صالح عوض
أمد/ مناخ ثقافي جديد
الطوفان: انقلاب المفاهيم وتحطيم المسلمات
لن أبدأ من كلام المؤرخ الإسرائيلي وأستاذ كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة “إكسيتر” البريطانية، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية”البروفيسور إيلان بابيه” حول اشارات انهيار المشروع الصهيوني.. فذلك شأن له مجاله التقني والتخصصي مع أهميته ووجاهته المستقبلية.. لكني أيضا أجد من الضرورة الانسحاب قليلا من الألم والفاجعة كما من صوت المتفجرات وقصف الاليات فهذا واقع يومي تتناقله وكالات الانباء.. ننسحب من رؤية الواقع الميداني كما من استشراف المستقبل لنقرأ المشهد بكل أبعاده وفصوله وما صنع في المسلمات والثوابت في الوعي الجمعي وما فعل بثقافة وادراك الجيل المعاصر على ضفتي الصراع.. انه احدث انقلابا كاملا في جملة مسلمات تحكمت في وظيفة غزة كما في طبيعة العدو.
مسلماتنا التي تحطمت:
لقد ساق لنا الكثيرون من الساسة والعسكريين على مدار عشرات الناس جملة مسلمات أصبحت حائلا دون التقدم خطوات ذات مغزى وجدوى في اطار المقاومة ضد الاستعمار الصهيوني..
وأول هذه المسلمات: أن غزة ساقطة عسكريا وأمنيا، وأنها لا يمكن أن تحقق أي نوع من مواجهة مؤثرة وموجعة للعدو.. ولقد أحال هذا الرأي الموضوع الى أن غزة مساحة صغيرة لا جبال فيها ولا تضاريس تسمح بتحرك المقاومة و توفير المواقع الأمنة، ثم إن هذا الشريط الضيق محاصر من كل الجهات برا وبحرا شمالا وجنوبا وشرقا ليصبح فيما يشبه السجن تتحكم فيه عدة معابر تقع عمليا جميعها تحت اشراف و تدقيق أمني اسرائيلي..
جاء طوفان الأقصى ليسجل أطول حرب تخوضها القوات الصهيونية وأن هذه الجغرافيا الصغيرة استدعت اجتياحا بريا قامت به مئات الاف الجنود مزودين بطيران عسكري على مدار الساعة وترفدهم قوة بحرية مدعمة من قطع بحرية امريكية والمانية..
وهكذا نكتشف أن مقولة غزة ساقطة عسكريا وأمنيا تبخرت عندما أبدع العقل الفلسطيني بتحويل غزة الى طبيعة أخرى تتحرر من شروط المساحة الضيقة كما أعلن قادة جيش العدو أن الانفاق في غزة تفوق عما كان متوقعا باكثر من 600 بالمائة.. وان الدور الذي لعبته الانفاق غير مع المعادلة تماما فلم يستطيع الجيش الصهيوني سحب المقاومة الفلسطينية الى ميدان مواجهة يكون له التفوق الاستراتيجي بل كانت الانفاق قادرة تماما على منح المقاومة عناصر تفوق غير خاضعة للاختراق او السيطرة من قبل العدو..
