أمد/
في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بادرت جنوب أفريقيا، بالتشارك مع بنغلادش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي، إلى تقديم دعوى أمام محكمة الجنايات الدولية، تطلب فيها "إجراء تحقيق في الوضع في دولة فلسطين"، كما قال كريم خان مدعي عام هذه المحكمة، الذي أعلن أن "تفويضه ينطبق على الجرائم المزعومة التي ارتكبت خلال الحرب الحالية"، لكن فرق المحكمة لم تتمكن، كما أضاف، من دخول قطاع غزة ولا إسرائيل، ولا سيما أن هذه الأخيرة ليست عضواَ في محكمة الجنايات الدولية، مؤكداً، في بيان، أن مكتبه "تلقى الإحالة، وهو يجري حالياً تحقيقاً في الوضع".
وأوضحت وزارة الخارجية في جنوب أفريقيا أنها قدمت هذه الإحالة، مع "الدول الأخرى التي تشاركها المخاوف نفسها"، كي تولي هذه المحكمة "اهتماماً عاجلاً بالوضع الحالي نظراَ لخطورته"، وأنها "تشجع كذلك الدول الأطراف الأخرى في نظام روما الأساسي على الانضمام إلى الإحالة، أو تقديم إحالات منفصلة بصورة مستقلة"[1].
دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية
في 29 كانون الأول/ديسمبر 2023، قدمت حكومة جنوب أفريقيا دعوى جديدة إلى محكمة أخرى هي محكمة العدل الدولية، تتهم فيها إسرائيل بارتكاب أفعال "إبادة جماعية" في قطاع غزة، وقد رحبت منظمة التعاون الإسلامي، في 30 من الشهر نفسه، بتقديم هذه الدعوى. وتجدر الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية، التي تأسست في حزيران/يونيو 1945، هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، الذي يتولى "الفصل طبقاً لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية" بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها الدول أو أجهزة الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة.
وتضم هذه المحكمة 15 قاضياً، من دول مختلفة، تترأسهم القاضية جوان دونهيو من الولايات المتحدة، وإلى جانبها ثلاثة من الرؤساء السابقين للمحكمة، بينهم مندوبو سلوفاكيا وفرنسا والصومال، ونائبها هو قاضٍ من روسيا. أما اتفاقية منع "الإبادة الجماعية"، فقد أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1948، وهي تضم 153 دولة طرفاً، وتعرّف "الإبادة الجماعية" بأنها تشمل الأفعال التالية، المرتكبة بقصد "التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية"، بما في ذلك: "قتل أعضاء من الجماعة؛ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛ إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة ونقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى".
ويتم الاستماع إلى الدعاوى المرفوعة إلى محكمة العدل الدولية من جميع قضاتها الـخمسة عشر، لكن يجوز لكلا طرفَي القضية ترشيح قاض واحد لعضوية اللجنة، ويتم اتخاذ القرارات بالأغلبية العادية للقضاة الذين يديرون الجلسة[2]. ومن المعروف أن إسرائيل هي إحدى الدول الموقّعة على اتفاقية منع جريمة "الإبادة الجماعية"، وبالتالي فهي تخضع لولاية محكمة العدل الدولية وملزمة بإرسال ممثلين عنها إلى المحكمة في أعقاب تقديم الدعوى ضدها.
أكدت جنوب أفريقيا، في دعواها المؤلفة من 84 صفحة، أن إسرائيل "منذ إطلاق هجومها ضد حماس في غزة في تشرين الأول/أكتوبر، مارست، وتمارس، وتخاطر بالاستمرار في ممارسة أفعال إبادة جماعية"، وذلك بغية "تدمير فلسطينيي غزة الذين يشكّلون جزءاً من الجماعة القومية والعنصرية والإثنية الأكبر للشعب الفلسطيني".
ونظراً إلى أن إثبات جريمة "الإبادة الجماعية" يشترط توفر النية الواضحة لارتكابها، فقد أكدت جنوب أفريقيا، أن اتهام إسرائيل له ما يبرره لأن هذه "النية الواضحة" جرى التعبير عنها "على أعلى المستويات" في الدولة، من "الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع". وتشمل هذه الأفعال "قتل الفلسطينيين في غزة، والتسبب لهم بأذى جسدي ونفسي خطير، وفرض ظروف معيشية عليهم من المحتمل أن تؤدي إلى تدميرهم الجسدي"، و"الاستخدام العشوائي للقوة وترحيل السكان بالقوة"، و"عدم توفير الغذاء والماء والدواء والوقود والمأوى وغيرها من المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر، مما يدفعه إلى حافة الانهيار جوعاً". وشددت جنوب أفريقيا على أنها لجأت إلى المحكمة "لتحديد مسؤولية إسرائيل عن انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية"، ولكن أيضاً "لضمان الحماية الممكنة والعاجلة والأكثر اكتمالاً للفلسطينيين"، وطلبت من المحكمة "إجبار إسرائيل على السماح للفلسطينيين، الذين اقتُلعوا من منازلهم في القطاع، بالعودة إليها؛ ووقف حرمانهم من الغذاء والمياه، ومن المساعدة الإنسانية؛ والتأكد من أن الإسرائيليين لا يحرّضون على الإبادة الجماعية، ومعاقبة كلّ مَن يفعل ذلك؛ والسماح بإجراء تحقيق مستقل في كل ما فعلته إسرائيل".
