أمد/
عندما دخلتُ أرضَ دولة جنوب إفريقيا مع الاخ جمال الديك ود.نبيل سعادة كان الهمّ الأساسي لنا –وكان هذا من عدة سنوات -هو محاولة تفهّم التجربة التي خاضها "المؤتمر الوطني الإفريقي" ضد النظام العنصري "الأبيض"، وامكانية انعكاساتها على طريقة فهم القضية الفلسطينية من حيث الفصل العنصري أوالأبارتهايد، في حين أن صوت الكفاح ضد الاحتلال لأرض فلسطين مقرونًا بالطرد والاحتلال والقتل والتدمير هو الصوت العالي في الثورة والمقاومة الفلسطينية.
كان اللقاء في مدينة جوهانسبرغ أكبر مدن البلاد ومن أجملها، وتحاورنا ضمن المؤتمر الذي شاركنا به بدعم الحزب الاشتراكي السويدي هناك ضمن عرض تجارب وفي سياقات أضافت الكثير لقناعتنا بعمق التجربة لدى مواطني البلاد الأحرار الذين استطاعوا التحرر من النظام العنصري البائد، والمدعوم من بريطانيا آنذاك والغرب.
ياسر عرفات ومانديلا
كانت المفارقة صارخة بين بدايات ومآلات التجربتين من حيث الفكرالاستعماري العنصري (ضد البرابرة حسب هرتسل نصًا في كتابه دولة اليهود) بسلب واستيطان أرض شعب آخر يتم إنكاره أصلًا!؟ ومع ما يصاحب ذلك من أعطاء الشرعية لهذا السلب ونزع ملكية السكان الأصليين (الأصلانيين)، إضافة لطردهم أو نقلهم والتمييز بينهم بالتشريعات والقوانين، وما الى ذلك مما كان في جنوب إفريقيا بعهد العنصرية البيضاء خاصة منذ العام 1948م فصاعدًا، ومما تجد مثيله بتطوير استعماري عنصري وديني "تناخي" اليوم ما بين شقيّ المتاح من أرض فلسطين للدولة الفلسطينية أي الضفة وغزة، بل وفي الداخل.
كل فلسطين اليوم تقع تحت مظلة الفصل العنصري، أو"الأبارتهايد" كما يصرّ على تسميته حصريًا باعتبارها التعبير الأصوب المناضل اليهودي عضو المجلس الثوري في حركة فتح "اوري ديفس"، وما تقارير المنظمات الحقوقية والانسانية مثل منظمات الأمم المتحدة المعنية، ومنظمة العفو الدولية "أمنستي"، ومنظمة"ميديل إيست واتش" الامريكية، وكذلك المنظمات الإسرائيلية كنموذج "بتسيلم" في هذا الاتجاه الا دلالة على عميق التشابه في عديد المسائل، ومع ذلك يظل الاحتلال الإسرائيلي يتميز ويتفوق بفاشيته الإجرامية التي لم يكن لها مثيل فيما نراه اليوم من عدوان بربري فاشي على قطاع غزة أساسًا وبشكل إبادة جماعية، وفي الضفة الغربية.
استفدنا من تجربة جنوب إفريقيا النضالية الكثير(وصل الاستعمار الأوروبي العنصري إلى السواحل الجنوبية للقارة الإفريقية في العام 1652م) وهالتنا تلك العلاقة العظيمة بين مناضلين كبيرين هما الخالد ياسرعرفات الذي كان ذكره على كل لسان، ونلسون مانديلا المناضل الكبير الذي يقبع تمثاله الآن في حي الطيرة من مدينة رام الله شامخًا ورافعًا يده اليمنى محييًا، وحيث لا يوجد بالبلاد أي تمثال بتاتًا سوى مانديلا، لما للعلاقة النضالية الوطيدة بين الشعبين الأصلانيين وبين المناضلين الخالدين ياسر عرفات ومانديلا.