في مهماتها اما التصنيع العسكري او الاختباء او الانطلاق للعمل العسكري او سوى ذلك كانت الانفاق قادرة على سحب العدو الى ميادين لا يمكن الا ان يكون هو في خندق الدفاع فيما تمتلك المقاومة القدرة على مواصلة عملها باريحية عالية مزودة بعنصر المفاجأة
ثاني المسلمات: لسبب ان فلسطين عربية وهي ارض مباركة فهي بذلك تعني كل عربي وكل مسلم ولسبب أن العدو لايقتصر على العدو في الكيان الصهيوني بل هو عبارة عن مجموعة قوى عالمية منها الحركة الصهيونية ولوبيات المال والعقائد المنحرفة والبرامج التخريبية على مستوى العالم.. لهذا السبب كان يظن أنه لايمكن للفلسطينيين أن يفتحوا معركة واسعة طويلة مع العدو الصهيوني الا بدعم عربي رسمي قوي في الميدان ، وباسباب مرتبطة بالدعاية منذ نشأت القضية الفلسطينية ظل الاعلام الرسمي من باب الخديعة يعلن أن فلسطين قضية العرب والمسلمين المركزية.. هذا ما جعل الانتكاسة عميقة بعد ان هرول النظام العربي نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني ولم يستطع صاحب القرار الفلسطيني أن يحسم أمره أنه لابد ان يأخذ الفلسطينيون على عاتقهم عبء الموجة الأولى العنيفة المكثفة .. وتداخل المنطقان بلا توقف وبرز السؤال: هل يمكن ان تتحرر فلسطين بدون العرب؟ و السؤال الأخر هل يمكن ان يكون اشعال مقاومة فلسطينية كافيا لجر العرب لمعركته؟ وظل هذان السؤالان عقيمين على مدار عشرات السنين فلقد جربنا الجيوش العربية التي لم تستطع ان تصمد في مواجهة الجيوش الصهيونية عشرات الايام ولقد لحق بها هزائم نكراء قبل ان تنسحب تماما من المواجهة مع الكيان الصهيوني وتتجه الى حالة سكونية لها مهمات من نوع جديد بعيد عن ساحات القتال لاسترداد فلسطين.. وكان لهذا الانسحاب الرسمي أو العملي للجيوش العربية من واجب الكفاح على الأقل أثره البالغ على السياسي الفلسطيني الذي تحرك نحو اتفاقيات هزؤ لتسوية سياسية متنازلين عن 80 بالمائة من ارض فلسطين ولم يقبل منهم ذلك وتم ارهاق السياسي الفلسطيني وخياره السلمي وتحولت الاتفاقيات الى غطاء يتم تحته اعنف هجوم استطياني في الضفة الغربية وعمليات منظمة لتهويد الاقصى وتشريد اهل القدس..
جاء طوفان الأقصى يقول بوضوح ان انتظار الجيوش العربية لتحرير فلسطين او المساعدة في ذلك لاسمح الله أمر في غاية السخافة ومن غير الاخلاقي والوعي انتظار ذلك.. لهذا كان لابد من اعداد على عدة مستويات لصناعة حالة قادرة ان تواجه الهجمة الصهيونية لفترة طويلة تلحق بها خسائر على عدة مستويات.. ولقد استطاع طوفان الاقصى أن يظهر قدرة كبيرة لدى الشعب الفلسطيني واقتداره على صنع واقع سياسي وميداني مقتدر..
ثالث المسلمات:
بعد اوسلو تم ادخالنا دوامة الانتخابات وبناء مؤسسات دولة!! سلطة ومجلس تشريعي وما ينشا عن ذلك من لواحق ادارية ودبلوماسية الى درجة الاستكانة الى واقع متكلس.. ففي حين يواجه الواقع الفلسطيني تضييقا ماديا مستمرا لعدة اسباب منها اتفاقية باريس الاقتصادية التي ترهن اموال الفلسطينيين لسلطات الاحتلال.. برغم ذلك يتم توجيه الاف الموظفين الى قطاع العمل الدبلوماسي في أكثر من 100 دولة برواتب ومصروفات يستنزفون اموال السلطة بمردودية تكاد تصل الى فوق الصفر بقليل.. بالاضافة الى الوزارات والسلطات المتنوعة والانفاق غير المبرر في كثير من القطاعات.. يجيء هذا محملا بثقافة الاسترخاء والتنافس المصلحي كأننا في دولة وسلطة، رغم تكرر الكلام من اعلى رأس في السلطة أننا سلطة بلا سلطة.
لقد أصبح الثابت في واقعنا الفلسطيني اننا نتكلس ونفقد جزءا منا في كل يوم جديد واننا نتآكل فيما العدو يتحرك مثل السرطان.. فجاء الطوفان ليتجاوز الموجود كله جاء ليقول ان قادة الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة ما كان ينبغي أن يظهروا للعلن وان عليهم العمل بقوة لتقويض الاحتلال وان يواجهونه بقوة لايقاف تغوله على الاقل.. جاء الطوفان ليغير المفاهيم ويلقي بقوته في الساحة الفلسطينية ليجدد معنى القضية الفلسطينية انها قضية شعب تم تهجيره بالعنف والجريمة وانه ينبغي ان يتحرك كلما استطاع ليقاوم المجرمين المغتصبين.. ولم يعد أحد يقرر مصير الشعب الا المقاومة.