ونظراً إلى أن هذه الدعوى قد لا يبت بها قبل سنوات عديدة، فقد طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة أن تجتمع في الأيام المقبلة كي تتخذ "إجراءات مؤقتة تدعو إلى وقف إطلاق النار"، وخصوصاً أن المحكمة مؤهلة كي تدعو إلى اتخاذ إجراءات سريعة، تشمل إصدار أمر لإسرائيل بوقف عملياتها الحربية في قطاع غزة، والتخلي عن التهجير القسري للفلسطينيين في القطاع، والسماح لسكان غزة بالحصول على المساعدات الإنسانية[3].
دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل تتمتع بالمصداقية
يؤكد الخبراء أن دعوى جنوب أفريقيا تتمتع بالمصداقية، لأن إسرائيل ارتكبت، وترتكب، بالفعل أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة. فالقصف المكثف وغير المسبوق على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، الذي تقوم به الطائرات الإسرائيلية بدعم من المدفعية، يهدف إلى "قتل أعضاء الجماعة"، كما أن استهداف المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، تسبب في "إلحاق ضرر جسيم بالسلامة الجسدية أو العقلية لأفراد الجماعة"، فضلاً عن أن الحصار الشامل المفروض على قطاع غزة، والذي ترك السكان بلا ماء ولا كهرباء ولا وقود، وحظر تقديم الرعاية للمرضى والجرحى، يرمي إلى "إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية بقصد تدميرها كلياً أو جزئياً". أما الجماعة المستهدفة، فهي الشعب الفلسطيني، الذي يعرّفه القانون الدولي بأنه "شعب يتمتع بالحق في تقرير المصير"، كما أشارت إلى ذلك محكمة العدل الدولية في فتواها الصادرة في سنة 2004 بشأن بناء جدار الفصل في الأراضي الفلسطينية.
وأخيراً، فإن نية "تدمير الجماعة كلياً أو جزئياً"، تثبتها مجموعة غير مسبوقة من إعلانات الإبادة الجماعية الصادرة عن السلطة التنفيذية والعسكرية الإسرائيلية، والتي "تتراوح بين الهجوم المبرر على الحيوانات البشرية"(وزير الحرب يوآف غالانت)، إلى ذكر استخدام الأسلحة النووية (وزير التراث عميحاي إلياهو)، مروراً بالإشارة التوراتية إلى تدمير عماليق (بنيامين نتنياهو)، وهي إعلانات لا تنطوي على تحريض على تدمير الجماعة فحسب، بل تعبّر عن سياسة تتبعها أوامر تصدر لمنفذيها[4].
رد الفعل الإسرائيلي على دعوى جنوب أفريقيا
من المتوقع أن تنعقد محكمة العدل الدولية لعرض دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 11 أو 12 كانون الثاني/يناير الجاري. وكانت وزارة الخارجية الإسرائيلية قد انتقدت جنوب أفريقيا، منذ لحظة تقديم هذه الدعوى، واتهمتها بأنها تدعم حركة "حماس"، ورفضت "باشمئزاز التشهير الذي تروّج له جنوب أفريقيا ولجوئها إلى محكمة العدل الدولية"، علماً بأن جنوب أفريقيا كانت قد "نددت بهجوم 7 أكتوبر الذي ارتكبته حماس"، لكنها أضافت "أنه لا يوجد شيء يمكن أن يبرر أعمال الإبادة الجماعية" التي ترتكبها إسرائيل.
ولكن، بغض النظر عن هذا الموقف، تشير الصحافة الإسرائيلية إلى أن مسؤولين "من ديوان رئاسة الحكومة ومن عدة وزارات وهيئات حكومية يشاركون في التعامل مع دعوى اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية"، وأوضح أحد هؤلاء المسؤولين "أن الإجراءات المتخذة في محكمة العدل الدولية ليست ذات طبيعة جنائية، والمدعى عليه هو دولة إسرائيل، وبناءً على ذلك، لن تترتب أي آثار جنائية على المسؤولين الإسرائيليين، إذا حكمت محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، على الرغم من أن ذلك قد يؤدي إلى بعض التداعيات الدبلوماسية". كما أوضح "أن هناك مخاوف في إسرائيل من أن تطلب جنوب أفريقيا من المحكمة تطبيق إجراءات موقتة ضد إسرائيل، قد تشمل إصدار أمر بوقف العمليات القتالية، ولا سيما أن دولة جنوب أفريقيا أكدت أنها تطالب بمثل هذه الإجراءات لضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية"[5].
