أمد/
قبل السابع من أكتوبر والحرب على قطاع غزة، كنت في الإمارات وقبلها في جولة لجنوب افريقيا، للاطلاع على تجربة البلاد في مناهضة نظام الحكم العنصري (الأبارتايد)، بهدف التعَّرف على نضالات السود ونيلسون مانديلا في مواجهة ذلك النظام، وكيف نجحوا من خلال أسلوب و"نهج اللاعنف" والضغط الدولي في القضاء عليه.. في الحقيقة، كانت تلك التجربة النضالية جديرة بالدراسة والمحاكاة؛ لأن معاناة شعبنا مع الاحتلال لا تبتعد كثيراً عما كان عليه الحال قبل الغاء النظام العنصري (الأبارتايد) هناك.
وعندما غادرت جوهانسبرج إلى الامارات، في سياق اللقاء بالنائب محمد دحلان، لاستكمال وضع اللمسات الأخيرة على كتابي "رغم الخصومة: دحلان كما عرفته"، والذي كان من المفترض صدوره هذا الشهر، إلا أنَّ الحرب على قطاع غزة والتي شارفت على شهرها الثالث قد حالت -للأسف- دون ذلك.
كانت تلك الزيارة للإمارات مهمة، إذ تداولنا فيها أفكاراً بخصوص مستقبل قطاع غزة، وإمكانيات جمع الصف وتحشيد المواقف من أجل النهوض بالقطاع وتطويره، خاصةً وأنَّ الإمارات ممثلة بأميرها سمو الشيخ محمد بن زايد، كانت قد تعهدت ببناء ألف وحدة سكنية بالقطاع، إضافةً إلى مشاريع تنموية أخرى تتعلق بالتعليم والصحة ومرافق حيوية أخرى.
لا شك بأنَّ المنزلة التي يتمتع بها النائب محمد دحلان لدى شيوخ الخليج تجعل الكثير من المشاريع الإنسانية تأخذ طريقها للقبول والتنفيذ.
بعد عملية "طوفان الأقصى"، وقعت الحرب العدوانية الواسعة على قطاع غزة، وكانت ردة الفعل الإسرائيلية باستخدام القوة الغاشمة في تدمير مدن وبلدات القطاع مروعة وهمجية. ولذا، قطعت جولتي بسرعة، وقرَّرت العودة إلى الوطن، لتدارك ما يمكن تداركه في السياقين الوطني والإنساني.
لقد نجحت إسرائيل – للأسف – في استدراجنا إلى الحلبة الذي تجيد اللعب والمناورة فيها، وهي "المواجهة المسلحة"، حيث تملك قدرات تدميرية وعسكرية هائلة، قادرة على إحالة قطاع غزة إلى كومة من الأنقاض، والضغط باتجاه تهجير ساكنيه إلى سيناء، وذلك تحت تأثير حالة الهلع والفزع جراء المجازر وهدم البيوت على رؤوس قاطنيها من النساء والأطفال والشيوخ، والعمل بسياسة "الأرض المحروقة"، والجنوح إلى ممارسة عمليات الإبادة الجماعية.
كانت أخر الكلمات بيننا في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى": إنَّ غزة تنتظر منَّا الكثير مما يتوجب علينا فعله من متطلبات العمل الإغاثي والإنساني.. ربنا يحفظ غزة وأهلها".
وفي اليوم الثاني من عودتنا إلى قطاع غزة، بدأنا نشهد ما تخوفنا منه، والذي شكَّل مشاهد إنسانية مفزعة، حيث كانت صور الاستهداف العشوائي والممنهج للأحياء السكنية لا تُبقي ولا تذر من إهلاكٍ للحرث والنسل، والتسبب في إخراج عائلات بأكملها من السجِّل المدني!! ومع تعاظم أعداد القتلى والجرحى فوق الأنقاض أو تحت الركام، هدأت الأصوات، فلا تسمع إلا همس الأنين وانفجارات القذائف وأزيز الطائرات الحربية تُلقي بحممها على السكان الآمنين.
كان دحلان؛ النائب في المجلس التشريعي وقائد التيار الإصلاحي الديمقراطي في حركة فتح، ربما من أوائل الذين أدركوا حجم الكارثة إنسانياً، وكانت توقعاته في مكانها. لذلك، كانت دولة الامارات أول من بادر بإرسال الكثير من قوافل الدعم الاغاثي بالطائرات، وبشراء الآلاف من الطرود الغذائية والمواد التموينية والطبية من مصر وإرسالها إلى قطاع غزة، مع إقامة مستشفى ميداني بمدينة رفح لمعالجة جرحى العدوان الإسرائيلي الغاشم على القطاع، إضافة لإقامة العديد من مراكز ومخيمات الايواء في المناطق الجنوبية كخانيونس ورفح، مع إنشاء محطات لتحلية المياه، وهو جهد متميز لدولة الإمارات التي كان لمشاريعها السابقة منذ عهد الشيخ زايد (رحمه الله) أكثر من بصمة وأثر. ويمكننا هنا الإشارة لتحركات الأخوين محمد دحلان ونائبه في قيادة التيار الإصلاحي سمير المشهراوي الفضل في سرعة جلب هذه المساعدات الإغاثية من دولة الإمارات، التي عودتنا خلال ما حلَّ بشعبنا من نكبات أن تكون دائماً السبَّاقة في مدِّ يد العون وفعل الخيرات.
