عمر مراد
أمد/ شعر الفلسطينيون بالنصر والفخر بالعملية الفدائية البطولية العميقة في السابع من اكتوبر “طوفان الأقصى” والعبور العظيم.
وعمّ الفرح الفلسطيني كل الشعب ومسانديه، واستبشر أهالي الأسرى بالسعادة الغامرة والأمل القريب بتحرير أبنائهم النسور جراء أسر العشرات من العسكريين الصهاينة.
وأثلجت صدور أهالي الشهداء وردّت الروح اليهم نظرا للقصاص العادل من الغاصب والقاتل وما تعرض له من خسائر وإرباك وربما انهيار، ونظرا لوفاء الرفاق والفدائيين بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم لأرواح ودماء الشهداء بالسير على درب الحرية والفداء وتحقيق الأهداف والأماني التي قضوا من أجلها.
وما أن بدأت الحرب على غزة بدأ القلق والتوتر والإستعداد والتحدي وكثرت التساؤلات والتنبؤات حول الأخطار المحدقة، مع بدء تحديد قادة الكيان الصهيوني لأهداف الحرب والعدوان وإمكانية الذهاب بها بعيدا في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، أي قتل الفلسطينيين وتدمير مقومات حياتهم وإقتلاعهم من أرضهم وطردهم أو تهجيرهم منها.
ما أن بدأت عمليات القصف وغارات الطيران والتدمير الممنهج والقتل العشوائي وتحديد مناطق الإخلاء للسكان ومناطق النزوح، إلا وأخذت مشاعر وعواطف وعقول الناس منحى آخر تخبو فيه نشوة الإنجاز، وتطفو على السطح أسئلة البقاء والنزوح، والحياة والموت، أسئلة الأرض والوطن، أسئلة الثبات والصمود، أو الخضوع والإستسلام، أسئلة المصير المجهول، أو التضحية والمقاومة.
الإنسان الفلسطيني في ظل الحرب وفي دائرة الإستهداف حياته وأهله وأبناؤه وأرضه وبيته وأملاكه ومستقبله وأمله في خطر، فالخيارات أمامه صعبة ومعقدة ومكلفة.
تحضر هنا أيضا أسئلة النكبة عام 1948 ،مأساتها ودروسها، وأسئلة الماضي والحاضر والمستقبل وأسئلة الوفاء والخذلان.
أدرك الفلسطينيون في غزة أنهم أمام نكبة جديدة ولكنهم يرفضون تكرار تلك الكارثة التي حلّت بأجدادهم قبل خمس وسبعين عاما. لقد إتخذوا قرارهم بضرورة مواجهة نكبتهم هذه في أرضهم، وليس بعيدا عنها، في فلسطين وطنهم وليس خارجه ولو كلفهم ذلك أرواحهم وحياتهم وكل ما يملكون ،غير مكترثين بالتباكي الدولي المزعوم، الذي لم يقدم لأهل غزة إلا الفتات من الغذاء والقليل من الأدوية وأكوام من الأكفان والخيم. لكنه قرار البقاء والثبات، قرار الإنتماء الأصيل والوطنية الخالدة بعينها، القرار الذي إحتضنه أحرار العالم وشعوب الأرض المناصرة للحق والعدل والحرية وفي المقدمة منهم فدائيو لبنان واليمن والعراق.
أما القلب ومرارة ما يبوح به النبض وما بين الضلوع من خفقان مرتبك ومضطرب لم يشكل سوطا على العقل ولا إشعارا للوهن والضعف أو مؤشرا للنيل من الإرادة والعزيمة أو من القدرة على حسم الخيار وإتخاذ القرار، بل هي في جوهر الطبيعة البشرية وحقيقة المشاعر الإنسانية، فالقلب إذاً بقدر ما هو مملكة الحب والفرح، فهو مملكة الحزن والقهر.