وبحسب صحيفة "هآرتس"، حذّر كبار المسؤولين في الجيش الإسرائيلي، مؤخراً، وبينهم رئيس الأركان هرتسي هليفي، "من خطر حقيقي من إصدار المحكمة أمراً يأمر إسرائيل بوقف فوري للنار في القطاع"، وتكون إسرائيل "مضطرة إلى الانصياع لقرارات المحكمة"[6].
تضامن جنوب أفريقيا الثابت مع الشعب الفلسطيني
تندرج الدعوى التي قدمتها جنب أفريقيا ضد إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية في إطار تضامنها الثابت مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ومن المعروف القول المأثور للزعيم الجنوب أفريقي والعالمي الراحل نيلسون مانديلا هو: "طالما أن فلسطين ليست حرة، فإن جنوب أفريقيا لن تكون حرة حقاً".
وكانت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور قد أصدرت بياناً في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد تلقيها اتصالاً هاتفياً من رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، جدّدت فيه "تضامن جنوب أفريقيا ودعمها للشعب الفلسطيني"، لكنها "أعربت عن حزنها وأسفها لفقدان أرواح بريئة، فلسطينية وإسرائيلية"، وأشارت إلى أن ذلك الاتصال الهاتفي "تركّز على احتمالات التوصل إلى اتفاق لضمان وصول مساعدات عاجلة لقطاع غزة". بينما شبّه رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوسا معاملة إسرائيل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة بنظام الفصل العنصري في بلاده، الذي انتهى سنة 1994 بعد ما يقرب من نصف قرن من النضال، وأكد أن "العقاب الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، من خلال استخدام إسرائيل غير القانوني للقوة يشكل جريمة حرب، وأن الحرمان المتعمد من الدواء والوقود والغذاء والمياه لشعب غزة يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية". وصوّت أعضاء البرلمان، في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، لصالح تعليق العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، واستدعاء جميع دبلوماسيي جنوب أفريقيا من تل أبيب، حتى يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة. والواقع أن دعم جنوب أفريقيا للقضية الفلسطينية لا يعود تاريخه إلى هذه الحرب التدميرية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ نحو ثلاثة أشهر، بل هو يعود للسياسة الدولية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، حزب التحرير الذي يتولى السلطة منذ 30 عاماً، والذي غالباً ما يقارن معركته الخاصة ضد الفصل العنصري بنضال الشعب الفلسطيني[7].
خاتمة:
يعتقد فرانسيس بويل، أستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق بجامعة إلينوي، والذي تابع في الماضي تطبيق اتفاقية "الإبادة الجماعية" في البوسنة والهرسك، أن جميع الوثائق التي قدمتها جمهورية جنوب أفريقيا تقوم على أسس متينة، وأنها "قد تحصل على أمر ضد إسرائيل لوقف ارتكاب جميع أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين"، وستكون جميع الأطراف المتعاقدة، أي 153 دولة، ملزمة، بموجب المادة الأولى من الاتفاقية، بالعمل على منع الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وهو يتوقع أنه عندما تصدر المحكمة الدولية أمر الكف هذا ضد إسرائيل، قد تتم "إدانة إدارة جو بايدن بموجب الفقرة (هـ) من المادة الثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تجرّم التواطؤ في الإبادة الجماعية".
لكنه عبّر عن تخوفه من الموقف الذي يمكن أن تتخذه رئيسة قضاة المحكمة، التي "عملت سابقاً في وزارة الخارجية الأميركية"، والتي هي، بحسب تقديره، لا تزال على اتصال بهذه الوزارة، "لتزويدهم بمعلومات حول كل ما يجري هناك، خلف الكواليس في لاهاي، وسوف تلتزم بخط وزارة الخارجية في هذه الدعوى"؛ وبعد أن نبّه إلى أن رئيس محكمة العدل الدولية "لديه الكثير من السلطات"، وأن رئيسة المحكمة الحالية قد "تستخدم هذه السلطات لتوجيه الإجراءات لصالح إسرائيل"، أوضح أن جمهورية جنوب أفريقيا ستقوم الآن "بتعيين قاضٍ خاص، وهذا حقها بموجب النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية"، آملاً بأن "يبذل القاضي الجنوب أفريقي الخاص قصارى جهده لمحاولة إبقاء جوان دونهيو مستقيمة"[8].