كل هذه المقدمة لإظهار مدى حجم الدلالات والتشابهات والعمق النضالي بين فلسطين وجنوب إفريقيا وهو الذي أدى لأن تقوم دولة جنوب إفريقيا التي يتعايش فيها السكان الأصليون (السود) مع المستوطنين البيض (الذين استعمروا البلد ل300 عام من الاحتلال الهولندي ثم الانجليزي، وجنسيات أوربية أخرى بنسب أقل) برفع قضية ضد الاحتلال الصهيوني في محكمة العدل الدولية لما يحصل من إبادة جماعية في قطاع غزة، دونًا عن أمة المسلمين والعرب أجمعين!
العلاقات النضالية غالبًا ما تكون حميمية وثابتة، ولك النظر لعلاقات الميدان النضالي أي كان، وعلاقات الفدائيين والجيوش وفي الثورات، وعلاقات المعتقل ومدى ثباتها وديمومتها وقوتها وفي ذلك كان مانديلا عام 1990 قد قال بكل ثقة ووضوح: "نتعاطف مع منظمة التحرير الفلسطينية لأنها، مثلنا تمامًا، تناضل من أجل حق تقرير المصير".
كان المناضل والقائد نلسون مانديلا قد كتب عن الخالد ياسر عرفات راثيًا إثر استشهاده قائلًا: "كنت أتابع نشاطات الرئيس ياسر عرفات من غياهب سجني، وكم أثار اهتمامي بثباته ومثابرته. لقد آمن به شعبه وسار معه خطوة بخطوة، في السراء كما في الضراء. فهو الذي وضع المسألة الفلسطينية على جدول أعمال المجتمع الدولي، ونقل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة بكامل المعنى. لقد كانت حماسته وثقته لا تتزعزع، والتزامه بالكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية تشكل قيمًا رمزية في نظر الكثيرين في العالم.سوف يبقى الرئيس عرفات إلى الأبد رمزا للبطولة بالنسبة لكل شعوب العالم التي تكافح من أجل العدالة والحرية".
والى ذلك فلقد كانت الثورة الفلسطينية، و ياسرعرفات يقدر نضالات مانديلا كثيرًا، فكان أول من اتصل بالرئيس (لاحقًا) مانديلا بعد خروجه من المعتقل بلحظات، ثم كان أيضًا أول من عانق الأسير البطل القائد مانديلا عام 1990م بعد أيام من خروجه من سجنه واستقبال الرؤساء الأفارقة له في زامبيا، والحديث بهذا المجال وهذه العلاقة النضالية العظيمة يطول.
جنوب إفريقيا ترفع قضية دون الأمة
اليوم لم تكتفِ جمهورية جنوب إفريقيا الديمقراطية الحرّة بتعليق علاقاتها مع "إسرائيل" في 21/11/2023م، إضافة لما كانت قد عملته سابقًا من إعادة سفيرها من "إسرائيل" من العام 2018م، بل تقدمت فراسخ وليس خطوات متعدية أعناق المصلّين وغير المصلين في الأمة العربية والإسلامية بل وبكل ثقة وإقدام.
حيث قدّمت أواخر العام 2023م (في 29/12) وإثر"مقتلة غزة" التاريخية، طلبا لرفع دعوى ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية، على خلفية تورطها في "أعمال إبادة جماعية" ضد الشعب الفلسطيني البطل بقطاع غزة الإباء.
جمهورية جنوب إفريقيا تدفع ضد الإسرائيلي "بارتكاب جرائم حرب ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، كما تعرّفها معاهدة جنيف 1948، إنها إبادة جماعية وتطهير عرقي في الوقت نفسه" كما يشير الكاتب مأمون فندي.
وبالرد على الطلب الجنوب إفريقي قالت محكمة العدل الدولية إن:"الطلب المقدم يتعلق بانتهاكات "إسرائيل" المزعومة لالتزاماتها، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة".
كما طلبت جمهورية جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية "الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل الحماية من الضرر الإضافي الجسيم وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، ولضمان امتثال "إسرائيل" لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها، والمعاقبة عليها".
