفت على اسباب الحرب والخراب انها المعادلة الشيطانية التي يرسمها كبار اصحاب المال من هنا ياتي ضغط الشارع الامريكي بتوجيه ضربات وتحذيرات عميقة للحكومة السرية.
من الانهيارات في داخل الكيان الصهيوني على كل المستويات الى الانهيار في علاقة المواطنين الامريكان بمؤسساتهم مرورا بشوارع بريطانيا وفرنسا واسبانيا تبدو عاصفة طوفان الاقصى انها تضرب بجناحها المياه الراكدة فيتحرك كل شيء في عملية اعادة تموضع لن تكون كما كانت من قبل..
لقد تشقق الكيان وتشققت هيمنة الكبار المسيطرين على القرار الدولي وانهارت صورة الكيان "الضحية" فلقد عاد متوحشا وصورة الكيان "المقتدرة" فلقد عاد هشا ضعيفا مكسر القوائم يزحف في عاره وانكساراته ولعنات الملايين.. يلاحقها السؤال الوجودي الى اين الرحيل.
روافد المقاومة الفلسطينية:
مما لاشك فيه اننا نطالب بوقوف عربي فاعل في المواجهة ضد الكيان الصهيوني وذلك من ادراكنا ان هذا العدو ليس منعزلا عن قضايا كل قطر من اقطارنا العربية مشرقا ومغربا وليست شروره فقط في ارض فلسطين والشام، انما تمدد الى محاصرة مصر وتفجير محيطها الجيوسياسي وعمقها المائي وخلق انفصال في شمال العراق وجنوب السودان و تحريك المجموعات الانفصالية في المغرب العربي وتضرب في ايران وماليزيا وتترصد للقنبلة النووية الباكستانية..
ويقوم الكيان الصهيوني بهذه المهمات ليس من زيادة العنترة والعلو بل من صميم الوظيفة التي أوكلت للحركة الصهيونية في اطار النظام العالمي الجديد منذ أكثر من قرن وأربعين سنة.. هذا النظام الجديد الذي دمر الانظمة التقليدية القديمة والامبراطوريات التي شغلت حيزا كبيرا من الزمن وكانت ضربته العنيفة والمركزة ضد السلطنة العثمانية حيث اصبح ارثها نهبا للقوى الاستعمارية تتقاسمه حسب احجام قوتها وخبث سياساتها فكانت الحركة الصهيونية تقوم بمهمة تركيز قاعدة استراتيجية في قلب العرب تفصل غربهم عن شرقهم وتراقب كل تطوراتهم وتتدخل بعنف سري وعلني لمنعهم من الوحدة والنهضة..
من هنا تكون مطالبتنا للعرب من باب الحرص على مستقبلهم وثرواتهم ووحدة شعوبهم ومجتمعاتهم فضلا عن الابعاد الروحية المتعلقة بمكانة فلسطين ومقدساتها.. وماتمثله في الحس الشعبي من قداسة ومكانة..
ويجب أن نسجل هنا أنه رغم خنوع الدولة العربية وصمتها وشللها عن القيام بواجب انهاء الشر الصهيوني وقلعه من قلب المنطقة العربية وذلك وفق حسابات الربح والخسارة الانية الا ان العرب كشعوب من المشرق الى المغرب تميزت باحتقان كبير وارتفاع وتيرة النصرة الى الدرجة التي يمكن ان تحدث في بعض البلدان تغييرات وانقلابات كما يلاحظ البعض..
وفي هذا السياق تحركت قوى عربية غير محكومة للدولة الوطنية فكان انصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان طليعة الاسناد العربي للصمود الفلسطيني ولقد كان لانصار الله اليمنيين دور بالغ الاهمية كشف عن ان هناك وسائل عديدة بيد العرب يمكن تفعيلها لتحفيف الضغط عن الفلسطينيين.. وهنا يطرح السؤال الخطير عن دور الدولة العربية في تكبيل طاقة الشعب العربي.. اذ ان الشعوب متحررة من الدولة يمكن ان تكون في صلب المعركة .. وعلى الاقل يظل هذا التفكير محل انتباه ووجاهة سيشغل عقول المفكرين والساسة والمناضلين العرب..
ولكن رغم الاسف الذي يجتاح نفوسنا حول التخلي الرسمي العربي عن الشعب الفلسطيني او عن حصار البعض العربي لفلسطين او عن مؤامرات البعض مع الصهاينة على مسح قطاع غزة وتدميره.. رغم كل ذلك الا ان التماسك الشعبي العربي مشرقا ومغربا كان عظيما وهو سد طبيعي لايمكن اختراقه امام أي محاولة تطبيع مع العدو الصهيوني.
طوفان الاقصى اعلن بوضوح ان لامكان للكيان الصهيوني في المنطقة ولقد تمكن طوفان الاقصى من تعرية الكيان وكشفه على حقيقته ليصبح الطريق الوحيد المعبد أمامه المغادرة اختيارا أو اجبارا.. والله غالب على أمره.