لم تقتصر مساعي النائب محمد دحلان على جلب الدعم الإغاثي من دولة الإمارات وسمو الشيخ محمد بن زايد؛ رئيس الدولة، بل تعدى ذلك الى مساعدة العالقين في الجانب الفلسطيني من الطلاب المبتعثين والعاملين المقيمين في الخارج، بغرض تسهيل مهمة خروجهم، وعودتهم إلى أماكن دراساتهم أو محلات إقاماتهم.
ورغم أن السياسة هي -عادة- الشغل الشاغل للسياسيين وهمَّهم الأول، إلا أن دحلان -الذي عرفته- قد تعاظمت اهتماماته في مجال الدعم الإنساني تجاه أبناء شعبه، وهي حالة شاهدتها منذ قيامنا بزيارة للإمارات مع وفد من جمعية التكافل الاجتماعي عام 2012، والتي نجحنا فيها بجهوده وعلاقاته ومكانته بين ذوي الشأن من شيوخ الإمارات، وخاصة (أبناء زايد)، في جلب الكثير من الدعم والمساعدة للقطاع، والتي استفاد منها المئات من الطلاب الفلسطينيين لتغطية مصاريفهم الجامعية، وكذلك زواج أكثر من مائتي عريس وعروس، ومنح دراسية للتعليم بالخارج، ومساعدات مالية للمعوزين من طلبة القطاع.. إضافةً لكلِّ ما سبق، فإنَّ هناك مشاريع أخرى ما كان لها أن تتحقق الا بجهوده وعلاقاته الخاصة، مثل مشروع تزويد مدارس الوكالة بالمياه الصالحة للشرب، وكذلك الدعم المالي للمشاريع التي ترعاها اللجنة الوطنية للشراكة والتنمية، والتي يأتي معظمه من دولة الامارات.
حتى موضوع المصالحة المجتمعية ما كان له أن يتحرك أو يُنجز جزءاً كبيراً منه، لولا الدعم الذي توفر له عن طريق النائب محمد دحلان من دول الخليج، وخاصة دولة الامارات العربية المتحدة.
اليوم، في مشهد الحكم والسياسة المضطرب فلسطينياً، لا يلتفت دحلان كثيراً ولا يكترث لما هو عليه من صراعات وتنافس وتقلبات وخلاف حول الكرسي، إذ كلُّ ما يُلقي له بالاً هو جمع الصف واجتماع الشمل، واللقاء على موقف وطني واحد، في إطار شراكة سياسية وتوافق وطني تسوق إليه عملية ديمقراطية يحترمها الكلّ الفصائلي ويُسلِّم بها الجميع.
لا شكَّ أنَّ دحلان كان في شبابه وبواكير سنوات عمله السياسي قد اختلف مع الإسلاميين حول آليات العمل الوطني، وكان خصماً سياسياً للكثير منهم، إلا أنه -اليوم- رجل دولة وصاحب حكمة، كما أنه مفتح في علاقاته الفلسطينية مع الغالبية من فصائل العمل الوطني والإسلامي، وتتمحور وجهة نظره باتجاه أنَّ المسرح السياسي للوطن يتسع للجميع، وأنَّ الكلَّ لديه الحق في التنافس في إطار القواسم الوطنية والنضالية المشتركة، والتي لا يختلف عليها اثنان، وهذه الرؤية هي-اليوم- صمامُ أمانٍ لمستقبل شعبنا وقضيته.
ففي حرب الإبادة هذه على قطاع غزة، شاهدنا دحلان -ابن شعبه- يوجه الانتقادات لمجرمي الحرب الإسرائيليين من جنرالات وسياسيين متطرفين، وإلى الدول التي دعمت هذه الحرب العدوانية على قطاع غزة كأمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، ويطالب بمواقف عربية وإسلامية لمواجهة العدوان الغاشم، وضرورة التحرك عبر المنصات الدولية والمحافل الأممية لحشد الضغط والمواقف، من أجل وقف العدوان ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين على قطاع غزة.
ستشهد مطويات وصفحات ما بعد حرب الابادة على قطاع غزة الكثير مما يمكن قوله في سياق التقدير والثناء والوطنية للنائب محمد دحلان، لتحركاته السريعة في تقديم الدعم الاغاثي والإنساني والمواقف السياسية والإعلامية لضحايا العدوان، وكذلك ما سيأتي من تحركات وجهود لإعادة إعمار ما دمرته هذه الحرب المجنونة، التي خرجت من عِقالها، هادفةً قتلَ شعبٍ وإبادته.
سيبقى دحلان الإنسان ورجل المواقف، وسيبقى الوطن بوصلتنا أجمعين، وانا على ذلك من الشاهدين.