ولأهمية الفعل الجنوب إفريقي الكبير، وحجم تأثيره فلقد نشرت قناة "مكان 11" الإسرائيلية، مساء الجمعة 5/1/2023م، أن "إسرائيل" تخشى أن تصدر محكمة العدل الدولية أمرًا يلزمها بوقف العمليات القتالية. ورغم عدم وجود إمكانية عملية لتنفيذ مثل هذا الأمر، إلا أن الاستعداد لها يرجع إلى التبعات السياسية الكبيرة لهذه الخطوة.
وكما ذكرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية فإن جنوب أفريقيا تدعي في بداية الدعوى أن "الأدلة على النية المحددة للمسؤولين الإسرائيليين لارتكاب أعمال إبادة جماعية مهمة وواضحة منذ أكتوبر 2023".
من دلائل الإدانة للإسرائيلي
وقامت جنوب أفريقيا، بالدعوى ذات (ال84 صفحة متقنة السبك والأدلة) بتفصيل التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في عدد من المناسبات، وسلطت الضوء، من بين أمور أخرى، على الحالات التي شبّه فيها الحرب ب"قصة العماليق التوراتية" – في رسائله وخطاباته. كما أشار لها أيضًا عضو الكنيست "بوعز بسموت"، ورئيس الدولة "يتسحاق هرتسوغ"، ووزيرالأمن "يوآف غلانط"، ووزيرالأمن القومي المتطرف والعنصري "إيتمار بن غفير"، ووزير الخارجية "يسرائيل كاتس" وغيرهم. وتم ذكر تصريحات هؤلاء في الدعوى القضائية.
ومما هو جدير بالذكر أن التناخ (التوراة وملحقاتها) قد ذكرت قصة العماليق (العمالقة) بأكثر من طريقة تحرض لإبادتهم بشكل وحشي دموي بربري من مثل القول بالتوراة ما يشير له اليوم "نتنياهو" وصحبه بوضوح: "فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا". وحيث يشار الى أن العماليق القدماء كانوا قبيلة أو قبائل عربية أخرى، غير القبيلة القديمة المندثرة التي أسمها (بني إسرءيل) ويتم الإشارة للفلسطينيين اليوم أنهم المقصودين بالعماليق القدماء وبالتالي التحريض على قتلهم واجتثاثهم وإبادتهم.
كما أشارت الدعوى إلى تصريح وزير التراث "عميحاي إلياهو"، بإسقاط قنبلة ذرية على قطاع غزة! والوزير "آفي ديختر" وعضو الكنيست "أريئيل كيلنر" وغيرهما، اللّذين تحدثا عن تكرار "النكبة" بصيغة 2023. كما أشير إلى تصريحات عضو الكنيست "نيسيم فاتوري"، نائب رئيس الكنيست، التي تدل على نية "إسرائيل" الواضحة (وما تم تطبيقها عيانًا أمام مرأى العالم كله) ارتكاب إبادة جماعية.
كما أشارت الدعوى إلى تصريحات عضو الكنيست "تالي غوتليب"، وعضو الكنيست "أفيغدور ليبرمان"، وعضو الكنيست "غاليت ديستل أطبريان". فقد كتبت غوتليب: "فلتحترق قريتكم!! نعم، نعم، بالنسبة لي، من الجيد أن نتمنى محو غزة وإشعال النار فيها. لقد قلت عدة مرات – الانتقام قيمة"!؟
وكتبت "ديستل أطبريان": "كل أثر للمشاحنات الداخلية هو إهدار مجنون وغبي للطاقة. استثمروا طاقتكم في شيء واحد، وهو محو غزة بأكملها عن على وجه الأرض. فليطير وحوش غزة إلى السياج الجنوبي ويهربون إلى مصر – أو يموتون، يموتون بشدة. غزة يجب أن تُمحى".!
وكتب ليبرمان -واستكمالًا أيضًا لما ورد في "معاريف"-: "لا يوجد أبرياء في غزة". وأشير، أيضًا، في الدعوى، إلى عضو الكنيست "كاتي شطريت" من الليكود، التي قالت: "على المستوى الشخصي – كنت سأسحق غزة، ليس لدي أي مشاعر"!
وهكذا مع تصريحات وخطابات فاشية أخرى كثيرة تحضّ على الكراهية والحقد وتحض على الإبادة الجماعية قرأها وشاهد نتائجها العملية ودوّنها العالم "تم جمعها بدعم السلطة الوطنية الفلسطينية-حسب معاريف".