ثوابتهم التي تكسر:
في المقابل تكسرت ثوابت حاولت الالة الصهيونية تكريسها في ثقافة الجميع، اولها العقيدة العسكرية الصهيونية حيث كان الجميع يكررها وكأنها مسلمة لا يمكن تكسيرها حيث كانت العقيدة العسكرية ترتكز على عناصر ثلاثة اولها الحرب على ارض العدو، والارض المحروقة، الحرب الخاطفة.. ولعلنا اكتشفنا بوضوح أن الحرب لم تكن على أرض العدو فلقد كان يوم 7 أكتوبر مشتعلا في قواعد الجيش الصهيوني وفي أماكن تحكمه، ثم إنه رغم كل نيرانه الا انه لم يستكع تحويل ارض المقاومة الى حريق، وكذلك فإن الحرب لم تكن خاطفة رغم غزارة النيران والقصف بكل انواع الذخائر فلقد استمرت الحرب 100 يوم وزيادة دون ان يحقق الجيش أيا من أهدافه المعلنة وهكذا اصبح الجيش الصهيوني كتل قتالية بلا عقيدة عسكرية.
ثانيها حقيقة الجيش الصهيوني، حيث كانت الدعاية الصهيونية وحليفاتها في الدوائر الاعلامية الاستعمارية تروج للجيش الصهيوني أنه جيش لايقهر لما يتمتع به من لياقات عديدة وما يتزود به من تفوق استراتيجي في الأسلحة، وانه جيش منتصر دوما لاسيما على جيوش العرب الذين لم يصمدوا امامه عشرات الايام، فجاء طوفان الاقصى ليقول بالملآن ان الجيش الصهيوني هش رغم تفوقه في نوعية السلاح، جاء فيضان الاقصى ليقول بوضوح أن هذا الجيش ليس لايقهر بل يقهر ويمكن ان تلحق به هزيمة كبرى يتكسر بموجبها.. والكذبة الاخرى التي روجوا لها ان هذا الجيش اخلاقي ويلتزم بالضوابط العسكرية فظهر الجيش على حقيقته بفعل قوة طوفان الاقصى التي اعادته الى طبيعته مجرما منحط فاقد لاي معيار اخلاقي.. لم يستطع الجيش الصهيوني الالتزام بتمثيل دور الاخلاق وهو يرى أن هناك انهيار واسع في كل القطاعات التي تبدو في حالة تشظي عميق.
ثالث الاصنام التي كسرتها موجات طوقان الأقصى هو حقيقة الكيان الصهيوني ومؤسساته فلقد وصل الحد الى تعميم معلومات عن الكيان بأنه يقوم على الديمقراطية وانه جيشه مهني ويحتكم للقوانين فيما بينه ولعل كل من يراقب ويتابع الان يكتشف انه ليس هناك مجتمع ولا دولة ولا قيادة للتجمعات الصهيونية انما هناك رؤساء عصابات يمثل كل منها وزير او وزيرين دوما تنشب بينهم الخلافات والصراعات التي تصل الى حد الموت وجاء طوفان الاقصى ليكشف عن طبيعة هذه التجمعات البشرية انها عنصرية مشتتة وان القيادات الصهيونية متنافرة ولم تعد تلك السمعة التي تم ترويج واسع لها.. انه ارتكب كل ما يجعله خارج عن القانون الانساني.
انه كيان بلا ديمقراطية وبلا انسانية في داخله فهو يقتل الاطفال والشيوخ والعجائز.. انه كيان بلا هدف حقيقي سوى تطهير فلسطين تماما من الشعب الفلسطيني، وهنا تتقدم قضيتنا خطورة بخطوة عن كفاح جنوب افريقيا، ففي جنوب افريقيا واي بلد أخر انطلقت فيه مقاومة لم يتعرض الشعب الى حالة تهجير وابادة بمثل هذا الاصرار الصهيوني.. وهنا تبرز قيمة جلب قادة الكيان الى محكمة العدل الدولية لاسقاط ورقة التوت عنهم وانهم لم يعودوا الضحية بل هم المجرم الذي تجاوز بجرائمه مافعله هتلر.
منظومة مفاهيم جديدة لنا ولهم.. هكذا تتعدل المعادلة وتصبح أكثر انسجاما مع الجيوبوليتيك وهكذا نسير نحن وهم في اتجاه لابد منه،انها مرحلة مقاومة شعب مظلوم ضد الظالمين والقتلة.. لقد ولت مرحلة الفوضى والتزييف والبروبوغندا الهوجاء والافكار المعلبة.. واصبحنا نحن وهم أمام عناصر معادلة على طرفيها تقف المفاهيم عملية ودقيقة وحقيقية.. اكتشفنا نحن وهم المعادلة الحقيقية شعب يقاوم الاستعمار بكل مايلزم.