إن هدم البيوت والأبنية والأبراج على رؤوس ساكنيها وقتل من فيها من أطفال و نساء وشيوخ وغيرهم، هو مشهد لحجم وبشاعة الجريمة التي لا يكتمل توصيفها دون سبر أغوارها وهول فظاعتها، أي دون معرفة من الذي قتل ومن بقي حيا، ومن تم إنقاذه وإسعافه ومن أدركه القضاء قبل الوصول اليه، ودون معرفة عمق الجروح وتشوهات الحروق والإصابات، وما فقده من أطرافه سواء أيادي أو أرجل، أو حتى من فُقئت عيناه أو من تقطّع جسده وتطايرت أشلاؤه وتعذر التعرف عليه أو من لازال جسده محطما ومتحللا تحت الأنقاض.
يا ترى ما هو حال الأب الذي يبحث عن أحد أبنائه؟ أو حال الأم التي تفتش عن طفلتها وتستغيث بالناس لإخراجها من تحت الركام، تنادي و تصرخ “هنا هنا لقد سمعت صوتها”، وبعد قليل تقول “ماتت البنت، والله كأنها ماتت لم أعد اسمع صوتها، ولكن أخرجوها،أريد رؤيتها وتقبيلها وثم اغسلها، وأنا بنفسي سأدفنها”.
أو ذلك الشاب الذي يساعد بإنقاذ جيرانه ويقول “الحمدلله انا أهلي، أبي وأمي وأختي ماتوا كلهم لكن الله اكرمني، واستطعت إخراجهم من تحت الأنقاض، وأيضا تمكنت من الصلاة عليهم ودفنهم”.
وذاك الفتى الذي عاد من المخبز “الفرن” يحمل ما تيسر من خبز أهله اليومي بيديه ووجد دارهم والبناية كلها مدمرة ومحطمة على الارض يصرخ “أين بيتنا وأين أهلي والله قالوا لي لاتتأخر نريد تناول الافطار وثم ننزل إلى قبو البناء …أين هم منشان الله فتشوا وإبحثوا معي “… ونادى على ولد من أبناء جيرانه قائلا له “تعال وخذ الخبزات أنا لا اريد الطعام ولا الخبز، راحوا أهلي كلهم ماتوا ولكن نريد إنتشالهم وسحبهم، ميتين ميتين الله يرحمهم” …
وتلك أم تقف فوق رأس إبنها أثناء خضوعة لعمل جراحي بدون تخدير “بنج” في ممر المشفى وهو يتألم ويصرخ، وهي تبكي وتتلوى ثم تسقط أرضا …وما أن تصحو من الدوار “الدوخة” حتى يأخذها السؤال عن إبنها وبصوت مكلوم “هل مات ؟ فقط اريد رؤيته” فكان جواب المسعفين “لا لا وضعه جيد وهو بخير” فشكرتهم وشكرت الله وهي تجهش بالبكاء وتمسح دموعها.
يترافق مع آلام الفقد هذه أوجاع وعذابات الحياة في الخيام وبقايا المساكن المهددة أو المتهالكة، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا غذاء ولا دواء ولا وقود وأيضا لا عمل ولا أسواق ولا مشافي كما كان، ولا ما يلزم للإستشفاء رغم إنتشار الأمراض البيئية ومختلف الأوبئة، ولا حضانات أو رياض أطفال ولا مدارس أو جامعات ولا تعليم، ولاشوارع أو طرقات ولا وسائل أو وسائط نقل، كل شيء متعثر أو معطوب أو مفقود…. فقط هو البرد والخوف والجوع والطين والانتظار، وبين الألم والأمل إرادة صلبة وعزيمة لا تلين، عقيدة متجذرة وثبات عميق وراسخ ..
وفي ظلمة البؤس والتشرد، وجراحات الفقد والمصابين والمفقودين وفي ظل هذا الوجع المركب، هناك من يصنع صبحا ومن يرسم من الأنفاق والثغور خارطة المستقبل الفلسطيني الحر الجميل لتغدو فلسطين وجها مشرقا لعالم يسوده العدل ويعمه السلام، لا ظلم فيه ولا صهيونية أو عنصرية في أحشائه.
وتتحول عذابات غزة غدا الى حدائق وبساتين وأنوار، وتنبت الدماء والأشلاء ازهارا وورودا وسنابلا، وتعيد للشعب والوطن عزا ومجدا طال إنتظاره.