ومن مثل ما ردّده المغني الإسرائيلي "إيال جولان" والمطرب "كوبي بيرتس" بضجة وفرح عارم وحقد بيّن: "فلتحرق قريتهم، فليتم محو غزة". ومن مثل تعليق المعلق (الإيراني اليهودي) المتطرف "إلياهو يوسيان" الذي قال في مقابلة غاضبة: "لا يوجد سكان في غزة، هناك 2.5 مليون إرهابي، وبالتالي لا معنى لـ 'الطرق على السطح'."!؟.
ولننظرالى خطاب الإرهابي المخضرم في عصابة "ليحي/شتيرن" الصهيوني الإرهابي، عزرا يخين ( 95 عامًا أو أكثر، وهو من شارك شخصيًا في مذبحة دير ياسين عام 1948م)، الذي تجند في الاحتياط، وقال في شريط مصور: "اقضوا عليهم، قدر الإمكان. لا تتركوا لهم أي أثر. لا لهم، ولا لأمهم، ولا لبناتهم، ولا لأطفالهم. يمنع السماح بالعيش لهؤلاء الحيوانات"!؟
وكان قد قال أيضًا: "يجب أن يكون كل يهودي مسلحًا ويقتلهم، إذا كان لديك جار عربي، فلا تنتظر، اذهب للمنزل وقتلهم هاجمهم وهاجمهم..نريد أن نحتل، لكن ليس مثل السابقين، نريد تدمير كل ما يأتي أمامنا، نريد تدمير منازلهم واحدا تلو الآخر"!؟.
وبامكاننا أيضًا تأمل ما قاله وزير الحرب الإسرائيلي "يوآف غالانت" منذ بدء الاحداث (9/10/2023م) حين وصف الفلسطينيين في قطاع غزة بـ "الحيوانات البشرية"، وأعلن بداية التطهير العرقي أوالإبادة الجماعية حيث فرض حصارًا كاملًا على الفلسطينيين في قطاع غزة وقال بصلف وحقد وتحريض غير مسبوق: "نحن نفرض حصارا كاملا على مدينة غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود. كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك"!؟
"الهولوكوست" والإبادة الجماعية
حسب موسوعة "الهولوكوست/المحرقة النازية" فإن مصطلح "الإبادة الجماعية" لم يكن موجودًا قبل عام 1944. هذا المصطلح (ابتدعه المحامي اليهودي رافائيل ليمكين) له مدلولٌ خاص جدًا، حيث أنه يشير إلى جرائم القتل الجماعي المرتكبة بحق مجموعات معينة من البشر بقصد تدمير وجودهم كلياً. وأقرت الأمم المتحدة لاحقًا اتفاقية تقضي بمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948. واعتبرت هذه الاتفاقية "الإبادة الجماعية" بمثابة جريمة دولية تتعهد الدول الموقعة عليها "بمنعها والمعاقبة عليها". [الإبادة الجماعية] تعني ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أوالجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أوالجنس أو الدين-كما تذكر موسوعة "الهولوكوست"- مثل:
(أ) قتل أعضاء الجماعة.
(ب) إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
(ج) إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليًا أو جزئيًا.
(د) فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
(هـ) نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.
الى ما سبق يعرّف "نظام روما الأساسي" المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، الإبادة الجماعية بأنها "ارتكاب أفعال معينة على نطاق موسع، يتم تنفيذها بقصد القضاء على مجموعة، كليا أوجزئيا، بناء على هوية هذه المجموعة القومية أو الإثنية أو العنصرية أو الدينية".
الكاتب مأمون فندي يكتب متسائلًا ان: "أهم ما في هذا الحدث التاريخي هو تسليط قمرات الإعلام، وتركيز العقل الجمعي العالمي تجاه سردية جديدة في هذه الحرب أساسها القانون الدولي وليس دعاية الأطراف، فهل ستعزز هذه المرافعة العدالة الدولية أو تزيد من تعقيدات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتزيد من تعنت الولايات المتحدة التي هي شريك أساسي في الحرب على غزة؟"
إن يوم الخميس الموافق 11/1/2024م حيث تنعقد محكمة العدل الدولية للنظر بالقضية التاريخية المرفوعة ضد "إسرائيل" من جنوب إفريقيا، سيكون يومًا مشهودًا ومفصليًا لاسيما وأن الإسرائيليين المرعوبين من المحكمة قد عينوا من طرفهم محاميًا انجليزيا معروفًا هو الخبير البريطاني في القانون الدولي، البروفيسور مالكولم شو ومحامين آخرين.
والى ذلك حاولت الإدارة الصهيونية تهديد "السلطة الفلسطينية" ودفعها لمنع او اقناع جنوب إفريقيا لسحب الدعوى أو الالتماس؟! لكنها بالطبع فشلت فشلًا ذريعًا.
وأضافوا لل15 قاضيًا بالمحكمة -كما تقتضي القواعد- القاضي أهرون باراك (متقاعد حاليًا) ، الذي كان قد اتهمه اليمين الإسرائيلي على إثر مظاهرات التعديلات القضائية بأنه "عدو الأمة"! وهو الذي كان قد ملّ تسلط اليمين واصفًا النظام السائد في "إسرائيل" حاليا بأنه "ديمقراطية استبداد ودكتاتورية الأغلبية"، ما يعني برأيه أن الديمقراطية تمارس بين اليهود عموما وبين اليمين خصوصا.
نصر فلسطين وجنوب إفريقيا؟
مما يجدر ذكرة بأهمية وقوة الخطوة النضالية الجنوب إفريقية المقدامة والشجاعة أنها في المرحلة الأولى من الإجراءات في لاهاي، ستعني بإصدارأمر مؤقت، يأمر "إسرائيل" بوقف القتال في قطاع غزة على أساس أن أفعالها هناك تشكل إبادة جماعية.
وإذا أصدر القضاة مثل هذا الأمر، فإن الهيئة التي يمكنها تنفيذه نظريًا هي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من خلال العقوبات. ومن المهم ذكره أنه للمرة الأولى يتم رفع مثل هكذا قضية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية مازالت قائمة، أمام بصر العالم كله، ولم تتوقف!
ومن المعلوم أنه من شأن الأمر المؤقت أن يثبت الادعاء بأن "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية في القطاع الفلسطيني المكلوم، مما يتسبب في عزلتها السياسية ومقاطعتها، وفرض عقوبات عليها أو على الشركات الإسرائيلية، وعقوبات إضافية على الساحة الدولية.
وكما يقول محمود مجادلة مضيفًا فإن "طلب جنوب إفريقيا إصدار أمر منع من المحكمة بوقف حربها على قطاع غزة بادعاء أن عملياتها تؤدي إلى إبادة جماعية، وهو أمر حتى لو اصطدم لاحقا بالنقض "الفيتو" الأميركي في مجلس الأمن من شأنه دمغ "إسرائيل" بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة وعزلها دوليا وفرض مقاطعة عليها أو على شركاتها وتعريضها لعقوبات في الساحة الدولية."
وقبل أن نقول لماذا جنوب إفريقيا؟ يجدر الإشارة الى أن بوليفيا (بوليفيا دولة غير عربية وغير مسلمة في امريكا الجنوبية، مثل جمهورية جنوب إفريقيا!) بالشراكة مع جنوب أفريقيا وبنغلادش وجزر القمر وجيبوتي تقدمت في الـ17 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدعوى إلى محكمة الجنايات الدولية للتحقيق حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية.
ومشيرين باهتمام واحترام وتقدير لتأييد بوليفيا (في 8/1/2024م) والمملكة الأردنية الهاشمية لدعوى جنوب إفريقيا ضد الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية.
لماذا جنوب إفريقيا دونًا عن سائر أمم الأرض؟! وبالنيابة عن شعوب تجمعها مع فلسطين عشرات الروابط والوشائج سواء الدينية أوالقومية أو التاريخية او الحضارية أو الاجتماعية أواللغوية…الخ!؟
إن رفع الدعوى الحقوقية هذه تؤكد أولوية وأهمية وعِظم الروابط القوية وطويلة الأمد بين نضال التحرير الذي خاضه السود في جنوب أفريقيا ونضال الشعب الفلسطيني، وأيضًا منذ أقام ياسر عرفات جسرًا لم يتوقف للعلاقات المميزة مع إفريقيا عامة، ومنها نضاليًا وثوريًا مع جنوب إفريقيا، كما أنها تشير إلى رغبة البلاد في تحدي النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة كما تحداه الفلسطينيون لأكثر من مرة، والذي تعتبره غير عادل للمصالح الافريقية وغير الغربية.
سؤال محق وجواب يُعلي من قيمة المباديء السامية، وقيمة الاخلاق الدافعة، وقيمة التجربة المماثلة حيث الاكتواء بنار العنصرية الغربية الاستعمارية البغيضة و"الأبارتهايد"، ويظهر عميق المعاناة الانسانية (أنظر دينيًا فكرة الجسد الواحد عند النبي الأعظم).
وجواب يُعلي من معنى الاحساس الفعّال والإيجابي الذي يسرى في أوصال البشر، أي كان من البشر بغض النظر عن عقيدتهم او جنسهم أو لونهم…، ممن يمتلكون من الإيمان والاحساس ما يدفع للعمل والعطاء فيشحذون الإرادة ويتحدّون الصعاب ويُقدمون على خطوة أو خطوات رسالية نضالية ذات ديمومة، وليس كما يفعل المتشنجون المتهيّجون السلبيون المستسلمون للأرقام، والغيبيات دون أدنى فعل، أو ضمير أو دين يدفعهم للعمل، أو من يقومون بمجرد الدعاء (دون قطران محمد عليه الصلاة والسلام)، أو يجابهون العدوان بالتنفيس فقط عبر الشتم، أوالعويل وكفى الله سبحانه هؤلاء الناس شرّ القتال!
وفي إطار التضامن والوعي الانساني هنا من الممكن الإشارة أيضًا الى أنه شارك نحو 400 مثقف وناشط إسرائيلي بالتوقيع على عريضة أعربوا فيها عن مناصرتهم لدعوى جنوب إفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية. وكما فعل عضو الكنيست الشيوعي "عوفر كاسيف" مستنكرًا أفعال الحكومة اليمينية الذي قال أن وزراء الحكومة يدعون لتطهير عرقي وإبادة شعب تماما. وهؤلاء هم من يُلحقون ضررا بالدولة والشعب، وقادوا جنوب إفريقيا إلى العدل الدولية.
كما يمكن أن نشير أيضًا بالسياق الى ما فعلته دول أمريكا الجنوبية البعيدة جغرافيًا عنّا! التي فعلت ما لم يفعله العرب الموقعون على عريضة (ابراهام/ترامب) فقطعت أوقلصت علاقاتها مع الإسرائيلي من بوليفيا وكولومبيا وفنزويلا وتشيلي وهندوراس ومملكة بليز.
وما حصل أيضًا مؤخرًا من رفع دعوى من أبطال تشيلي الميامين، حيث أقام 100 محامي من جمهورية تشيلي (بعيدة عنا أيضًا هناك في أمريكا الجنوبية) شكوى ضد "نتنياهو" والعصابة المتطرفة أمام المحكمة الجنائية الدولية، ومطالبين باعتقاله وكل المسؤولين عن الحرب على قطاع غزة.
لماذا جنوب إفريقيا –تأكيدًا ختاميًا لما سبق- يشير لأهمية وعظمة العلاقات النضالية الثورية المبدئية الخارجية بين الثورة الفلسطينية والنضال الجنوب إفريقي، ويشير الى عمق الاحساس العالي بالظُلم المشترك ومقاومة الاحتلال والاستبداد، كما يشير الى أهمية التضامن الأممي الساعي نحو السلام والحرية لكافة الشعوب.
شكرًا جنوب إفريقيا بلد النضال والمباديء حتى يستوفي الشكر حقّه. وفلسطين لا تنسى مطلقًا، والله معنا.